18

19 0 00

ضحك الرجل و هو يضرب صدره يستنشق الهواء كأنه يشــربه و يقفز قفزات متتابعةقال :

 آسف •• هل أفزعتك ؟ كزت ريم على شفتيها مغتاظة و قالت :

 ألا ترى ذلك ؟ فقال باسما :

 آسف مرة أخرى ، أنا عبد الرحمن ، رجل أعمال سعودي ، و اعتبر نفسي من متذوقي الفن التشكيلي ، لذا أقترح أن تزيدي درجة هذا المزيج اللوني ليتناسب مع وقت اللوحة

••لا تنسي ، مازال الليل يجمع فلوله •• تأملت ريم لوحتها و دققت النظر في اللون الذي اختارته لسمائها فوجدت أنه على حق أومأت برأسها و قالت :

 معك حق •• لابد أن يكون أكثر دكنة •• شرعت فورا في إضافة قطرة من اللون الأسود على المزيج فأصبح أكثر دكنة و عندما خطت بفرشاتها على اللوحة بدا اللون مناسبا

•• توقف عبد الرحمن عن رياضته و أخذ يتأمل اللوحة و قد شارفت على الإنتهاء صامتا ، كانت ريم قد أعادت الفرشاة الأخرى إلى فمها و بدأت تركز مجددا فيما تعمل حتى

أنها نسيت أمر الرجل الواقف بهدوء خلفها وبعد قليل ، رفعت الفرشاة من فمها و تنهدت بارتياح قائلة :

 الحمد لله ، انتهيت •• ألتفتت فلم تجده ، شكت للحظة أن تكون واهمة ، أسرعت فرفعت أدواتها و نزلت بسرعة إلى الكابينة •• *** كان العشاء هو الوقت المفـــضل لدى

ريم ، إذ أنهــــم كانوا يتوجهــــون إلى مطــعم الباخرة و ينعمون بطلب المأكولات البحرية التي يجيد المطعم صنعها فيأكلونها على أنغام موسيقى هادئة يوفرها المطعم

لمرتاديه ، و لأن ريم فنانة أساسا فقد كان هذا الجو يمنح خيالها بعدا آخر ، و لم تكن أمها أو أحد إخوتها ليقطع عليها إغراقها في الخيال و الصمت الذي تمارسه

اختيارا بمجرد استرخائها على مقعدها •• و كانت ريم قد ارتدت ثوبا بسيطا أنيقا و رفعت شعرها فبدت أكثر وقارا و أكبر سنا ••عندما انتهت الأسرة من تناول وجبتها

فوجئوا بأن حسابهم مدفوع ، و عندما استفسروا عمن دفعه أشار النادل إلى عبد الرحمن الذي كان طوال الوقت في الطاولة التالية لهم ، رفضت ريم هذه المكرمة و أعطت

للنادل نقوده و طلبت إليه أن يرد النقود إليه ، نهض عبد الرحمن و توجه إليهم و حياهم بهدوء ، فقالت ريم شبه غاضبة :

 نرجو ألا تكرر ما فعلته ثانية يا أستاذ عبد الرحمن •• فسحب كرسيا و جلس دون دعوة منهم قائلا :

 لم الغضب يا آنسة ، إنني رجل أعمال ، و لا أبعثر نقودي دون هدف أبدا •• بدا على الأم عدم الفهم و نظرت إلى ريم و قبل أن تسألها أجابت ريم بسرعة :

 أمي إنه الأستاذ عبد الرحمن ، رجل أعمال سعودي ، تعرفت إليه عند الفجر اليوم بينما كنت أرسم لوحة الشروق •• هذه أمي ، و هذا أخي قاسم ، و هذه أختي سمر •• ابتسم

الأستاذ عبد الرحمن للجميع و قدم تحيته الخاصة لكل منهم ثم قال :

 آنسة ريم ، لقد أعجبتني لوحتك و أنا على استعداد لشرائها منك •• فوجئت ريم بطلبه •• فنظرت إلى أمها و قالت :

 في الحقيقة •• في الحقيقة •• لا أعرف •• لم يسبق لي بيع إحدى لوحاتي ، و هو أمر جديد كليا •• ضحك رجل الاعمال و قال للأم :

