29

20 0 00

أخرجت ريم حجة البيت بأصابع مرتجفة و قرأت فيها عبارات قديمة لكنها واضحة عن ملكية البيت لأسرة القاسم ، الحجة تعين تماما موقع البيت و مساحته ، شعرت ريم

أنها تمسك كنزا ، دق قلبها بشدة و هي تعيد الوثيقة إلى مكانها و تعاود النظر في الصورة غير الواضحة للبيت القديم ، كانت النخلة الطويلة التي تحدث عنها أبوها

تبدو في الصورة كمئذنة عملاقة نبت في أعلاها سعف •• قالت ريم و هي تحتضن الأوراق :

 رحمة الله عليك يا أبي •• التفتت إلى أمها و قالت بحماس باك :

 إن هذه الوثيقة كنز يا أمي ، كنز •• فقالت الأم و هي تتنهد :

 أوصاني أبوكم أن أعطيها لكم حين يموت ، كان هذا قبيل سفره ، لم أتذكر إلا اليوم •• لكن ماالجدوى منها ؟قالت ريم و هي تحتضن الأوراق :

 يكفي أنها من رائحة أبي ، يكفي أنها قطعة من روحه •• هل يمكن أن أحتفظ بها ؟ فقالت الأم و هي تنهض متثاقلة :

 خذيها إن كان فيها بعض العزاء لك •• وضعت ريم الأوراق بحرص في الحقيبة و أغلقتها برفق ثم اتجهت بها إلى غرفتها وضعتها في خزانتها الخاصة و أغلقت عليها ثم عادت

تلملم أغراضها بذهن شارد •• *** طيلة الرحلة إلى الحدود بواسطة الحافلة كانت ريم ساهمة ، حاول بعض الزملاء الحديث معها فكانت تبتسم مجاملة ثم تعود لشرودها ،

تفهموا سبب الشرود ، فلم يلحوا عليها ، كانت لحظات قاسية تلك التي تنتظرها ، تذكرت يوم وقفت على الحدود في رفح أمام الأسلاك الشائكة ، تنهدت ، لقد كان يوما

عصيبا •• انتبهت على صوت نفير سيارة صغيرة تسير بمحاذاتهم ، نظرت من الشباك ، كان سعيد •• هزت رأسها و ابتسمت ، أشارت له فعاود تحيتها بالنفير ، سألوها عنه

فأجابت باسمة :

 ولي أمري ••أوقفوا الحافلة و تفاهموا معه على عدم منطقية الوصول للحدود بهذه السيارة الصغيرة ، اتفقوا معــهعلى أن يضــــع سيــــارته في أقـــرب استراحة

و يركــب معهم إكراما لريم •• و عرضوا عليها إن أرادت مرافقته حتي يركب معهم ••نظر إليها راجيا أن توافق ، هزت رأسها ، و غادرت الحافلة ، تركت أغراضها فيها

و ركبت بجواره •• حرك سيارته راقصا بها في الطريق فقال نفرا في الحافلة :" هذا رجل محب " تنهدت ريم و هي تستقر بجوار سعيد و قالت :

 مجنون !!قال و هو يطلق ضحكة حبور صافية :

 أحبك ••!! تحدثا كثيرا ، طرقا كل المواضيع ، إلا موضوع القلب ، حذرته ريم منذ البداية ألا يتحدث عنه أعطى وعده و وفى به ــ في العبارات على الأقل !! ــ و

بسرعة طوت الأرض نفسها عن الاستراحة ، ركن سيارته و ركبا الحافلة معا ، انعكس مرحه على جميع من فيها، ربطتهم بسرعة مودة الطريق ، مودة قادرة على كسر كل الحواجز

حتي بين الأغراب ، كان يترك كرسيه بجوار ريم أحيانا استجابة لنداء يأتيه من آخر الحافلة فيذهب إليهم يجلس بينهم ، يترك للسانه الحرية في التعبير عن حبه لريم

، يستمتع بما يقول ، لا يضع لنفسه حدودا ، كان حديثه حلوا ، كانوا يستمعون إليه ، يطرقون هدوءا حتى يسمعون صوته المنخفض ، ريم كانت تنظر إليه أحيانا ، و تبتسم

عندما ترى انسجامه مع المجموعة ، تهز رأسها و تعود لكتاب في يدها تقطع به المسافة ، يعود إليها يجلس بجوارها يهمس :

 " وحشتيني "تبتسم و ترفع إصبعها محذرة ، فيضع يده بسرعة على شفتيه و يقول:

 آسف !!

