تطلع اليه العم صابر مليا و سأل ضميره إن كان اشفاقه و محبته لهذا الفتى يبرران أن يعطيه ابنته لتشاطره غربة لا يعلم حدودها إلا الـــله أم لا ، لكنه حسم الموقــف
في دقيقة و قال :
إن وافقت هي فأنا موافق ، و لن أجد لها أفضل منك ••
هذا الرد كان جهاد قد سمعه قبل أن ينطق به الأب ، كان قد أحسه و قلما أخطأ إحساسه ، سميحة له الآن و ليحمل الغد ما يشاء من مفاجآت فإنه سيصنع أسرة من جديد
بعد أن تشتت أسرته الأصلية اختياريا ، و ربما صنع وطنا ••
و في أقل من شهرين كان المنزل الجــديد قد أُجر و الفرش بالتقسيط قد اشــترى و فرش و الزفاف تم كأحسن ما يمكن لشاب فلسطيني غريب و شابة مصرية كانت محط أنظار
الجميع ، و جاءت ريم بعد تسعة أشهر بالضبط و تنهد جهاد ساعة أن سمع خبر الولادة الأولى و قال :
الحمد لله الآن أصبحت لي أسرة ، الآن عاد لي بعض من بعض الوطن •• *** تأخر الغذاء هذا اليوم عن موعده كثيرا و اضطرت ريم لتسخينه مجددا مرتين على الأقل قبل
أن يقبل الأب و الأم و حتى قاسم كان قد عاد من مدرسته و علقت سمر :
هذه هي المرة الاولى التي نأكل فيها معا •• ربت قاسم على ظهر الصغيرة و قال :
غريب أنكم انتظرتموني اليوم ، هل من جديد ؟ قالت ريم بمكر و هي تبتسم :
هذا السؤال يجيب عنه أبي ، أو أمي ، فهما السبب و قال جهاد :
السبب خير إن شاء الله ، خير للجميع و خصوصا لك يا ريم •• تركت ريم ملعقتها تتوجه إلى فمها دون وعي منها فأسقطت الحساء على ثوبها و هي تسأل بلهفة :
خيرا إن شاء الله ؟ ضحك الأب و أشار لثوب ريم المتسخ و قال :
خير حتى انسكاب الحساء خير •• و تمتمت الأم :
طبعا خير ما دامت هي لا تغسل الثياب فما الذي يهمها •• أشاح الأب بيده و قال :
يا أم ريم دعيها ، اليوم تحديدا لها أن تفعل ما تريد •• تعمق السؤال في عيون ريم و تطلعت إلى أبيها تحاول أن تقرأ ما يخفيه و سألت نفسها :
هل هو عريس ؟ قال الأب :
ما اخرني عن الحضور اليوم إلا مقابلة غير متوقعة مع جارنا الأستاذ سعيد •• استغرقت الأم وقتا لتتذكر من سعيد فيما عرفته ريم فورا و لم تخف تعجبها الذي لم يطل
فقد قال الأب :
قرب منزلنا وجدته واقفا و كأنه كان بانتظاري ، سلم علي بحرارة رغم أننا بالكاد نعرف بعضنا ، فهو لم يسكن في الجوار إلا منذ سنة تقريبا و الحياة تلاهي •• شيء
ما في نفس ريم كان يستحث الأب على سرعة إتمام الحديث الهام و البعد عن التفاصيل الصغيرة التي لا معنى لها ، لكنها لم تبده و رفعت ملعــقتها إلى فمهــا مجددا
و هي تسأل بلا مبالاة مصطنعة :
ماذا كان يريد ؟ و سبقت الأم بالكلام قائلة :
إياك أن تقول أنه يريد الزواج منها ، هذا الشاب اللاهي •• هز الاب رأسه مبتسما و قال :