 أحضرينا يا ماما •• فقالت الأم بعد تردد :

 الأمر يعود لك يا ريم ، هي لوحتك على أية حال •• لمس رجل الأعمال ترددهـــــا في اتخاذ القرار فأخــــرج بطاقة تحمل اسمه و أرقام هواتفه و دعاها إلى الاتصال

به عندما تستقر على رأي ، أخذت ريم البطاقة و راقبته و هو يبتعد و نظرت إلى امها و إخوتها و فجأة ملأت وجهها ابتسامة كبيرة و همست :

 إنها الحياة العملية قد بدأت •• *** وصلت الباخرة إلى ميناء جدة و بعد عدة ساعات من الإنزال و إنهاء الإجراءات غادرت الأسرة الميناء في سيارة الأب ذات الموديل

القديم ، كان الجميع سعيدا و تناثرت عبارات الأشواق و التحيات و الحكايات السريعة عن الأحوال و أخبار المعارف و الأصدقاء •• كانت ريم تشعر باسترخاء كبير و سعادة

فائقة لعرض رجل الأعمال ، فهي قد جاءت لتبدأ حياة جديدة ، و البداية حتى الآن مطمئنة و تبشر بخير وفير •• و عندما تحلق الجميع حول مائدة العشاء كان الحديث كله

لريم التي لم تأكل قدر ما تكلمت ، و حكت لأبيــها ماحــدث معهم في الباخرة و ما تشعر به إزاء ذلك ، و سألته عن رأيه فقال :

 يجدر بك أن تتأني قبل اتخاذ أي قرار •• عليك أولا بالتعرف على الأوضاع هنا و نمط المعيشة فليست السعودية كمصر ، هناك فروق جوهرية ستلمسيها بنفسك و آمل أن تجدي

نفسك هنا •• و كانت ريم تعرف من خلال زياراتها السابقة إلى المملكة العربية السعودية الخصوصية التي تتمتع بها البلاد و تختلف عن أي بلد آخر •• و تدرك تماما

ذلك البون الشاسع بين حياتها في مصر و حيـــاتها في السعودية ، لذا تفهمت رأي أبيها جيدا و قدرت له ما قاله و تساءلت عن البداية و كيف ستكون ••• كانت ريم تمضي

جل يومها في الرسم ، و كانت الحياة معها تسير على وتيرة واحدة ، تستيقظ في الصباح فتتبادل مع أمها الأحاديث و الأعمال المنزلية حتى يأتي الأب من عمله فيتحلق

الجميع حول الغــــداء و يتبادلـون الحـــديث و من ثم يأخذ الجميع قيلولتهم و عند الخامسة يتجه الأب إلى عملــــه ثانية و تبدأ الأم في متابعة البرامـــج التــــلفازية

و تستغرق ريم في الرسم حتى يعود الاب •• و كان يمكن أن تظل حياتهم على هذا النسق لولا التغير المفاجيء الذي حدث معهم عندما قرر كفيل الأب أنه بحاجة لخدماته

في الرياض العاصمة ، و لم يكن بوسع الأب أن يرفض هذا القرار فهو في البداية و النهاية يسعى وراء عيشـــه و عيش أسرته وفــــق المتــــاح ، و هكذا لملمت الأسرة

حاجياتها و انطلقوا إلى الرياض بعد أن سافر قاسم إلى مصر لإتمام تعليمه في كلية الهندسة مصحوبا بالنصائح و الدعوات •• يرافقه قلق الأب و الأم على غربته وحيدا

••*** في الرياض استطاع الأب أن يجـــد سكنا عائليا رخيصا في منطقة يتجمع فيها الأجانب و من النادر أن تعيش فيها أسرة سعودية ، كانت عمارة سكنية قديمة يعيش

فيها أخلاط مختلفة و جنسيات عديدةمن سوريا و السودان و مصر و اليمن ، استقرت الأسرة في شقتها و بدأت في التعرف على جيرانها فاختلفت قليلا يوميات ريم إذ بدأت