عندما وصلوا إلى الحدود ، كانت خيام اللاجئين تبدو على البعد كشريط أسود كبير، خفق قلب ريم بشدة بينما تحركت بهم الحافلة بإتجاه ذلك الشريط ،

لم تنتبه ريم إلى إجراءات دخول قد يكون رفقاء الحافلة قد أنهوها ، كانت عيونها معلقة بهذا الشريط الذي بدأ يتلون و تظهر ملامحه كلما اقتربت الحافلة منه أكثر

 ، فجــــأة بــــرز بعض الرجـــال و كانوا يركضون بإتجاههم ، وقفوا أمام الحافلةعلى بعد حوالي مائة متر من المخيم ، اضطر السائق إلى كبح الحافلة بسرعة فأحدثت

إطاراتها زوبعة من الرمال ، أختفت الرؤية تقريبا خلالها ، و لما انقشعت الرمال الطائرة ، كان عدد من الرجال يحاولون فتح الباب ، فيما صرخ أحدهم موجها حديثه

للطالين من النوافذ :

 هل أحضرتم الدواء ، هل معكم أطباء ؟

لم تفهم ريم ما الذي يقوله الرجال فقط كانوا يتحدثون معا فتضيع عباراتهم مع صخبهم ، على أن قلبها استشعر خطرا ، نهضت بسرعة و اتجهت إلى الباب ، كان المشرف على

الرحلة مضطربا ، حذرها من التقدم نحو الباب و قال بارتباك شديد :

 يبدو أننـا أغفلــنا الجانب الأمني •• هؤلاء الرجال بهم مس من الجنون و قد يعتدون علينا ••

نظرت ريم من النافذة مجددا فلاحظـــت أن أعدادهم تضاعفت ، لم يكن يبدو عليهم جنونا و لكنه كان الغضب ، لاحظت إعياءً واضحا على الملامح فرق قلبها ، قالت للمشرف

أنها تريد النزول الآن فقال لها بعصبية شديدة أنه لا يستطيع ، لأنه لن يتحمل مسئولية هلاكها على أيدي هؤلاء المجانين •• نظرت من النافذة و راعها أن بعض الرجال

صاروا يخمشون الباب بأظافرهم ، و سقط أحدهم أمام الباب و هو يصيح بصوت واهن :

 افتحوا •• افتحوا •• صرخت ريم في المشرف و قالت له :

 افتح الباب الآن •• كان المصـــورون قد بدأوا في إلتقاط الصور من نافذة الباص ، و اندفع سعيد إلى ريم قائلا :

 ريم إهدئي •• لابد من تبين الوضع أولا قبل المخاطرة بفتح الباب •• لكن ريم التي كانت ترى في اندفاع الرجال حول الباص مأزقا و استجداء ، لم تستطع التحمل ، انقضت

على السائق و صارت تدق ظهره و هي تصيح :

 افتح الباب ، افتح الباب •• تحملها السائق و هو ينظر للمشرف في انتظار أوامره فتركته ريم و نظرت للمشرف برجاء و قالت و عيونها مغرورقة بالدموع :

 أتوسل إليك أن تفتح الباب ، سأنزل وحدي ، أنزلوني ثم أغلقوه فورا ، إن شئت كتبت لك إقرارا ، هؤلاء يشهدون علي •• صاحت و هي تواجه الجميع :

 ألا فاشهــدوا أنني أتحمل مسئولية نفسي ، و أن المشرف براء مما قد يحدث لي إذا نزلت •• عادت تنظر للمشرف و تتوسل برجاء :

 أرجوك ، افتح الباب ••أسقط في يده فأعطى للسائق إشارة و طلب من ريم الوقوف أمام الباب مباشرة ، امتثلت ريم بسرعة ، فتخطى سعيد الأجساد المكومة حوله و حاذى

ريم و هو يقول :

 سأنزل معك ••

كان يضع يده على كتفها ، فأمسكت بها ريم امتنانا ، و تأهبت للقفز من الباص بمجرد فتح الباب ، و كان لها ما أرادت •• في لحظــة كانت هي و سعيد أمام الرجال الذين

