10

21 0 00

تنهدت ••تنهد الجميع ، كانت التنهدات حريقا في أعماقهم حمل هواء الغرفة ما لا يطيق فاستسلم راكدا و كأنه يتضافر مع الخبر المزعج ليعلن عجزا ، و ليعلن احتضار

الحلم •• نهضت ريم متثاقلة و قد بدا أن ملابسها تهدلت عليها و كأنها لم تكن في الصباح قد صنعت خصيصا لهذا القالب •• توجهت إلى غرفتها بخطوات مهزومة كان لها

وقع الخناجر في قلب سميحة ، و قبل أن تصل ريم إلى غرفتها صاحت الأم :

قد يكون هناك حل ••

التفتت إليها ريم و قالت بلهفة :

كيف ؟ قالت بتصميم :

انتظري هنا توجهت فورا إلى غرفتها ، إلى الحقيبة القديمة ، إلى الكلمات الأخيرة في الليلة الأخيرة ، استخرجت الملف القديم ، سحبت منه الوريقات الأولى و عادت

لأولادها قالت بحماس :

 في هذه الأوراق عناوين أهاليكم و أقربائكم ، قال لي جهاد قبل سفره إننا سنفاجيء بأن في العائلة أثرياء بل شديدي الثراء ، فلماذا لا نراسلهم ؟

نظرت ريم إلى قاسم و نظر قاسم إليها ، كانت أفكارهم منصبة على أمر آخر ، أمر غير ما حرك الأم ، ترجمته ريم حين بادرت بالكلام :

أقرباء و أهل لنا نحن ؟ هزت الأم رأسها إيجابا فقال قاسم :

ولهم عناوين يمكننا مراسلتهم عليها ؟ و عادت الأم تهز رأسها إيجابا أسرعت ريم فأخذت الأوراق من أمها •• أمسكتها بلهفة خاصة ، لهفة علا لها وجيب قلبها •• في

هذه الوريقات يكمن أصل وجودها ، في هذه الوريقات أناس تنتمي إليهم بالعصب ، بالدم ، أقرباء ، أهل •• لطالما تمنت أن يكون لها من عصبها أهل ، من لحمها و دمـــها

أعمام و أبناء عمومة ، كانت تشعر و هي محدودة في إطار الأم و الأب و البيت الصغير ، أنها كائن غريب جاء من كوكب آخر و استوطن هذه الأرض ، لا أحد يشبهه و لا

يشبه هو أحد ، أخيرا ها هم الأهل ، في هذه الأوراق يختبيء السر الكبير ، خلفها العالم الذي تريد أن تعيش فيه و بين سطورها الدنيا التي لم تحياها •• بأصابع مرتجفة

فتحت الغلاف القديم ، كانت الأوراق صفراء و بدا خط أبيها واضحا قويا مرتبا يكاد ينطق على الورق ••أسماء كثيرة تنتهي أسماؤهم باسم عائلتها تنتهي بالقاسم •• رفعت

عيــون مغــرورقة إلى أمها و قالت بابتسامة تفيض شوقا :

جميعهم ينتهون بالقاسم يا أمي

أومأت الأم برأسها إيجابا و تفاعلت عيونها مع نظرات ابنتها فنطقت بالحنان ، و نطقت أيضا بالشفقة •• أسرع قاسم و اتخذ لنفسه مكانا بجوار ريم و تراقصت الأسماء

المتتابعة أمام عيونه كلها تحمل لقب عائلته ، اللقب الذي حمله منذ مولده و شاركته أخواته و لم يشاركه أحدا فيه ، أشار بأصابعه النحيلة على الأسماء و قال بصوت

فرح :

لابد أن هذا عمي عمر ، و هؤلاء أسماء أبناء عمي عامر يرحمه الله ، أما هذا فهو اسم عمي محمد ••

و أكملت ريم و قالت :

و هذا عمي بدر وبقية الأسماء لابد أنها لأقرباء لنا من أبينا ، فمثلا هذا الاسم هو لابن عم أبي فيما اعتقد ••

رد قاسم قائلا :

لا بل هو لابن خال أبي ••

قالت ريم :

دعنا نرتبها منذ البداية ••

و انطلقت و أخوها في عالم خيالي كانت تراقبه الأم و هو يسيطر عليهما ، كانت ترى لهفتهما ، إقبالهما على الأسماء كأنما تجسدت فجأة لحم و دم أمامهما ، حتى سمر