في الاختلاط بجيرانها و التعرف من خلالهم أكثر على مجتمع الرياض و فــــرص العمل و الحياة فيه ، و كانت موهبة ريم أمر رئيسي في اتســـــاع رقعة معارفها هناك

، إذ تبــادل الأصـــــدقاء و المعارف أنباء هذه الفنانة فكانت تتعرف كل يوم على وجه نسائي جديد و كانت تستقبل طلباتهن بترحيب كبير خاصة عندما يتعلق الأمر برسم

وجه طفل لهذه ، أو طفلة لتلك ، و لم تكن تتقاضى أي أجر على عملها إذ كانت تعتبره من قبيل تمرين اليد حتى لا تصدأ مع مرور الزمن •• و في غضون ذلك استطاعت ريم

أن تتعرف أكثر على الجو العام للمدينة من خلال الصحف و المجلات المحلية التي كانت حريصة على تصفحها و قراءتها عندما يأتي بها الأب مساءً •• في ذلك الوقت تحــــديدا

بدأت انتفاضة أطفال الحجارة في فلــــسطين و كـــانت الصحف و المجلات و نشرات الأخبار مليئة دوما بأخبارهم و صورهم ، و كانت ريم مع أبيها أكثر المهتمين بالحديث

حول هذا الموضوع صباحا و مساءً و كم تمنت ريم لو استطاعت المشاركة في دعم الإنتفاضة المباركة بأي عمل وواتتها الفرصة عندما شاهدت عبر مجلة الخدمات المرئية في

التلفاز السعودي دعوة من جمعية الثقافة و الفنون لجميع الفنانين العرب للإشتراك في معرض عن أطفال الحجارة ، شعرت للحظة أن هذه الدعوة موجهة لها شخصيا ، فوظفت

طاقاتها الفنية لهذا العمل ، و شرعت فورا في الرسم •• و عندما انتهت كان ما رسمته جميلا بحق فقد رسمت صورة طفل يقتلع جبلا ليقذف به عدوا يرتجف •• و اتصلت ريم

على الجمعية و أخبــرتهم بأن لديها مشاركة ، طلبوا إليها إرسالها مع أبيها و انتظار ردهم •• و لم يتأخر الرد و ذات صباح حمل إليها رنين الهاتف البشرى بقبول

لوحتها ضمن أعمال الجمعية المتميزة ، و علمت فيما بعد أن هذا المعرض سيشارك في أكثر من دولة على مستوى العالم دعما للإنتفاضة الفلسطينية •• في المساء عندما

جمعتهم الجلسة بعد العشاء تنهدت ريم و قالت دون أن تخص أحدا بكلامها:

 و بعد ؟عم الصمت الجلسة فلم يكن أيا منهم يملك الرد ، إلا أن الأم قالت بعد فترة :

 لما لا تقدمين أوراقك للعمل في أي مدرسة كمعلمة رسم ؟ لم تجد الفكرة قبولا لدى ريم إلا أنها قالت :

 و لم لا •• و لكن هل نسيت شهادتي يا أمي ؟ إنني لم أحصل عليها بعد •• تنهدت الأم وعادت للصمت فقال الأب :

 يؤسفني يا ابنتي أنني لن أتمكن من تسديد مصاريفك للحصول على الشهادة فالمبلغ الذي يحتاجه قاسم كل عام ضعف المبلغ الذي تحتاجينه و ليس بمقدوري الحصول على مال

يكفي الجميع ليس قبل عامين عندما ننتهي من تعليم قاسم •• ابتسمت ريم و قالت لأبيها :

 يكفيك ما عانيت يا حاج ، كان علي أنا أن أدبر المبلغ ، لكن كما ترى لا يوجد عمل لمن تحمل مؤهلي •• فقالت الأم على الفور :

 ألم تعرض عليك جارتنا السودانية أمل عملا قبل يومين •• أجابت ريم مستنكرة و قالت :

 يا أمي العمل في سوق نسائي كبائعة طوال اليوم ليس بالعمل الذي يناسبني ، لا تنسي أنني لا أتقن فنون البيع ، بالإضافة إلى أن أجرة هذا العمل ضئيلة جدا قياسا