هجموا عليهم و تبينت ريم سؤالهم المتكرر :

 هل معكم طبيب ؟ هل أنتما طبيبين ؟ هل أحضرتم الدواء ؟ وقفت ريم واجمة و هي ترى تكالبهم عليهما ، تراجعت خطوة حتى لامس ظهرها جسم الحافلة ، ووقف سعيد أمامها

يحميها ، صاح بصوت جهوري :

 اهدأوا من فضلكم ، أرجوكم اهدأوا •• نريد فقط أن نعرف ماذا هناك ؟ صاح أحد الرجال و كان مثل الجميع يحمل وجها مغبرا ، مرهقا ، لا تخطيء العين الإعياء فيه ،

قائلا :

 مازلتم تريدون أن تعرفوا ؟!إذن لا فائدة ••أسقط ذراعيه و قال للرجال معه :

 لا فائدة يا جماعة •• يبدو أنهم صحافة ••تعالت صيحات الإستنكار ، و سمعت ريم بكل وضوح عبارات سخط و لعن و بدأ الرجال ينصرفون و هم يشيحون بأيديهم :

 هيا انصرفوا لا نريد صحافة •• من إحدى الخيام جاءت إمرأة متشحة بالسواد تركض و هي تصيح و تلطم وجهها :

 أبو محمد •• أبو محمد •• مات الولد ، مات الولد ••ركض أحد الرجال بقوة في اتجاهها و لحق به الباقون ، نظرت ريم إلى سعيد و نظر إليها و في ثوان كان اتفاقا

مشتركا بأن يتبعوهم قد انعقد بينهما ، هرولت ريم و لم تلتفت وراءها رغم أنها سمعت صرير باب الحافلة و هو يفتح و باقي أعضاء الفريق يتبعوهم ، كانت ريم و سعيد

أول الواصلين ، و في إحدى الخيام ، كان هناك شاب عشريني مسجى عاري الصدر تنتشر في جسده بقع حمراء كثيفة ، و أمامه السيدة التي جاءت بالخبر ، كانت تولول فيما

جلس أبيه على حافة فراشه الأرضي ممسكا بيده يقبلها و هو يصيح بلوعة :

 لا يا محمد ، لا تمت يا ولدي •• سيأتي الدواء يا وحيدي ••أخذت دموع ريم تسقط بلا هوادة و هي تتابع مع عشرات غيرها الموقف ، و كان أعضاء الفريق قد أصبحوا

جميعهم خلفها •• التفتت إلى المشرف و قالت و دموعها تأكل الحروف :

 مات •• مات ••

أحاطها سعيد بذراعه ، فالتفت الأب إليهم و صاح :

 ماذا تريدون •• هيا صوروا ابني ، و بثوا صورته عبر شاشات التلفاز •• قولوا لهم عن الشهامة العربية ، و الرجولة العربية ، و الموقف العربي النبيل •• هيا صوروه

، أليس هذا ما جئتم من أجله ، هيا صوروا و اركضوا إلى سيارتكم و عودوا بالغنيمة ••

و لم يقو الرجل على إكمال الكلام فبدأ يضرب الأرض بيده و يقبض على التراب و يضعه فوق رأسه و يبكي •• تقدم مشرف الفريق خطوات و هو يعبر الزحام و اتجه نحو الرجل

المكلوم و قال بصوت حازم :

 هل هذا المرض منتشر هنا ؟ تعالى صخب الموجودين و كانوا يؤكـــدون أن العدوى تنتــشر بين الجميع بسرعة كبيرة ، و أن هذا الشهيد هو الخامس في غضون أسبوع ••

صرخت ريم من هول ما تسمع و قال رجل من الواقفين :

 جاءتنا بعثة صحافة قبل يومين و طلبنا منهم النجدة ، نريد أطباء و أدوية ، وعدونا خيرا و لم يعودوا •• و قال الأب المكلوم :

 توسلت إليهم أن يسرعوا •• محمد ولدي الوحيد •• لم أنجب غيره بعد انتظار سبعة عشر عاما •• لكنه مات •• مات ••بسرعة جمع المشرف أعضــــاء فريقه و أعــــطى

توجـــيهات بالعودة السريعة إلى القاهرة و إحضار عدة أطباء بعد شرح الأعراض ليتسنى لهم إحضار كل أنواع الأدوية التي يمكن أن تفيد ، شدد عليهم ضرورة العودة السريعة

