25

21 0 00

و جمعتهم الأم •• جمعت أولادها الثلاثة في غياب الأب •• كانت حازمة للغاية قالت موجهة حديثها للجميع :

 أشعر أن شرارة نار صغيرة ترعى الآن في صدوركم •• شرارة نار لن تلبث أن تصبح جحيما •• ماذا حدث يا أولاد جهاد ؟ نظرت ريم إلى قاسم فبادلها النظر و قالت سمر:

 لا أفهم يا أمي •• فقال قاسم بهدوء :

 شرارة النار لن تحرق إلا الإستسلام و السلبية يا أمي •• قالت الأم و هي تنظر إليه بقوة :

 إذا بقيت شرارة يا ابن بطني ، أما اذا تحولت إلى جحيم فإنها ستحرقنا جميعا و أولكم أبيكم •• قالت ريم بسرعة :

 أبعد الله الشر عنه يا أمي •• ماذا حدث ؟ فقالت الأم و هي مازالت تنظر إلى قاسم:

 ليلة البارحة لم ينم أبوكم •• كانت روحه تحترق من أجلكم •• تملكته فكرة غريبة •• تحدث و كأنه أضاع عمره بلا ثمن •• لماذا قسوتم على أبيكم ، لماذا يا قاسم ؟

أخذ قاسم نفسا عميقا و قال و هو متأكد أن ما سيقوله لن يكون هينا :

 أمي •• عندما غادر أبي فلسطين قبل أكثر من سبعة و عشرين عاما كان شابا ، واحدا ، عانى من قسوة ظروف لا ترحم و جاء إلى مصر بحثا عن الأفضل •• و عندما تزوجك

لم يفكر للحظة واحدة في مستقبل لن يكون فيه وحيدا •• كل ما فكر فيه وقتها أن يصنع لنفسه وطنا بدلا عن وطنه الذي انتزع نفسه منه انتزاعا ، نسي في خضم فرحته بوطنه

الجديد و مسؤوليات الأسرة ، أن الوطن الذي صنع وطن غير معترف به ، لا يكفل لمن ينتمون له أبسط الحقوق ، و لا يمنح من يلجأ إليه الأمان ، وطن يعوزه مباركة العالم

، نسي و هو يحملنا صغارا واحدا بعد واحد أن وطنه بلا حدود ، و أن صغاره ينبغي أن يظلوا صغارا لا تعدوا حاجتهم طعاما و شرابا ، لعبة و تدليلا •• تركنا نكبر رغم

أن الأرض تحتنا ليست لنا ، تركنا نحلم رغم علمه بأن أحلامنا على بساطتها غير قابلة للتحقيق •• و عندما اصطدمت أحلامه فينا بعقبة المال ، أبدي بسرعة استعداده

المطلق للتغرب عنا من أجل تأمينه لنا ، حتى يظل حلمنا يكبر و تظل أحلامنا تتسع و نفاجأ و نحن نوشك على قطف الثمار أننا لا نملك الحق فيها ، ليس لدينا مسوغات

الحياة اللائقة •• مجرد كائنات تؤدي وظيفة واحدة ، هي تحقيق حلم أسطوري للاجيء قديم بأن يصنع لنفسه وطن •• غير أننا يا أمي أصبحنا بدورنا لاجئين ، نبحث بجنون

عن وطن نريح عليه أقدامنا المتعبة و نثبت فيه جذورنا التي تتمايل في الهواء •• ريم بحثت عن وطن فاصطدمت بالعجز و القسوة، و أنا بحثت عن وطن فأغلقوا الباب

دوني •• و هو مصير ينتظر سمر أيضا ••لا تلومينا يا أمي إذا طفح الكيل منا ووجدنا أنفسنا أمام أنفسنا ، فصارحناها ، كاشفناها بحثنا في ذواتنا عن أصل الخطأ

، و قررنا معالجته •• تنهدت الأم و نظرت إلى ريم ، أدركت ريم أن عليها أن تتكلم بدورها ، عليها في هذه اللحظة أن تقرر إذا كانت توافق قاسم فيما يقول أو أنها

ضده ، كان لابد أن تتكلم فتكلمت قالت بحروف تتعثر في الحياء و الارتباك :

 أمي •• أنا أحب أبي •• أحبه حبا جما ، و اراه أعظم رجال الدنيا ، و أنظر إلى عطائه لنا طيلة سنين غربته نظرة إكبار و تقدير ، لكنني عندما أناقش حياتنا مع نفسي