لا يا أم قاسم ، لم يكن هذا محور حديثنا ، اتركيني لأكمل ، لقد رحب بي بحرارة متعجبا من عدم معرفتنا ببعضنا البعض طيلة هذه السنة و ذكر شيئا كثيرا عن إعجابه
بي و بكفاحي في الحياة ، كنا نسير معا و وجدت نفسي فجأة أمام باب بيته لا بيتي فدعاني للدخول و شدد في دعوته فلم أملك إلا الاستجابة •• ـ آه هذا اللاهي ماذا
يريد منك ، هل يريد جرك الى طريقه ، لا تنس ذكرت قبل قليل انك صغير و تريد الزواج من اخرى •• هذه المرة تكلمت ريم ووجهت حديثها لأمها :
أمي بالله عليك دعينا نعرف ماذا يريد هذا السعيد من أبي و ما علاقتي بالموضوع ، ماذا هناك يا أبي ؟ ترك الأب ملعقته و نهض قائلا :
الحمد لله ، الشاي يا ريم و تعالي سأحكي لك كل شيء •• مرت الدقائق التالية بصعوبة على ريم التي كانت تصنع كل شيء بآلية و كأنها مسيرة من أجل الانتهاء بسرعة
، رفعت الطعام ، غسلت الأواني ، أعدت الشاي و عندما جاءت به إلى حيث يجلس الجميع ، كانت قد خطرت في بالها الفكرة ، قالت و هي تضع الصينية :
أبي هل للأمر علاقة بإكمال دراستي ؟ ابتسم الاب و هو يأخذ كوب الشاي و هز رأسه قائلا :
هذا صحيح يا ريم ، لقد سألني الاستاذ سعيد عنكم جميعا و عرف أنك منذ عام تجلسين في البيت لأننا لا نستطيع تأمين مقعد لك في الجامعة ، و بالصدفة هو يعرف مسئولا
كبيرا يعمل في الجامعة مدرسا ••
تقصد أستاذ يا أبي ••
نعم يا قاسم هذا ما قاله ، أستاذ في الجامعة ، و قال أنه سيسأله عن إمكانية التحاق ريم بالجامعة خاصة بعد أن عرف أنها كانت من المتفوقين دراسيا و أن مجموعها
كان كبيرا جدا في الثانوية العامة و أخيرا فقد أخبرته عن أنك تتقنين الرسم و تتمنين الالتحاق بقسم الرسم في الجامعة ••
الفنون التشكيلية يا أبي ••
نعم بالضبط الفنون التشكيلية ، و لكـــن يا ريم هـــــل من الفنـــون التشكيلية الرقص أو الغناء أو أي شيء من هذه الفضائح ؟ هزت رأسها بسرعة مؤكدة :
لا •• لا و الله يا أبي ، أنها كلية تدرس فقط فنون الرسم و النحت و لا علاقة لها بفن السينما و المسرح و الغناء •• كانت الأم تستمع و لم تشارك في الحديث ،
لذا عندما نظر إليها الأب سائلا إياها عن رأيها تنهدت و قالت :
إنه حلم حياتي كما تعلم ، أن يتعلم أولادنا أحسن تعليم ، و لكن يا أبا قاسم لقد نسيت شيئا هاما جدا •• نظرت ريم الى أمها و كأنها ترجوها ألا تفسد الخبر الجميل
، فنظرت إليها الأم و قالت بحنان بالغ :
المصاريف •• مصاريف الدراسة الجامعية فوق قدرتنا يا أبا العيال ، كيف لم تفكر في هذا ؟ ران صمت طويل على الجميع ، كان الأب خلاله ينفث دخان سيجارته ، و يرشف
من كوب الشاي و يفكر ، فيما تطلعت ريم الى أبيها برجاء ، ثم باشفاق ، و في الدقيقة التالية كانت قد مسحت فكرة دخول الجامعة من خيالها و همست الأم :
لا يقدر على القدرة إلا الله •• نهضت ريم و حملت الأكواب الفــارغة و هي مطــرقة و اتجــهت الى المطبخ ، تنحنح قاسم و قال :