على تعبه ، إنني بعد يوم عمل في السوق لن أتمكن من الرسم ساعة واحدة •• هزت الأم رأسها و همست :

 أمر الله •• فقال الأب :

 أتركي ريم في حالها يا سميحة ، لم نعلمها لتصبح بائعة •• فقالت الأم و هي تتأهب للدفاع عن وجهة نظرها :

 اسمع يا جهاد و أنت يا ريم ، لا يقدر على القدرة إلا الله ، و هذا هو المتاح حتى تستطيعي تحرير شهادتك من الجامعة بمصر ، صحيح هو قليل لكنه عندما يدخر سوف

يكون المبلغ المطلوب ، هذا من ناحية ، و من ناحية أخرى العمل في السوق سوف يجعلك تعرفين أناسا جددا و مستويات مختلفة وقد تجدين فرصتك يوما ، لا شيء بعيد على

الله ، بدلا من هذه الدائرة المفرغة التي ندور فيها و لا نعرف طريقا للخروج منها •• بدا الاقتناع على وجه ريم ، و نفث الأب دخانه و قال :

 يبدو كلاما منطقيا •• لكنه شديد القسوة •• تنهدت ريم و قالت :

 لا نملك إلا المضي فيه ، غدا أكلم أمل إن شاء الله •• *** التحقت ريم بالعمل مطلع الأسبوع التالي مباشرة ، و كانت قد قابلت صاحبة السوق النسائي مقابلة شخصية

و قبلتها المرأة بعد أن عرفت ظروفها و تقرر لها أن تعمل كبائعة في محل للأدوات المنزلية براتب شهري قدره 058 ريالا سعوديا •• و في اليوم الأول لعملها عرف الجميع

موهبتها عندما أعادت ترتيب الأدوات المتناثرة بذوق عالي و استخدمت ابتسامتها الساحرة في استقطاب عميلا ت للمحل و انشغلت بعملها الجديد حتى إنها كانت لا ترى

إلا منكبة على لوحات ورقية تكتب عليها ما يتميز به محل الأدوات المنزلية من تخفيضات و فرص ذهبية للمشتريات •• و ذلك المساء عندما عادت ريم من عملها كان يبدو

عليها الملل و الرغبة في البكاء فسارعت الأم إلى إعطائها رسالة وردت من ليبيا باسمها و أحضرها الأب معه ظهرا ، أمسكت المظروف و قالت بلا مبالاة :

 إنه من سهيل •• كانت كلمات الرسالة قليلة و مقتضبة و فيها خبر واحد هام هو أن سهيل سيأتي إلى السعودية بعد شهرين للعمل في الرياض بعد أن توفرت له فرصة عمل

كان ينتظرها •• أبلغت ريم أمها بما في الرسالة فقالت الأم :

 أعرف ما بك ، فلن أسألك •• قالت ريم :

 يكاد الملل يقتلني ، نفس العمل بنفس الطريقة كل يوم ، حتى العبارات التي أتبادلها مع زبائني هي نفسها ، البضائع متشابهة و الوجوه متشابهة ، و أصابعي أصابها

الصدأ ، هل تعرفين يا أمي منذ متى لم أرسم ؟ قالت الأم و هي تنصرف :

 سأعد لك العشاء ، لابد أنك جائعة •• تنهدت ريم و استلقت على فراشها و همست :

 كم أتوق الى التغيير •• *** لم تكن الأم بحاجة إلى أن تسمع من ريم أحوالها ، فهي على اطلاع دائم على يومياتها ، تعرفها منها و تكاد تحفظها ، و هي تعلم أن ابنتها

هجرت الرسم لأن عملها يتطلب منها الوقوف على قدميها الساعات الطوال و إرهاقها خلاله كان يدفعها إلى الفراش دفعا بمجرد عودتها ، تعلم أن ريم لم تعد تواجه لوحتها

إلا لتخط عبارات دعائية مزخرفة الأركان و الحواشي منذ ما يقرب من ثلاثة شهور ، و تعلم أن ريم غير راضية عن عملها هذا ، إلا أنها عاهدت نفسها على ألا تتـــحدث