، أو مع قاسم ، أو حتى على الملأ معكم جميعا ، أحاول و يحاول أخي أن نضع النقاط على الحروف ، أن نحدد لخطواتنا موقعا قبل الشروع فيها •• سنة الحياة يا أمي أن

يكبر الصغار و أن تنفصل أحلامهم عن أحلامكم •• و أن تختلف رؤيتهم للحياة عن رؤيتكم •• لقد ظللنا حتى التخرج و رغم المعاناة التي شربتموها معنا نحقق أحلامكم

•• كنا نعتقد أنها بدورها أحلامنا ، لكننا اكتشفنا ، و سأتحدث عن نفسي على الأقل •• اكتشفت أن ما فعله أبي معي كان هدفه هو •• لابد للمرء أن يضع لنفسه هدفا

حتى يعيش من أجله ، و أبي الذي فقد وطنه ، و يعرف أن حلمه في أرض ، أو منزل ، أو شيء يملكه سيكون من قبيل حرث البحر ، ارتاح كثيرا إلى أن يجعلنا هدفه •• ارتاح

كثيرا إلى فكرة أنه يكافح من أجل أن يصل أبناؤه إلى أعلى الدرجات العلمية •• هذا الهدف يا أمي له ميزة عظيمة لأبي فهو هدف متواصل سيظل يكافح من أجل تحقيقه حتى

تتخرج سمر بدورها ••و هو هدف في حد ذاته عظيم و نبيل و قد أداه والدي حتى الآن كأفضل ما يكون •• لكنه نسي في خضم هذا أننا كائنات حية و بدورنا تتشكل أهدافنا

و تتوجه نظراتنا و تتغير اتجاهاتنا •• لسنا مجرد عرائس تتحرك وفق رغبة محركها •• نحـــن أهــــداف متحركة تنــمو و تكبر و تتسع نظرتها في الحياة لتشمل كل شيء

•• إننا نريد أن نضع حدا لهذه الحياة •• نضع حدا لطريق سرنا فيه منذ البداية لتحقيق رغبة لأبينا ، نريد طريقا آخر لأنفسنا ، يدفعنا له هدف نسعى بدورنا لتحقيقه

، لا نريد أن نظل طوال حياتنا رهن طريق واحد يقودنا في النهاية إلى لا شيء •• تنهدت الأم ثم قالت لهما دون أن تخص واحدا منهما بسؤالها :

 و ما هي أهدافكم يا أولاد جهاد ؟ للمرة الثانية يتبادل قاسم و ريم النظرات فتقول ريم بهدوء :

 مازلت لم أحددها بعد •• و يقول قاسم :

 عما قريب ستعرفانها •• *** كانت حرب الخليج قد انتهت و عاد الكويتيون إلى بلادهم و في حفل أقامته السفارة الكويتية دعيت ريم لحضوره تم تكريم كل من شارك في

مساندة الشعب الكويتي ، و نالت ريم شهادة تكريم جميلة و دعوة كريمة بزيارة الكويت من عضوات اللجنة الذين كانوا يكنون لريم"المصرية" كل التقدير •• و استيقظ العالم

ذات صباح قريب على مؤتمر السلام في مدريد •• وبعد ذلكتابع جهاد مع أسرته على الشاشة المصافحة التاريخية بين رموز بلاده و أعدائهفي حديقة البيت الأبيض ••

 ساد الوجوم الوجوه •• نظر جهاد في عيون أولاده •• ضعف غريب كان يسكن عيونه ، شعر أنه لا يستطيع التقاط أنفاسه •• جر قدميه جرا أمام عيون الجميع و اتجه إلى

فراشه •• احاطه الجميع بقلقهم ، بحبهم ، تطلع إليهم ، كان يراهم من بين ضبابات غربته •• تجمعت في عيونه دموع ساخنة •• استجاب ليد سميحة و هي تمسك يده فضغط عليها

بقوة ضعفه و قال و هو يطالع لوحة البئر غير المكتملة التي رسمتها ريم ذات يوم بعيد :

 إنها نهاية الرحلة يا سميحة •• لم تستطع سميحة أن تتكلم هزت رأسها رافضة و دموعها تتزاحم على وجنتيها •• ركعت ريم بجواره ، مسدت رأسه بحنان قالت و هي تحاول

أن تبدو قوية :

 أبي ، أنت أقوى من كل شيء ، لا تعطي الفرصة للهزيمة كي تأكلك •• انهض يا أبي •• عد إلينا ، نحتاجك •• اقسم إليك أننا نحتاجك •• مد جهاد يده باتجاه قاسم ، فلبى