كانت تعتقد لفرط لهفة أخويها أنهم يطالعون صورا ملونة ، أو هدايا أسطورية ، فصارت تقفز عليهم و تعتلي ظهورهـــم في محـــاولة لاستكــــناه الســـر الذي جــعــــل

رؤسهما تتقارب و أصواتهما تعلو و حماسهما يزيد ••

ظل الأخوان على هذه الحال قرابة الساعة يرتبون درجات القرابة و يحاولون قدر الإمكان الاستعانة بذاكرة الأم عن أهل زوجها و كانت إذا عرفت قالت و إذا لم تعرف

تردد :

 الله أعلم

و لقد رددت الأم هذه الكلمة عشر مرات على الأقل فقد كانت صلتها بأهل زوجها شبه مقطوعة إلا من رسائل و أشخاص قليلون زاروهـــــم خلال سني عشـــرتهم و قالوا شيئا

أو بعض شيء عن أحوال أهليهم

تطلعت ريم إلى أمها و هي تبعد سمر عن كتفها قائلة :

 أتصدقين يا أمي بعض هذه العناوين تشير إلى الـــبرازيل ، و بعضـــها إلى استراليــا و بعضها في الأردن و في ليبيا و بعضها في الكويت و الإمارات •• تنهدت الأم

و قالت :

 و الآن أصبح لديكم عنوانا جديدا في السعودية يا أبناء فلسطين •• أغلقت ريم الأوراق و تنهدت و قالت باسمة :

 سوف أراسلهم جميعا و أرسل صورنا إليهم و عنواننا و أطلب إليهم إرســـال صـــورهم و كل شيء عن حياتهم لنا لنعرف عنهم المزيد ••

و قال قاسم :

 لماذا تأخرتم حتى أعطيتمونا هذه العناوين يا أمي ؟

هزت الأم رأسها و قالت :

 الحياة تلاهي يا أولاد جهـــاد ، ألا تعـــتقدون أنهم بـــدورهم كان لابد أن يبـــحثوا عنـــكم و يعرفوكم ؟ قالت ريم بتسامح :

 لابد لأحدنا أن يبادر على أية حال يا أم قاسم •• قالت الأم :

 نعم ، و لا تنسوا في خطاباتكم أن تذكروا الوضع الاخير ، مبلغ صغير من المال يرسله أحدهم إلى أهله ليساعد ابنتهم على التعليم لن يؤثر عليهم و سيساعدنا كثيرا

•• قال قاسم بغضب :

 أتريدين منا أن نشحذ يا أمي ؟ قالت الأم بسرعة :

 لا يا بني •• لا سمح الله •• لا تطلبوا المبلغ إلا على سبيل السلفة طويلة الأجل ، اطلبوه بنفس عزيزة ، و قولوا أنه هام للتعليم •• أما شحاذة فلا •• نهض قاسم

غاضبا و لم يقتنع و قال :

أنا لن أكتب شيئا •• فقالت الأم لريم :

و أنت يا ريم •• ما رأيك ؟ ربتت ريم على الأوراق و حالة من السعادة الغامضة لم تفارقها رغم غضب أخيها و قالت :

 أنا سأكتب إليهم يا أمي سأكتب لهم كل شيء عنا ، كل شيء حتى ما حدث اليوم ، ليس لكي أطلب نقودا و لكن لكي يعرفونا أكثر و نعرفهم أكثر ، و ربما بادر أحدهم دون

التصريح بالطلب بالتطوع و بذل المعونة •• السلفة التي نريد •• ربتت الأم على كتف ريم و قالت لها باسمة :

 وفقك الله يا ابنتي •• *** عندما اختلت ريم بنفسها في غرفتها ، و معها الأوراق الأثيرة •• عادت تتصفحها و تعد الأسماء المكتوبة فوجدتهم ثلاثة و ثلاثين اسما

و عناوينهم واضحة تماما في كل بقاع الأرض ، حدثتهم قائلة :

 تراكم أيضا تحملون وثائق سفر للاجئين ؟ و هل سوى اللجوء يمكن أن تكونوه ؟ أنتم مثلنا مهما علت الفروق بيننا ، لن يحمل لكم المال الوطن الذي تركتم و لن يقدم

لكم الأرض التي إليها تنتمون •• ترى هل تشعرون بما أشعر به ، هل تعرفون معنى عدم الانتماء لأرض ، الانتماء الأبتر إلى خريطة قديمة تتوسطها عين دامعة ، الانتماء