أبي ، لو أذنت لي •• التعليم الجامعي هو حلم ريم و هي بالفعل إنسانة موهوبة و ربما في المستقبل يكون لها شأن كبير ، فلماذا نجعل من المصاريف عائقا و هو أمر
قد يرهقنا إلا أنه غير مستحيل ، و أنا قد كبرت و أستطيع مساعدتك فترة بعد العصر إلى العشاء ، ألم تكن تعمل و أنت في سني بل أصغر ؟ شهقت الأم و قالت :
و الدراسة ؟ رد عليها قاسم قائلا :
لن تتأثر كثيرا ، أستطيع تنظيم وقتي •• هز الأب رأسه و قال :
لمن لا وطن له و لا أملاك تعينه ليس بعد الله الا العلم يا قاسم ، و لن أسمح لشيء أن يؤخرك عن دراستك ، و إلا يا بني أكون قد أضعت عمري هباء ، فلن أترك لكم
عندما أموت مالا ، لكنني أكون على الاقل مطمئنا أنكم على الطريق الصحيح •• هزت الأم رأسها موافقة و تمتمت :
أطال الله عمرك يا أبا العيال ، و لا حرمنا الله منك ، تعيش إن شاء الله حتى ترى أولادك و هم متزوجون و تلاعب أحفادك و تراهم بدورهم كبارا متزوجين و •• قاطعها
الأب قائلا :
كفى •• كفى لقد أوصلتني إلى المائة أو يزيد بدعائك هذا •• ما يهمني أن يطيل الله في عمري حتى أكمل رسالتي و بعد ذلك لا يهم •• هيا ، اذهب يا قاسم لتستريح و
من ثم تذاكر دروسك ، أريدك دائما الاول •• تابعه بعينيه و هو يمضي إلى غرفته و قال :
حماه الله •• رجل صغير •• كانت ريم تستمع إلى الحديث بجوار المطبخ يراودها الأمل تارة و يموت أخرى و عند هذا الحد منه اتجهت إلى غرفتها و هي تبتسم ممتنة لأخيها
، و تذكرت حلم الليلة الماضية ، الظمـــأ و السراب و الســحابــة التي لا تســتطيـــع أن تشرب منــهــا رغـــم أنها تعتــليها و تساءلت :
ترى هل هذا هو تفسير الحلم ، أم أن ما يخبأه لها القدر من العطش أكثر بكثير مما ترى أو تتوقع ؟
منذ أن ألقت ريم كلمتها الغاضبة إلى سعيد و شيء ما انبش مخالبه في صدره ، زحف جيش مجهول الهوية و استوطن مكانا ظل خاليا في جوفه :
قالتها و مضت ، و كأنها طيف أو حلم •• من هذه الفتاة ، و كيف لم يلاحظها منذ سكن الشارع رغم أنها جارته ، من أين واتتها القوة لتقول رأيها بصراحة في الوقت
الذي استغرق الامر من زوجته عمرا و ثلاثة اطفال كي تنطقها •• ماذا تعرف هذه الصغيرة الجريئة عنه ، ماذا كانت تخبرها مريم و كيف كانت تنظر إليه ، هل تحتقره في
قرارة نفسها •• اسئلة كثيرة حرمت عليه النوم ذلك اليوم ، و قرر أن يعرفها أكثر ، قال أنها بكل تأكيد مثل كل النساء و لكن تنقصها الخبرة و وعد نفسه أن تستقي
هذه المخلوقة خبرتها على يده ، اسعده كثيرا أن اكتشف أن نافذة في منزلهم تطل على شرفته المهجورة ، قام ففتح الشرفة و رتبها و أزال منها غبارا كثيرا ، ثم وضع