سريعا النداء فيها و أمسكها بكل الحب ، طبع قبلة حارة عليها فقال الأب :

 لم يكن هباءا حصاد العمر •• زرعت فيكم الغد الذي لم أره ، و غدا عندما تواجه دنيا يحكمها قانون البقاء ، سوف تجد أنني كنت على حق عندما رسمت لكم حدود الوطن

في شهادة تحملها ، و أخلاق تربيت عليها و احترام لائق تعيش فيه ، جد طريقك فلقد أعطيتك المفتاح و لكن انتبه لنفسك •• هؤلاء هم الأمانة التي أتركها في عنقك يا

قاسم •• سمر لابد أن تكمل تعليمها ، و ريم لابد أن تتزوج رجلا حقيقيا •• وصن أمك في عيونك •• حافظ على نفسك •• كن كما عهدتك دوما رجلا يا بني •• انفجرت ريم

في البكاء و جاوبتها سمر فقال الأب و هو ينظر للجميع :

 سامحوني ، و اطلبوا لي الرحمة ، و إذا شعرتم يوما أنني حرمتكم من شيء فلا تجعلوه في عنقي و أسألوا لي المغفرة ••بعدها لم يكن الأب يتكلم إلا بهمهمات قليلة

تتبين فيها الأسرة أسماء قديمة ظلت محفورة في ذاكرته •• استمر يومين ينازع الشوق و الحنين ، لا يفارقه أبناؤه و زوجته حتى وهبه الله النطق بالشهادة و مات ••

مات جهاد •• *** ذات يوم حمل لي البريد نعي عمي ، و اليوم يحمل لك البريد نعي عمك •• كأن البريد بيننا نذير موت لا ينتهي ، و كأنما الأقدار أبت إلا أن يكون

رباط الدم بيننا دائما مسفوحا •• تامر •• يسكنني الخوف منذ سنين يا ابن عمي ، أشعر به نبضا صارخا يدق كطبول حرب لا تريد أن تضع أوزارها •• أشباح الغربة تطاردني

كأنها لا تعرف في الدنيا غيري ، كأنها مكلفة بمراقبتي ، تلف أنشوطتها حول عنقي و تسحبني ، إلى نفس المصير تسحبني ، إلى فراش بارد في غربة قاسية ، يوما ما سألفظ

أنفاسي المحترقة حنينا في ذات الغربة التي لفظ فيها أبوينا انفاسهما ، في دنيا دأبها العناد ، و دقات ساعاتها الفراق •• في نار تتأجج من أعصابنا ، و تستعر بلحم

اجســادنا•• هباء ، كل ما عشناه حتى الآن هباء •• كل ما لاقيناه كان بلا ثمن ، زفرات الحنين ، و أنات الحرمان ، و قسوة الظروف و البشر ، كلها بلا ثمن ، ضاعت

يا تامر ، ضاعت يوم ارتضينا معاهدة سلام ترخي على عذاباتنا الستارة المزركشة ، و تخفــي أناتنا خـــلف الموســيقى الصاخبة •• تحضرنا و نزعنا مسوح الأجلاف يوم

قطفنا زهرانبت على قبور أحبابنا لنهديه طوعا لأعدائنا •• و ماذا بعد يا تامر ؟ ماذا بعد •• الجرافة العملاقة تسير في الطرقات تحمل جثثنا اكواما نتنة لتلقي

بها في الأتون ، تسعره حتى يضيء شعلة سلام مزعومة •• لا تقل لي يا ابن عمي أن ثمة أمل ، لا تكتب أشعارا عن الوطن و تحفرها فوق أضلاع قفصك الصدري ، و تنقشها

وشما على قلبكالمتعب ، لقد مات جهاد ••لقد مات أبي •• *** كان الكفيل رحيما ، أمهلهم شهرا حتى ينتهوا من كل ما يربطهم بالبلاد و يستعدوا للرحيل ، كان الجميع

على كفالة رجل مات قهرا ، و كان موته إيذانا بالنهاية •• لملموا أغراضهم ، و تنهدت الأم تحمد الله أن لها وطنا يمكن أن يعيش فيه أبناؤها •ليلة الرحيل بدت

ريم ساهمة في ثوبها الأسود ، همست و هي تنظر للحقائب المكومة :

 هل سنترك أبي هنا للأبد ؟ تطلعت إليها الأم واجمة •• لم ترد فأكملت ريمو دموعها تغلبها :

 ألن نستطيع بعد اليوم زيارته ، حتى قبر يضمه لن يكون بمقدورنا قراءة الفاتحة عنده •• سنتركه هنا ، جدث مجهول ، لرجل مجهول ، عاش و مات مجهولا ••قالت الأم