الأعزل إلى أخبار لا تستغرق سوى دقائق في نشرات الأخبار عن أرض يموت أبناؤها و تولول عليهم النساء •• هل أنتم مثلي تشعرون رغم الأسرة بالتمزق و الشتات •• و

لما لا و أنتم تحتفلون بأعياد رسمية لشعوب أخرى ، و يغني أبناؤكم نشيد العلم في الصباح لراية اخرى ، و تخفون جنسياتكم عندما ترون في عيون من حولكم بوادر نفور

، و ربما مثلنا تتكلمون لهجة أخرى ••ماذا بقي من فلسطين فيكم ، و ماذا بقي من فلسطين فينا •• شتات و لجوء •• هل هو قدر أبدي ؟

 

تنهدت و شرعت في الكتابة لعمها عمر ، هو الأكبر و لابـــد أنه مشتـــاق لأخيه و لأسرته و يريد أن يعرف عنهم كل شيء و ربما استطاع هو أن يقدم إليها المعرفة التي

تنشدها حول الباقيين ، لما لا و هو كبير الاسرة بعد وفاة أبيه و الأخ الاكبر ، كما أنه يعيش في الأردن و ما زالت ذكرياته طازجة عن الوطن الذي تريد أن تعرفه

عن قرب ••كتبت تقول :

عمي الحبيب ، سوف تفاجأ كثيرا حين تقرأ هذا الخطاب ، فلن يكون أبدا مثل أي خطاب قرأته في حياتك ، إنه خطاب من لحم و دم تكون و نما و شب دون أن تعرف عنه شيئا

، خطاب من كائن ينتمي إليك انتماءً كبيرا ، لكنك لا تعرفه ، أنا ريم ، أبنة اخيك جهاد ، هل تذكره ، ذلك الشاب الذي افترق عنكم منذ أكثر من عشرين عاما ، حمل

في قلبه الكبير الوطن غصة و الأهل شوق لا ينتهي و سافر ، هل ما زلت تتذكر هذا الأخ البعيد ، هو مازال يذكرك ، طحنته الحياة و عصرته و لم تعطه من كل شيء إلا

القليل ، و مازال يحمل روح المقاتل ، و مازال يناضل و يصارع غربة لم تتركه يوما و إن تضاعفت عليه •• غربة مازلنا نلمسها في ارتجافة شفتيه عندما يتذكركم ، في

ارتعاشة أهدابه تخفي دموعا لاتسقط حين يقتله الحنين اليكم •• إنني ابنته يا عمي ••

عمي •• وما أجمل هذا النداء و ما أقساه حين أوجهه إلى طيف ، اسم و عنوان ، ثم لا شيء •• لذا أرسل إليك هذا الخطاب ، من أنت يا عمي ، ما شكلك ، من هم أولادك

و كم عددهم ، هل ترى جدتي ، كيف حالها ، ما شكلها ، كم بلغ الآن عمرها ؟

و أما عنا فإننا ••

و مضت ريم تقص موجز أحوالهم ، كل شيء عنهم و كل شيء عن حلمها الذي سيضيع •• و عندما انتهى الخطاب ، و أغلقته •• نظرت إليه •• و تركته على السرير و نهضت ، كان

في قلبها شرخ تعاظم مع كل سطر كانت تكتبه ، غلبها الإحساس المريع بالخوف فتعالت دقات قلبها ، اعتصرت الأوجاع روحها فترجمت الدموع نص العذاب ، و خرجت متوالية

سريعة غاضبة محتجة ، كانت ريم تجوب الغرفة ، كالسجين الذي لا يعرف متى يخرج ، حكم معلق عليها باللجوء منذ سنين و لا تعرف متى ينتهي ، كانت تــريد توجـــيه الـــلوم

و صب الغضبة على أي شيء ، أي شيء يكون السبب فيما تشعر به ، أي شيء يمكنها أن تمزقه إربا لتنتقم ، لتريح روحها المعذبة ، أي شيء ••

جرس الباب الذي كان يدق متواصلا نبهها من حالتها ، و قبل أن تتمكن من مسح دموعها و تهدئة نفسها وصلتها أصوات تبينت فيها صوت أمها و صوت قاسم و صوت سعيد •• حاولت

ما وسعها أن تكفكف الدموع و تزيل آثار الحزن و تعيد إلى وجهها الابتسامة التي كانت قبل أن تدخل غرفتها و تكتب خطابها ، خرجت من غرفتها و توجهت فورا إلى المطبخ