فيها كرسيا و طاولة و قرر أن تكون جلسته الدائمة في هذا المكان في حالة كانت الغرفة لها ، و ابتسم و هو يقول لنفسه :
اللعبة القديمة ، ابن الجيران و ابنة الجيران ، كبرت قليلا عليها و ربما جاءت متأخرة لكنها جاءت على أية حال ، و لن تضيع الفرصة ••
كان هذا ما يقوله بصخب لسانه ، أما ما استقر في نفسه فكان مختلفا بعض الشيء ، كان هناك ما يربطه بهذه المخلوقة ، ليس جمالها فلقد عرف من هن أجمل منها عشرات
المرات ، و لا لسانها الطويل الذي فاجأه برأي من غريبة ذات ظهر أحد الايام ، أنه شيء ما في عينيها ، نظرات بريئة ، مفعمة بالتحدي و بالحزن ، بل و بالضحك أيضا••
كل هذا كان في نظراتها ؟!! يا لك من مغفل كبير •• هي فريسة و أنت الصياد و أنت صياد ماهر •• هذا كل ما في الأمر ••
و عندما جلس ذلك المساء في شرفته للمرة الاولى يحتسي الشاي ، كانت نظراته مصوبة على النافذة ، و أمنية تجوس في خاطره أن تكون الغرفة لهـــا ، كانت الغـــرفة
مظــلمة ، و كان القمر بدرا ، لأول مرة يلاحظ القمر ، عادة في مثل هذا الوقت لا يكون في مكان مفتوح يطل عليه القمر ، إنه يكون في مكان مغلق ، مغلق حتى الاختناق
يمارس لعبته الدائمة في خداع الفرائس الخبيثة ، الفرائس التي تريد الخداع و تطلبه ، هذه هي المرة الاولى التي يطالع فيها القمر وجها لوجه ، ترى هل اكتمل متعمدا
اليوم ، أم أن القمر يسير في دورته الاعتيادية غير آبه بمريديه زادوا واحدا أو نقصوا عشرة ، المهم أنه ما زال متربعا في السماء يلعب دور قديم متجدد ، لم يمله
منذ بدء الخليقة :
سبحان الله ، كيف لم ألاحظك أيها القمر من قبل ؟ لماذا تحمل ملامحك وجه إنسان غاضب ، هل أنت غاضب مني أنا تحديدا أم من كل البشر ••هل تعرفها أيها القمر ••
ما اسمها •• هل هي صديقتك ، أم أنها بدورها لا تعرفك •• ؟
لاحظ الضوء ينبعث من خصاص النافذة ، أمعن النظر عله يرى خيالها لكن النافذة كانت ساترا قويا دون عيونه ، عاد يرشف من كوبه و يطيل النظر إلى النافذة يستجديها
أملا ، أو خيالا •• ثم توجه إلى القمر و همس :
إذا كانت صديقتك فأرسل في طلبها ، أرني مقدار حظوتك عندها أن استطعت ••!! و كأنما استجاب القمر للتحدي فأرسل شعاعا منه إلى النافذة المغلقة و انتظر ، بعد قليل
فتحت ريم النافذة ، أطلت منها فورا إلى القمر ، نفخ سعيد الهواء و نظر للقمر مبتسما و قال :
إيه أيها القمر لقد نجحت ••!! راقبها و هي تطالع القمر ، لاحظ على البعد تقطيبة حزن و هي تمعن النظر إليه ، شعر بها و إن لم يستبنها ••و ظل مركزا نظره عليها
علها تراه ، و بالفعل نظرت ريم باتجاهه ، و لكنه هذه المرة سمع زمجرة غضب حملها النسيم إليــه رغم أن المسافة ليســت قصيرة و أصابه الذهول حين ردت على ابتسامته
الساحرة باغلاق النافذة بقوة و كأنها تصفعه ••