مع ريم في هــــذا الموضوع لئلا تثبط همتها و تدفعها لاجترار ضيقها فيتضخم حد المأساة ، كانت الأم ترى أن هذا الوضع بداية انفراج رغم ما يكتنفه من ضيق ، فهي

منذ ثلاثة شهور تجمع راتب ريم و تضعه في علبة داخل خزانة ملابسها و لا تمد يدها إلى قرش فيه رغم احتياجهم أحيانا إلى بعضه ، و رغم إصرار ريم على أن يساهم راتبها

في مصاريف البيت ، لكن الأم كانت ترفض و تجبر نفسها و ابنتها على عدم صرف أي قرش منه ، و أصـــبحت ريم تتجــــاهل كونها في سوق و تتعرض لمغريات شراء عالية كل

يوم فهي تعمل مؤقتا من أجل هدف واحد و لا بد من تحقيقه مهما كلفها الأمر من صبر •• هذا من ناحية ريم ، أما سمر و التي كانت قد بلغت العاشرة من عمرها فقد تمكنت

الأم من الحاقها بمدرسة إبتدائية في حيهم لاستكمال دراستها التي بدأتها في مصر ، و كان قاسم قد أرسل إليهم بانتهاء الفصل الدراسي الأول للسنة الثالثة بكلية

الهندسة ، و لما كانت الاسرة لا تستطيع تحمل نفقات سفرهفقد تقرر أن يظل في مصر فترة الاجازة، إلا أن هذا الأمر وقف أمامه عائق الاقامة فلقاسم إقامة في مصر

و إقامــــة في السعودية و إذا مرت ستة شهور على أي الإقامتين دون أن يدخل صاحبها البلاد سقطت و تعذر عليه العودة مجددا ، لذا فقط اضطرت الأسرة إلى ضغط نفقاتها

و استعمال بعض من مدخرات ريم لكي يتمكن قاسم من الحضور بواسطة الحافلة إلى الرياض ، و بدا أن الأسرة قد نظمت أمورها و استجابت لظروفها متقبلة كل ما يجري عليها

في سبيل أن يحمل كل فرد فيها سلاحا ضد مستقبل مجهول •• *** عندما جاء قاسم في زيارته القصيرة استقبلته ريم استقبالا خاصا ، فربما كان مجيئه يحمل تغيرا تتوق

إليه و لو في شكل خبر مفاجيء ، أو قصة طريفة ، أو حتى خبر محزن ، المهم أن تتحرك مشاعرها سلبا او إيجابا ، لتشعر أنها مازالت تعيش •• كان قاسم متفهما تماما

لما تشعر به أخته ، فهو يعــرف أن روحها الوثابة ترفض الرتابة ، و تتحرى مواطن التحدي لتقتحمها ، و الحياة في المملكة العربية السعودية تتسم بالوداعة و التكرار

خاصة لمن في مثل ظروفها تحمل روح فنانة و تعمل في غير مجالها ، لذا عندما انتهى بهما المطاف آخر اليوم وحدهما قالت له ريم بلهفة :

 حدثني عن أهل مصر ، حدثني عن زملاء الجامعة و عن سعيد و عن سوسن و حتى عن سيد ، حدثني عن الشوارع و المحلات و المواصلات و السماء و الأرض و الحواري و بيتنا

، حدثني عن غرفتي و عن مطبخنا و عن منظر القمر من نافذتي •• حدثني يا قاسم عن كل شيء مهما بدا تافها في نظرك فإنه يعنيني ، يهمني •• قل يا أخي ، قل •• ابتسم

قاسم متفهما و كان شاربه الكث الذي يشبه شارب أبيه قد فرض على شخصيته وقارا كبيرا و قال :

 اسمعي يا ريم ، أنا أعرف علة شوقك إلى الأخبار التافهة ، إنه الملل ، أنت لم تستطيعي بعد أن تتكيفي مع الوضع هنا ، لم تستطيعي أن تخلقي منه واقعا تتعايشين

معه ، التقصير منك يا ريم ، أعذريني ، لكنك أختي و أنا منزعج من الحالة التي وصلت إليها •• و تهز ريم رأسها و تقول بألم :