، شربت ماءا باردا ، و توجهت إلى الصالون حيث جلس سعيد مع أمها و أخيها ، كانت تبدو على ملامحهم جميعا أن الخبر قد انتهى لدى سعيد ، نظر إليها بمجرد دخولها

الحجرة ، و كان أول من لمح بعين خياله أنهار الدموع التي انسكبت قبل قليل ، قرأها من عينيها ، عرف وجع قلبها و تمنى لو يحتضنها مواسيا ، قال :

أقترح أن تذهبي غدا إلى الجامعة لتألفي الجو ريثما نتدبر الامر ••

هزت رأسها رفضا و لم تسعفها الكلمات و ظلت صامتة ••

عاد يقول برفق :

لكن لابد أن تذهبي ، لا تفوتي الفرصة ، و المشكلة سنجد لها الحل •• نظرت إليه و بدون أن تهز رأسها نقلت إليه الرسالة ، نقلت إليه السؤال ، نقلت إليه الوجيعة

•• أطرق ببصره أرضا و قال :

 

 كنت أعرف أن هناك مصاريفا ، لكنني لم أسأل عن مقدارها ، أنا المذنب •• قالت الأم :

لا ذنب لك يا أستاذ سعيد ، إنها إرادة الله و قال قاسم حانقا :

و لماذا نفقد الحلم في كل مرة نشعر أننا أمسكنا به ، لماذا نعيش الخوف كلما أحسسنا أننا في طريقنا للأمان ، لماذا يسرقون الفرحة كلما ارتسمت ابتسامة على وجوهنا

، لماذا نحن بالذات •• رفعت إليه ريم عيونها و قد عادت رغما عنها تمتليء بالدموع و قالت بصوت خرج مهزوما محشرجا :

لاننا لاجئين يا أخي •• ران صمت على الجالسين قطعته ريم و قد بدأت دموعها تزحف سراعا مجددا قائلة :

لأننا لاجئين يا قاسم فليس من حقنا أن نتعلم ، ليس من حقنا أن نحلم ، ليس من حقنا أن ننتمي ، ليس من حقنا أن نعيش ••

هزت رأسها ألما و قامت فأمسكت بكتف أخيها و صاحت :

 

 لا تضعف هكذا ، لا تجعل اليأس يجز أملك و ثقتك بالله ، لابد لهذا الحال أن يتغير ، أنا واثقة إنه سيتغير •• و بهدوء قالت :

سيتغير يا أخي سيتغير ••

جلس قاسم مهزوما على الأريكة بجوار سعيد و قال :

طيلة الوقت كنت أفكر إن كان حقا سيتغير ، إن كانت المعجزة يمكن أن تتحقق ، و عدت فسألت نفسي ، لماذا أذاكر ، لماذا أنجح في كل عام ، لماذا يحرص أبي على رؤية

الدرجات النهائية في شهادتي ، بماذا سيفيد كل هذا إذا كنا في النهاية نسير نحو قدر محتوم ، نحو ظلم مفروض ، نحو واقع لا يقبل التغيير ••

نظر إلى سعيد و كانت عيونه مليئة بالدموع و قال :

نحن فلسطنيون يا أستاذ سعيد ، و هذا واقع لن يتغير ، و لن يكون يوما في مصلحتنا ، سيظل طوال الوقت العقبة الكؤد في طريقنا ، لن يغيره أن اقسم لهم أننا لم نر

بلادنا ، لم نتكلم لغتها يوما ، لم نمش على أرضها أو نستحم في بحرها •• و قالت ريم و كأنها تكمل حديث أخيها و لكن بهدوء :

 و لن يغيره أننا نعيش الشوق دوما ، و يغلبنا الحنين قهرا ، و تعصرنا الغربة عصرا ، لن يغير هذا الواقع أن يرى الآخرون جرحا بطول العمر فينا انطبع في ملامحنا

و وسم قلوبنا •• و قال سعيد منبها :

و لن يغير هذا الواقع احتجاج ، أو صراخ ، لن تغيره دموع أو صياح ، تغييره فيكم ، بكم ، منكم و إليكم ، كفى يأسا يا ريم ، وأنت يا قاسم ، لم كل هذا القنوط ،

لم تنهدم عمارة الكون ، و لابد من مخرج ، و كما عرفت ما كنتم تجهلونه عن تعليم الفلسطنيين سأعرف مالا تعرفونه عن الحلول التي اتبعها غيركم فلابد أنكم لستم الوحيدين