للمرة الثانية تتعمد هذه المخلوقة الصغيرة تقليم أظافرك و إدارة رأسك •• لا يا سعيد يجب أن يكون هناك حل •• و بسرعة •• بعد تفكير عميق قرر أن يعرف عنها كل
شيء ، راقب المنزل ، عرف أباها و أخاها و حتى أختها الصغيرة تمرح مع الصغار أمام الباب و عندما عرف ميعاد عودة الأب اليومي من العمل كان بانتتظاره عازما على
معرفة كل شيء ، و قد كان له ما أراد ، عندما ألح على أبيها بدخول منزله تعمد ألا يرى الغرفة التي تطل بشرفتها على نافذة ابنته ، و جاذبه أطراف الحديث و عرف
ما أراد ، و لدهشته وجد نفسه مدفوعا للكذب ، قال أنه يعرف أستاذا في الجامعة و يستطيع إلحاق ريم فيها •• كان اسمها يعجبه ، استزاده و كان الأب مستـــعدا للمزيـــد
، بدا متلــهفــا على تعليــم أولاده ، تمسك بالأمل و عــرض عليه حــالتها و موهبتها و أخبره كثيرا عن لوحاتها الجميلة ، و تطور الكذب و قال سعيد :
لا تخف يا عم جهاد سوف تلتحق ريم بكلية الفنون الجميلة ، هذا وعد •• عندما غادره الأب ، طالع وجهه في المرآه ، صاح :
كاذب •• *** فتحت ريم نافذتها و استقبلت بعض النسمات الصيفية مع الشمس و هي تلملم شعاعاتها لترحل ، كان لون الشفق يريح أعصابها ، و تحبه كثيرا رغم أنه يعني
الوداع ، وصفته ذات مرة لصديقتها سوسن قائلة :
عندما يصبغ الشفق الأفق بالحمرة يغلبني يقين بأنني أمام عيون بكت حتى الإحمرار على الفراق •• و يومها علقت سوسن قائلة :
دائما الفراق يا ريم ، لماذا يغلب عليك الشعور بالفراق رغم استقرارك و تمتعك بعائلة يحسدك عليها الجميع في التفاهم و الترابط ؟ همست ريم قائلة و هي مطرقة :
لأن الفراق يكون أقسى عندما نحب من نفارق و ما نفارق •• و تنهدت و أكمل شيء داخلها ••
الوطن •• الانتماء •• هل تشعرين ؟ لا •• لا يمكن لمن يعيش في وطنه أن يعرف يقينا معنى و قيمة أنه ينتمي له ، كيف يمكن لمن يصحو مطمئنا أن يشعر بالخوف من مستقبل
غامض ككهف أسود فاغر فاه على المجهول ، لا •• لن تستطيعي يا سوسن أن تعرفي و لن يستطيع أحد أن يعرف ، حتى أهلونا هناك لن يعرفوا ، سنظل دائما في نظر الكل أولئك
الذين هربوا من المواجهة مع الموت ليعيشوا ، سنظل دائما في عيون الآخرين النقطة في آخر سطر عذاب يعيشه الآخرون •• لن يشعر بالمعذبين في بوتقة اللجوء إلا من
عاشه ، فهل عشته يا سوسن ، حتى أنت يا سعيد هل عشت اللجوء يوما ؟ ، لو أنك عشته ما وجدت فراق زوجتك و أولادك هينا ، ما وجدت الانفصام سهلا ، لكنك في بلدك ،
الكل أهلك ، الجميع ناسك ، فلم تخاف من فراق إرادي ؟ ما زلت رغم الفراق تملك أن تجلس باستكانة على كرسيك الهزاز في شرفة منزلك تغازل القمر و تبتسم ، أي اطمئنان
يعيشه من له وطن •• تطلعت في وقفتها طويلا إلى شرفته الخالية و تساءلت :