و شفتاها ترتجفان :

 أطلبي له الرحمة أنى كنت يا ريم •• إسألي الله له المغفرة و الجنة في أي مكان •• الله موجود في كل مكان •• تمتمت ريم :

 لو كان له وطن •• لو كان لنا وطن •• لو كان من حقه أن يحتل في بلده مترا في متر لما عاش غريبا ، و مات غريبا •• آه ه آه ه ، كم أنا مقهورة و حزينة •• كم نحن

بلا ثمن يا أمي •• بلا ثمن ••أحزاننا قوقعة اتخذت شكل أجسادنا و أصبحت من تكويننا ، يعتقد من يراها أننا خلقنا بها ••لكننا لم نخلق بها •• ولدنا بقشرة رقيقة

من الحزن مع الأيام صارت غلافا ، قوقعة •• لم يدرك الناس أننا لا نحبها •• نريد الخلاص منها ، ظنوا طرقنا المستمر عليها حفلات رضى و رقصات حبور ، لم يفهموا

يوما أنها صرخات احتجاج و محاولات تمرد عليها •• مسحت دموعها و أردفت بهدوء :

 محاولات لم يكتب لها النجاح أبدا •• وسنظل نحمل قوقعة الحزن فوق أرواحنا حتى نموت •• صاح قاسم بقوة : لابد من حل •• لابد من تغيير ، لابد لليلنا الطويل

أن ينتهي •• لن نظل نتوارث الحزن جيلا بعد جيل ، نتوارث الهم و اللجوء أبا عن جد ، لابد من بعض السكر في اباريق العلقم التي نزدردها لكي نعيش ••أمسك يد ريم

و قال و هو يضغط عليها بقوة :

 لابد أن فرجا سيأتي يا أختي •• سيأتي يوم نخرج فيه من دائرة الإتهام ، و يرى العالم أننا أوفينا العقوبة و أمضينا الحكم ، وكان سلوكنا حسنا•• سيأتي يوم لن

يبحث فيه أولادنا عن أرض ينامون فيها ملء عيونهم ، لن يبحثوا فيه عن حنان زائف يحتضن همومهم ، لن يبحثوا فيه عن عيون تتفهم قضيتهم •• سيأتي هذا اليوم •• أنا

أكيد •• هزت ريم رأسها و ابتسمت متهكمة و قالت و هي تسحب يدها :

 مهزوم أنت يا أخي •• و المهزوم دوما يبحث عن خلاص •• يحلم بخلاص •• لكنه لن يأتي هذا الخلاص •• فقال قاسم بتصميم :

 بل سيأتي ، إن لم يتغير العالم فلنسعى نحن لتغير الظروف ، إن لم يأتنا الفرج فلنرسم نحن ملامحه ، نصممه يا فنانة •• دعينا نضع خطوط غدنا الذي نريد ، دعينا

نفجر قوقعتنا و نزحف بعيدا عنها بإيدينا ••

 لن نستطيع ••

 إن شاء الله سنستطيع •• علت أبتسامة هزيلة شفاهها و صرخت روحها :

 كم أنك واهم أيها المهزوم ، كم أنك واهم ••

القسم الرابع:

 أصبحوا على متن باخرةالعودة •• باخرة عملاقة تحمل آلاف البشر ، ضاعت ملامحهم وسط الملامح •• كان الهم في قلوبهم يزيل عن وجودهم صفة الوجود •• تطلعت ريم إلى

ميناء جدة و هو يبتعد و تنهدت ••كان لها في هذا المكان يوما حكاية ، وتذكرت مشهد الوداع و كم كــان صعبا مع مشـــاعل و كل زميــلات الســوق و حتى أم عبدالله

قالوا لها و هي ترفع شهادتها من فوق حائط الجاليري :

 تذكرينا يا ريم •• ابتسمت و هي تقول :

 في صندوق ذكرياتي متسع للجميع •• قالت مشاعل و هي تحمل ريم الصغيرة :

 لن أنساك أبدا يا ريم •• ستظل ريم ابنتي تذكرني بك •• احتضنتها ريم و هي تقول:

 أقسم بالله أني أحببتك صادقة يا مشاعل •• و إنك كنت دوما نعم الصديقة ، نعم الإنسان ••

 أكتبي لي ••

 سأكتب •• أعدك ••

تنحت بها أم عبد الله ركنا ، منحتها ظرفا منتفخ و قالت و هي تحتضنها :