في مصر الذين تواجهون هذا الأمر ، و ربما نجد حلا ••

كانت لهذه الكلمات وقع السحر في نفوس الجالسين •• ابتسمت الأم و قالت :

ربنا يخليك يا أستاذ سعيد يا رب و نظرت ريم إلى قاسم ، و نظر هو إليها ، مسحت دموعها ، فمسح دموعه و ابتسم كلاهما و نظرت ريم إلى سعيد ، نظرة الامتنان التي

يعشقها ، نظرة الامتنان التي لا تملك أن تهديه سواها فقام نشيطا ، سعيدا و قال بحماس :

من الغد سأسأل و أعرف وأوافيكم بالأخبار كلها ••

أومأت ريم برأسها موافقة ، و نهضت الأم قائلة :

لا يمكن أن تخرج قبل أن تشرب شايا ، انتظر سأصنعه لك ••

و نهضت ريم و قالت :

انتظري يا أمي أنا سأصنعه •• و قال سعيد :

لا •• شكرا ، لا أريد شايا ، أريد لوسمحت •• ابتسامة •• و ابتسمت ريم ••

أصبح سعيد في حياة ريم هو الحل لكل مشكلة ، و هو البطل الذي لا تقف في طريق تصميمه عقبة ، كانت تشعر تدريجيا أنها تسلم إليه طوعا قيادة دفة حياتها ، في الواقع

كانت تريد أن تسلم هذه القيادة إلى أحد ما ، كان أبوها دائما هو هذا الأحد و لكن بسفره و ذلك الفراغ الذي تركه كان لابد لمن يملؤه أو حتى يملأ جزء منه ، و كان

سعيد هو المستعد دوما لملء هذا الفراغ ، باتت تشعر أنها قادرة على منحه الثقة مطـــلقة ، تشـــعر أن عــهدا و رباطا بينهما مختوم منذ الأزل ليكــون هذا الشخص

تحـــديدا هو منقــذها و حامــيها ، و ماذا بعد ؟

سألت نفسها مرارا إن كان تعلقها بكلماته ، وثقتها بأن في يده دائما حلول مشكلاتها هو الحب الذي يتحدث عنه الناس ، و تنتظره سوسن و يتأوه من أجله المغنون و المغنيات

•• لكنهم يتحدثون عن لهفة الانتظار في غياب الحبيب و هي لا تشعر بهذه اللهفة ، يتحدثون عن الأحلام التي يسكنها الحبيب و هي لم تحلم به ليلة رغم وجوده المكثف

في حياتها ، يتحدثون عن جمال الكون حين يكون الحبيب مع حبيبه و هي لم تشعر للحظة أن مشكلاتها اختفت و أن بيتها تحول إلى بستان حين رؤيته •• كل ما كانت موقنة

به تمام اليقين ، أنها إذا احتاجته وجدته ، و إنها إذا ألمت بها مشكلة كان هو الوحيد الذي يخطر ببالها عندها ، و أنها أصبحت في داخله التزاما حتى هو لا يستطيع

ــ إن أراد ــ أن يخلعه عن نفسه ، لسبب تجهله و تعتقد أن حتى سعيد نفسه يجهله ،كانت تشعر بهذا و لا شيء غير هذا ••

ووجد سعيد الحل كما وعد ، حمله ابتسامة في عيونه و هو يطالع وجه ريم التي فتحت له الباب بنفسها هذه المرة ، قرأت في عيونه أن الفرج قريب و عندما تحدث كان الفرج

ليس ببعيد و إن لم يكن بكل القرب الذي توقعته :

هما في الواقع حلان ، أولاهما إدارة الوافدين ، و عن طريقها يمكن حذف أو تخفيف المصاريف خاصة و الأم مصرية ، و الحل الثاني مكتب المنظمة و عن طريقه يمكن تقديم

طلب ليدفعوا هم المصاريف نيابة عنكم ••

تساءلت الأم :

 وما مكتب المنظمة ؟

فقال الأستاذ سعيد :

 مكتب منظمة التحرير الفلسطينية ، إنه بمثابة القائم بأعمال الجالية الفلسطينية هنا و بسؤالي _ _ عرفت أن كثيرا جدا من الطلاب الفلسطنيين تعلموا عن طريقه ••

قالت ريم :

 لكنها كما تقول طلبات و قد تأخذ وقتا طويلا لحين البت فيها ••

قال سعيد :