 أنا أعرف أنك صادق فيما تقول لكنني لا أملك تغير واقعي ، كل ما حلمت به أنهار فجأة ، أنا في النهاية بائعة في محل للأدوات المنزلية ، أسعى من أجل تحرير شهادة

لأعمل بها معلمة رسم ، لا هذا و لا ذاك هو ما أتمنى ، أصابعي علاها الصدأ لم أرسم شيئا منذ ثلاثة شهور أو يزيد ، ماذا أفعل يا أخي ، ماذا أفعل ؟ نهض قاسم من

مكانه و تصفح بسرعة حامل الرسم ، وجد عدة ورقات بيضاء فوق لوحة الشروق التي رسمتها على ظهر الباخرة ، أزاح الورقات البيضاء و قال لريم :

 لقد دفنتي ريم خلال هذه الشهور مثلما دفنت الشروق خلف هذه الأوراق ، أين ريم التي كان الوطن عندها سؤالا بلا إجابة ، يعذبها البحث عنه ، و يقويها البحث عنه

، أين الوطن الآن في مساحة تفكيرك و اهتمامك يا ريم ؟ •• نكست ريم رأسها أرضا و لم تجب ، صدق أخيها في كل ما قال و لكن ماذا تفعل ، هذا السؤال بدا عميقا في

عيونها و هي ترفعها متسائلة إلى قاسم ••عاد قاسم فجلس بجوارها ، أمسك يدها و قال :

 ريم ، كوني عملية أكثر ، أنت تريدين ريم الفنانة ، و ترفضين ريم البائعة ، أو معلمة الرسم ، إذن اسعي في طريق ذلك ، وفق إمكانياتك المتاحة ، أنت في سوق نسائي

، مجال الديكور المنزلي و لوحات الحائط فيه سيكون أفضل من الأسواق المفتوحة ، لأن الفن يتطلب عيونا متأملة و فنانا يقدر ما يقوم به ، ابدئي بركـــن في المحــــل

الذي تعمــلين به و عندما يتيسر لك دخل مناسب حاولي استئجار محل خاص بك ، حاولي أن تقدمي خدمة متميزة ، لا تقصري نشاطك على رسم اللوحات فقط ، ادرسي السوق و

احتياجات الناس و ابدئي فورا •• هل تفهمين ؟ أومأت ريم برأسها تفهما و لكنها قالت :

 و لكن متى يا أخي ، إنني أعمل يومـــيا في المحل مــنذ الرابعة و النصف حتى التاسعة و النصف أعود منهكة أريد فقط أن أنام ، و في الصباح لا يشجع الجو على العمل

، فالحرارة مرتفعة و المنزل مطروق و الجارات يزرننا و أعمال المنزل العادية تستغرقنا ، إذن متى يمكنني عمل أي شيء خلاق و كيف ؟ فقال قاسم بعد فترة صمت :

 لو أنك أردت لاستطعت ، كان بمقدورك دوما أن تفعلي ، إنها مشكلتك و أنت من يجب أن يحلها •• خططي لهدف ، هذا هو الأهم ، أن يكون لديك هدف ، يمكنك أن تجعليه على

مراحل كل مرحلة هدف لكي تصلي إلى الهدف الأكبر في النهاية ، المهم لوني حياتك ياذات الرداء الأزرق •• تركها قاسم في حيرة و مضى ليستريح ، كانت قد سهرت كثيرا

الليلة بسبب عودة قاسم ، و كان عليها أن تكون نائمة قبل ساعات من الآن ، لكنها عوضا عن النوم ، اتجهت إلى حامل الرسم ، تطلعت إليه مليا ، داعبت بأصابعها أركانه

و زواياه ، غطته بكفها و دارت بها على كل الحامل ، كانت تشعر بحنين إليه ، مدت يدها و أمسكت فرشاتها ، علب الألوان ، اللوحات البيضاء ، احتضنتهم ما وسعــها

و قالت بصــوت دافيء ، كأنها تشده من الماضي :

 كم أشتقت إليكم يا أعزائي