و أن يكون الأطباء من معارفهم ليتجاوزوا الروتين ما أمكن ، قال لريم و هو يدفعها برفق :

 اذهبي معهم ، سأبقى هنا في انتظاركم ••قالت ريم بحزم و عناد :

 لن أذهب ، فليذهب من يريد لكنني سأبقى ••نظر المشرف إلى سعيد يدعوه للتدخل فقال سعيد برفق :

 ريم اذهبي و سأبقى مع المشرف ، قد تستطيعين مالا يستطيعونه •• رفعت ريم عينا دامعة إليه و قالت بصوت مخنوق :

 لن أذهب ••حسم المشرف الموقف فدعا بقية أعضاء الفريق للذهاب على أن يبقى معه مصوران و ريم و سعيد، تحرك الأعضاء الباقون بسرعة و اتجهــــوا للباص فيما ركض

أحد الرجال خلفهم و هو يصيح :

 لا تنسوا بعض المطهرات •• العدوى ستقتلنا جميعا • في دقائق كانت الحافلة تغادر تاركة خلفها زوبعة رملية و أربعة من رفاق الرحلة ، تدق قلوبهم بعنف و تملأ حلوقهم

المرارة ••

التفتت ريم إلى المشرف ممتنة فربت كتفها و قال :

 علينا بالحذر ، لا تقتربوا من أي مصاب ، و اكتفوا بالإنتشار بين المبعدين لمعرفة التفاصيل •• جاء أحد الرجال و قال وهو يبصق ترابا :

 هل سيعودون ؟ فقال المشرف و هو يبتسم :

 بأسرع مما تتوقع •• فقال الرجل :

 ما أسمك ؟ فقال المشرف بهدوء و هو يطالع الخيمة المنكوبة للتو :

 أبو محمد ••*** راقبت ريم بعض الرجال و هم يحفرون قبرا للشهيد الشاب ، اعتصر قلبها مشهد الأبالحزين ، كان سكان المخيم قد اختاروا بقعة تبعد عنهم بحوالي

مائة متر لدفن الأموات فيها •• لاحظت ريم شواهد قبور بدائية متناثرة هـــنا و هنــاك ، كـــان عــددهم بين سبعة و عشرة قبور •• وقفت تطالع المنظر و الرياح الحارة

تصفع وجهها و تجفف دموعها بمجرد أن تلامس بشرتها •• جاء سعيد إليها ، وقف بجوارها و عقد يديه خلف ظهره ، ركل بقدمه حجرا صغيرا فسمعت ريم صوته و هو يحتك بالرمال

الجافة •• تطلعت إلى سعيد ، فتطلع إليها وقال غاضبا و هو يعيد النظر في الأرض:

 عار علينا و أي عار ••

لم تتكلم •• كزت على شفتيها كأنها تمضغهما •• تركته و سارت عائدة للمخيم •• كان أربعة من الرجال يحملون الجثة ملفوفة في ملاءة ملونة و يسيرون بها نحو المقبرة

•• تنـــهدت و هي ترى الأم تخرج مولولة خلف الرجال فيما انتظم على بعد خطوات سكان المخيم في جنازة صامتة بدأت بطيئة ثم أسرعوا الخطو •• وضعوا الجثة أرضا و قام

أحد الرجال الملتحين بتأدية صلاة الميت عليه ، ثم عادوا فحملوه و ساروا به إلى مقره الاخير •• لم تستطع ريم مرافقتهم ، فبادرت إلى الأم و أخذتها في حضنها و

هي تواسيها و تحاول العودة بها و المرأة تقاوم رغبة ريم ، و تصر على حضور دفن الوحيد ••

تركتها ريم ، و سقطت على الأرض تقبض الرمال الحارة و هي تقول بغيظ و غضب :

 لماذا ؟ لماذا ؟

جاءها أحد المصورين و قال و هو يحاول رفعها :

 إنهضي يا ريم •• أمامنا عمل كثير •• إنهم يحتاجون قوتنا ليعوضوا بها ضعفهم •• لا يجدر بك الضعف في ظرف كهذا •• تطلعت إليه ريم ، ثم نظرت أرضا و انخرطت في بكاء

مرير •• *** في المساء ••كان سكان المخيم و معهم الضيوف الرجال يصطفون جلوسا على الأرض ، و كان القمر بدرا ، توسطهم أحد الرجال و شرع في قراءة متأنية للقرآن