هل حقا بمقدورك المساعدة أيها الرجل اللاهي ، هل حقا يمكنك أن تقدم عونا ؟ و لم لا•• أنت في وطنك و بامكانك أن تفعل ، كما أنك جريء ، جريء جدا ، لقد استطعت
في مقابلة واحدة مع أبي أن تعرف كل شيء •• و لكن عرضك مرفوض •• لن نستطيع أن نقبله ، فهناك دائما المال ، الحاجز الذي لا يقهر ، اللجوء الآخر ، الأمنيات الصعبة
، الأحلام المستحيلة و •• نعم و العطش ، الظمأ الشديد رغم سحابة الماء ، سأظل دوما ظمأى هذا قدري ، و لن تستطيع تغييره •• أغلقت نافذتها و توجهت إلى حامل لوحاتها
رفعت الغطاء فبدا شكل البئر و الشجرة تدب أغصانها فيه موحشا ، مرعبا ، مخيفا ، حتى الصبي الذي يتطلع إليه كان غريبا ، عضت على شفتها السفلى و همست :
كيف رسمت هذا المنظر الفظيع ؟ كان كل شيء أمامها في هذا اليوم يفقد قيمته ، شعرت للحظة أنها عاجزة ، أنها مبتورة الساقين و اليدين ، أنها تريد أن تصرخ لولا
لسانها المقطوع ، وضعت لوحا أبيض فوق لوحة البئر و خطت بالفحم خطوطا سوداء كئيبة لوجه يطحنه الظمأ •• دخل أبوها الى الحجرة دون أن يدق الباب ، نظرت إليه بعيون
مغرورقة و لم تتكلم ، اقترب و نظر في لوحتها و هز رأسه رافضا لما فيها •• قال:
أنت غاضبة يا ريم •• هل خيبت أملك يا ابنتي ؟ نظرت اليه ريم و حاولت الكلام إلا أن غصة منعتها و شرقت بدموعها ، فاقترب منها أبوها جدا و أخذ رأسها بين يديه
ووسده كتفه ، قال :
لا تبكي يا صغيرتي •• عندما تكون المشكلة نقودا ، فلا مشكلة ، مازال أبوك قويا ، قادرا على العمل و العطاء ، و إذا صدق الأستاذ سعيد في وعده فإنني سوف ألحقك
بالجامعة •• رفعت ريم وجهها و مسحت دموعها بباطن كفها و ضحكت و هي تقول بحروف متعثرة :
لا يا أغلى أب ، لا أريد الجامعة ، و لا أريدك أن ترهق نفسك أكثر من أجلي •• صدقني لن أكون سعيدة و أنا أحقق أحلامي على أنقاض صحتك ، يكفيك ما عانيت حتى وصلنا
إلى ما نحن فيه ، لا أريد المزيد •• أمسك وجهها بين يديه و قال لدموعها النازفة :
أقسم بالله العظيم أن أمسح هذه الدموع و لو كلفني هذا عمري •• أنتم كنزي أيتها الفتاة الرهيفة و أنتم وطني الذي تركته مخيرا قبل عشرين عاما و لن أسمح لهذا
الوطن الصغير أن يضيع مني بدوره ••
و لكن يا أبي ؟ وضع الأب أصبعه على فمها ليمنعها من إكمال أعتراضها و أمسك لوح الرسم الحزين ، رفعه و وضعه جانبا و عندما نظر إلى لوحة البئر تحته ، وقف واجما
و ريم تراقبه •• مرر أصابعه على حافة البئر ببطء و لمس غصون النخلة السامقة •• قال :
هل يمكن أن أحتفظ بهذه اللوحة ؟ قالت ريم :
لكنها لم تكتمل يا أبي ، كما أنها بشعة جدا ••
لكنني أريدها •• همست ريم :
كنت أريد تقديمها لك عندما أكملها ، لكنني فجأة زهدت فيها و شعرت أنني لا أريد إكمالها •• ابتسم الأب و هو يرفعها و قال :