 لقد فكرت في هذا الأمر و لدي حل له ، زيــارة إلى عميـــد الكلية نشـــرح فيها الظروف و الملابسات و نتعهد بدفع المصاريف على أن يتم اختبارك و تلتحقي بالقسم

الذي تريدين و تواظبي على الحضور و لا تدخلي الامتحان إلا بعد دفع المصاريف •• نظرت إليه ريم ممتنة و قالت :

لقد فكرت في كل شيء ••

نكس رأسه و قال بهدوء ••

 ليلة البارحة ، لم أستطع النوم ، اعتدت على أمر لم يحدث فجافاني النوم و استحوذ علي التفكير ••

 فقالت الأم باسمة :

إذن الفضل في هذا التفكير الشامل هو الأمر الذي لم يحدث ؟ تطلع سعيد إلى ريم و سألتها عيونه :" لماذا لم يحدث ؟" و أجابت عيونها :" كنت متعبة و حزينة " فقالت

عيونه :" ألست واحتك حين يقسو عليك الوجود ؟"

 

أشاحت بوجهها و لم تعط له الفرصة ليقرأ رد عيونها ••

قالت :

و لكن أستاذ سعيد ، أليس من المحتمل أن يرفض عميد الكلية هذا الطلب ؟ أجاب :

لن نخسر شيئا ، لقد كان ما أمامنا هو البقاء في المنزل و انتظار حل غيبي ، و الآن أمامنا فرصة قد تنجح ، و محاولات أخري قد تقدم حلا جذريا فلم القلق ؟ قالت

الأم :

لابأس ، غدا إن شاء الله نتحرك ، تذهبين يا ريم إلى الكلية و تحــاولين مـــقابلة العميد و شرح ظروفك له ، و أذهب أنا إلى إدارة الوافدين باعتباري الأم المصرية

التي تريد تعليم أبنائها ، و أما مكتب المنظمة فليكن خطوة مشتركة بيننا بعد غد إن شاء الله •• قال سعيد :

سوف أصحبك يا خالتي إلى إدارة الوافدين ، أعتقد أن ريم بامكانها أن تعبر أفضل عن نفسها بنفسها أمام العميد •• قالت الأم :

لا يا بني يكفيك الأجازات التي أخذتها من عملك حتى الآن بسببنا ، وفقك الله و جزاك عنا خير الجزاء ، صف لي فقط المكان و سأذهب اليه بمفردي ••

 أولا يا خالتي لم آخذ أية اجازة من عملي ، مكتب المحاماة لي و أنا حر في الذهاب أو لا ، و ثانيا ، ليس بيننا هذا القدر من التكليف حتى تشكريني على أداء واجبي

، أم أنك مازلت تعتبرينني غريب ؟

لا يا بني ، بل إنك أفضل من كثير من الأقرباء ، و لكن •• و حسمها سعيد كعادته ، كلمته كانت الأخيرة ، ووافقت الأم و هي تدعو له ، فيما قالت ريم لنفسها :

هذا هو سعيد الذي أعرفه ••

و كان اليوم التالي يوما حافلا لريم لم يخطر ببالها أبدا أن تمر فيه بكل ما مرت و لا أنها ستتعلم منه أهم درس لحياتها العملية، فقد توجهت صبيحته لمقابلة العميد

و انتظرت ساعة حتى سمح لها السكرتير بالــدخول و هنـــاك وقفت أمامـــه حائــرة من أين تبــدأ ؟ و تبخرت كل الكلمات التي ظلت طوال الليل ترددها و تحفظها و تختار

أكثرها وقعا على النفوس ، استمهلها العميد لحظة لتستجمع قواها و عندما تحدثت فوجئت بحديث لا يشبه ما سبق و أن أعدته ، حديثا كان مباشرا و صريحا و مختصرا و بلا

مقدمات ، شعرت أن وقته و هيبته لا تسمح لها بالسرد الطويل لذا فقد قالت :

سيدي العميد ، أنا طالبة فلسطينية ، أريد أن أتعلم لكنني لا أملك في الوقت الراهن مصاريف التعليم التي تطلبونها ••

تطلع إليها العميد مليا ثم قال برفق:

نحن لا نطلب شيئا يا ابنتي ، إنها القوانين و الأنظمة ، و لا أملك حتى أنا العميد الغاءها أو التعدي عليها •• فقالت بهدوء حذر ، خوفا من أن تسبقها دموعها كالعادة:

لا أريد الغاءها ، أريد فقط تأجيلها ••