 تذكري يا ابنتي أن الحياة ليست كلها شرا •• و دعيني أسمع عنك ما يسر ••

أومأت إيجابا و احتضنتها محبة و داخلها صوت يقول :

 ليت كل الناس مثلكم •• صفارة الباخرة أفاقتها من شرودها •• كان قاسم بجوارها همس و هو يتطلع للماء :

 سنبدأ من جديد يا ريم •• ابتسمت ريم و علقت :

 كل يوم بداية جديدة ، متي نتابع يا أخي البدايات ؟ ركز قاسم وجهه في الماء و قال بصوت حالم :

 يذكرني لونه بعيون ماهي ، كانت زرقاء كلون البحر و السماء ••

 أحببتها ؟

 كما لم أحب من قبل يا ريم •• أحببت فيها أمانا لن يكون لي في يوم من الأيام ، استقرارا و أسرة عادية ليس بوسعي أن أحلم بمثلها •• أملا أزرقا جميلا منحه لي

الله سنوات قليلة •• ما أجمل الحياة حين نحب ••

 أسأل الله أن يجمعك و إياها زوجين كما تتمنىتنهد قاسم و أدار ظهره للبحر و قال :

 لن أخدع نفسي يا ريم •• عودتي الســريعة لا تعني أن مشكلتي حلت ، مازلت فلسطينيا يا أختي •• لكنني أفكر بأمر آخر ••

 ما هو ؟ قال قاسم بتصميم من قرر :

 أن أبحث لنفسي عن جنسية رقمية ، جنسية يعترف بها العالم كله ، جنسية لا يستطيع كائنا من كان أن يرفضها أو يضطهدها •• سيكون هدفي المال يا ريم ، المال هو حل

اللغز ، عندما أصبح ثريا ، شديد الثراء لن يسألني الدكتور عامر عن جنسيتي ، و لن يضيع أبنائي في متاهات اللجوء ، سأتمكن من شراء جنسية عالمية أمنحها لأبنائي

يحترمهم العالم بها و يفتحون لهم من أجلها الأبواب المغلقة •• هذه هي جنسيتي الجديدة التي سأسعى لها ما حييت •• كانت ريم تسمع أخاها و دهشة كبرى تعقد لسانها

همست بعد أن انتهى :

 هذا جنون •• هل تعني أنك تريد طوعا هجر جنسيتك ، الأثر الوحيد الذي تحمله لانتماءك و أصلك ؟ أجاب بصوت حاسم :

 نعم •• هذا هو غدي الذي أريده •• و لن يمنعني من تنفيذه أي شيء •• هذا هو الهدف الجديد يا ريم ••أنت أيضا ابحثي عن هدف يخصك ، هدف تجدين فيه نفسك ، ابحثي خارج

إطار الوطن المفقود عن شيء آخر ، معنى آخر للحياة •• صدقيني هذا هو الحل •• شيء كبير داخل ريم كان يرفض الكلام ، يرفض الحروف ، يرفض اللهجة ، و عالم كبير حولها

كان يؤيده ، يتبناه ، يقول نعم هذا هو الحل ••تركته وحيدا يدير ظهره للأزرق و يحلم بجنسية جديدة و عادت للكابينة •

***

عندما وصلت الباخرة ميناء السويس تمتمت ريم :

 لقد عدنا •• لكن الواقع أنهم لم يعودوا •• الواقع قال كلمة نزلت عليهم كالصاعقة :

 الأم فقط تدخل أما أنتم فعودوا من حيث أتيتم •• لا إقامة لكم هنا ••

تلفتوا ينظرون حولهم ، غير مصدقين لما يسمعون ، العبارات واضحة ، لكن لابد أن هنالك خطأ ما ، لابد أن هذا الحديث لأشخاص هلاميين حولهم ، ليس لهم ••تمسكت سمر

بأمها فصاحت الأخيرة :

 لكنهم أبنائي •• قال المسؤول و هو يمط شفتيه :

 هذا هو النظام •• عادوا يتلفتون حولهم ، ينتظرون نجدة من السماء تذيب جبل الجليد القابع أمامهم ، لا يمكن تصديق ما يقوله ••جلست ريم على الحقائب المكومة

و همست بألم :

 إنها حقيقة •• احتج قاسم بأعلى صوت يملكه ، لوح بيده في وجه الموظف ، أوشك أن يمد يده ليضربه •• كل هذا لم يجدي نفعا •• بالعكس زاد من إصرار الموظف على تنفيذ

النظام •• و قال له و هو ينهي الحديث :

 لو دخل الجميع فلن تدخل أنت