لو اكتملت لخالفت الحقيقة ، إن نقصانها هو كمالها أيتها الفنانة الصغيرة •• راقبت ريم والدها و هو يغادر الغرفة حاملا اللوحة بين يديه ، همست :
صدقت •• *** في طريقها إلى منزل سوسن كان لابد لريم أن تقطع المسافة بين بيتها و بيت سعيد أولا قبل أن تنعطف يمينا لتسير باتجاه بيت سوسن الذي لا يبعد كثيرا
عن منزلها ، عشر دقائق سيرا على الأقدام ، و عندما اجتازت واجهة بيت سعيد و بدأت طريقها إلى سوسن وجدته فجأة أمامها •• كان سيد أخو سوسن ، اعتراها ارتباك و
لم تدر إذا كان من اللياقة أن تحيه أو من الأدب أن تتركه دون كلام ، لكنه كان أسرع في أخذ المبادرة إذ حياها قائلا :
آنسة ريم ، كيف حالك ؟ همست :
الحمد لله
متجهة إلى بيتنا ؟ أومأت برأسها أن نعم ••
هذا جيد ، ساذهب في مشوار صغير و عندما أعود آمل أن أجدك هناك فلدي ما أقوله لك •• أسرعت في مشيتها بدون رد و عندما اقتربت من منزل سوسن وقفت برهة مترددة هل
تطرق الباب أم تنسحب قبل مجيء الاستاذ سيد ثقـــيل الدم •• و أخــيرا حزمت أمــــرها و أقفلت عائدة ، لكنها و للمرة الثانية في أقل من عشر دقائق تجد من يستوقفها
و هذه المرة كان سعيد الذي بادرها :
آنسة ريم •• نظرت إليه مندهشة ، ثم تذكرت أن أباها أعطاه اسمها قالت :
نعم
رأيتك تسيرين حتى نهاية الشارع ثم تعودين ، هل هي رياضة ؟ تطلعت إليه بحنق و همت أن تجيب ، إلا أنها آثرت عدم الكلام ، هزت رأسها و سارت في طريقها ، ظل واقفا
في مكانه يراقبها تسير و قال و هي تكاد تختفي في انعطافة منزلها :
يا لك من طفلة •• عندما وصلت ريم إلى منزلها أجابت أمها قبل أن تسأل :
سوسن ليست هناك •• نظرت إليها الأم و قالت :
و هل في عدم وجودها ما يستدعي هذا الغضب في عيونك ؟ ما بك ؟ نظرت ريم إليها و قررت أن تقول :
في طريق الذهاب وجدت فجأة أمامي سيد ، قال أنه يريد محادثتي و لا أعرف ما الذي يريده •• و قبل أن تعلق الأم أكملت و كأنها ترمي حملا أثقلها :
و في طريق العودة وجدت أيضا فجأة أمامي الاستاذ سعيد ، جارنا اللاهي ، أعتقد أنه خفيف الدم و سألني إن كنت أجوب الشارع على سبيل الرياضة •• و للمرة الثانية
همت الأم أن تعلق إلا أن ريم عاجلتها و هي تلقي بنفسها غضبا على أريكة الصالة:
ثم وصفني بصوت عال بأنني طفلة ، أعتقد أن كل من في الشارع سمعه •• تطلعت الأم إلى ريم ، مقطبة ، إلا أنها فجأة وجدت نفسها تبتسم و قالت و هي تمعن النظر فيها:
كبرت و الله يا ريم •• نظرت إليها ريم و قالت بغيظ :
هذا ما لا يعرفه الأستاذ سعيد •• ضحكت الأم و قالت :
بل ربما كان هذا هو الشيء الوحيد الذي يعرفه الأستاذ سعيد يا ريم توجهت ريم بنظراتها المتسائلة لأمها التي أكملت :
مثل هذا الرجل يعرف تماما متى تكون الثمرة ناضجة ، و يعرف إن كانت حلوة أم مرة و يعرف أخيرا متى و كيف يجب أن تؤكل ••