•• كان مأتما في العراء ، لم يشاهدوا مثله من قبل •• بدا والد المتوفى أكثر هدوءا ، أحاط به الرجال يربتونيده و يسمعونه عبارات العزاء •• و كانت ريم مع النسوة

في إحدى الخيام ، و انتشر الأطفال يتصايحون خلف الخيام •• جلست ريم بجوار الأم التي جفت دموعها و احتضنت بعض ملابس الفقيد و أخذت تتمايل مع صوت القرآن القادم

من الخارج ••كان الجو صحوا •• و نسمة باردة تلفح الوجوه ، حاولت ريم أن تحرك لسانها بكلام فلم تستطع ، تطلعت حولها تستنجد بالنسوة فقالت إحداهن :

 الموت أصبح عادة يومية هنا ••

و قالت أخرى :

 منذ يومين مات هيثم و أمه في لحظة واحدة •• كان قد أصيب بالمرض اللعين و أصرت أمه على احتضانه طيلة الوقت ، هي أرملة منذ سنين و جميع أولادها في الخارج ، كان

هيثم آخر العنقود عمره ثلاثة عشر عاما •• أكاد أجزم أنهما ماتا معا •• وجدناهما جثة واحدة صباح أول أمس •• قالت ريم و هي تبتلع رهبة غصت بها :

 كيف تعيشون هنا ؟ فقالت إمرأة :

 الله لا ينسى عباده •• تأتينا من وقت لآخر إمدادات غذائية من مصر أو من ليبيا ، كما أن بعض منظمات دولية تزورنا أيضا ••و قالت أخرى :

 حتى أن بعض الأشخاص يأتون بسيارات محملة ببضائع تجارية و يبيعونا إياها ، يعرف الملاعين أن معنا نقودا لا فائدة منها ، يبيعون بأثمان مرتفعة جدا •• فقالت سيدة

و هي تضغط صدرها :

 لا أسمـــح لنفسي بتبديد ما أملك ، أعرف أن هذا الأمر سينتهي يوما •• قد أحتاج للنقود •• فقالت سيدة و هي تشيح بيدها :

 قد تموتين قبل أن ينتهي الأمر •• و يأكلك الدود و يأكل نقودك •• لم تكترث للخوف الذي تراقص في عين المرأة ، و قالت و هي تنظر للقنديل المعلق على سارية الخيمة:

 في فلسطين عندما خرجنا من قريتنا بعد مذبحة دير ياسين المشئومة ، عشنا في مخيم على الحدود مع الأردن ، قالوا لنا لن يستغرق الأمر أياما ، فلما تطاولت الأيام

شهورا قالوا الفرج قبل سنة •• و سنة جرت سنة •• و لم نغادر المخيم حتى كبرت و تزوجت و جاء بي زوجي إلى ليبيا •• أول منزل حقيقي عشت فيه كان في ليبيا ••كانت

له جدران لا تخترقها العيون ، و حماما منفصلا لا يجرح عورتي فيه متلصص في الظلمات •• تنهدت و قالت :

 لكن بقاء الحال من المحال ••

كانت هناك شابة تضع نظارات طبية على عيونها و تجلس في آخر الخيمة صامتة ، لفتت نظر ريم فنهضت باتجاهها ، راقبتها الفتاة و هي تتجه نحوها ، و عندما اتخذت ريم

لنفسها مكانا بجوارها ، ضمت ساقيها أكثر لتفسح لريم مكانا و خلعت نظارتها و طفقت تمسحها بطرف ثوبها ، عادت فلبستها و قالت لريم :

 ما اسم جريدتكم ؟ فقالت ريم و هي تبتسم بود :

 إنها مجلة •• مجلة صباح الخير •• فابتسمت الفتاة و قالت :

 أعرفها ، كنت أقرأ بعض أعدادها التي تصل إلى ليبيا •• ما اسمك أنت ؟ فقالت ريم و هي تسند ظهرها برفق على قماش الخيمة :

 ريم •• ريم جهاد القاسم •• قالت الفتاة بدهشة :

 اسمك ليس مصريا

فقالت ريم على الفور :

 أنا فلسطينية •• من غزة •• أقصد أبي من غزة ، أنا لم أر فلسطين أبدا ••