أهلا ريم ، ننتظر انضمامك إلينا في أسرع وقت •• و قالت هدى :
عن نفسي سوف أساعدك بما فاتك من محاضرات ، فأنا أحسنهم خطا •• و قال سمير :
مرحبا يا ريم ، الجامعة نورت •• و قال فؤاد :
لا تبدين كفلسطينية ، إنك تشبهيننا ••!! هزت رأسها عجبا و تحفزت للرد فقال أحمد:
لا عليك ، لقد قطعت ذيلها و اقتلعت عينها الثالثة !! فقال محسن :
قصد فؤاد أن يؤكد أنك صرت منا بالفعل و بين أهلك ، لكنه لا يحسن التعبير •• ابتسمت ريم للجميع ، و كانت ابتسامة فرحة ، ابتسامة أمل جديد ، و غد أفضل •• عادت
تتصفح وجوههم و تستشعر ابتساماتهم المرحبة في قلبها ، فقال أحمد :
هل قابلت الأستاذ شاكر ؟
هزت رأسها نفيا فقال :
إذن تعالي •• سارأفقك •• و عند الأستاذ شاكر مدير شؤون الطلاب سارت الأمور على النحو المتوقع ، فلقد ، استمهلها لوقت ينهي فيه ما أمامه و يبحث عن طلبها ليعطها
الرد و تعمد الانشغال فترة أطول مما يجب و في النهاية مد يده بالورقة و قال من تحت نظارته :
لقد وقع عليها العميد بالقبول على ألا تدخلي الامتحانات إلا بعد دفع المصاريف •• مدت يدها لتأخذ الورقة فانتشلها أحمد بسرعة و قال:
هذا هو المطلوب يا حضرة المدير •• هيا يا ريم المناسبة تستحق احتفالا صغيرا •• خرجا من الغرفة ، و لم تدر ريم ماسر هذا الاهتمام من أحمد بالموضوع و كأنه موضوعه
، راقبته و هو يمسك بالورقة يديرها بين يديه و يسير شبه راقص إلى حيث تقف شلة الشغب الجامعي و يقول لهم و هو يهز الورقة أمام عيونهم :
الموافقة الكريمة صارت معنا ، ريم صارت معنا قولوا مرحبا لريم •• و تعالت أصواتهم بالتبريك و التهنئة و نزل الجميع الدرجات قفزا و ساروا باتفاق غير معلن نحو
استراحة الجامعة ، و كانت هي المرة الاولى التي تدخلها ريم ، و اتخذوا مقاعدهم حول طاولة مستديرة و صفق أحمد قائلا للنادل :
أفضل مشروب لديك يا ولد •• فقال النادل مبتسما :
وجه جديد •• فقال أحمد :
بل زميلة دراسة مستجدة ، والدها في السعودية ، اخــدمها جيدا و لن تنساك بالبقشيش ••
من عيوني ••
في أجواء المرح استطاع الزملاء الجدــد أن يدخــلوا عــلى ريم الفرحة و الشعــور بالأمان ، و ناقشوا معها الخطوة الجديدة التي ينبغي أن تقوم بها ، و حذروها
أن من سيختبرها هو الدكتور محمد ، رجل شديد ، ينبغي الاحتياط لمقابلته و حدثوها عن ماهية هذه المقابلة الشخصية و كونها ستحدد مستواها و ما إذا كانت تستطيع الالتحاق
بقسم الفنون التشكيلية أم لا و علق أحمد :
و لكنني متفائل على أية حال ، فبوسع ريم أن تقنع الدكتور محمد بموهبتها بكل سهولة •• فقالت هدى بسرعة :
و كأنك تعرف شيئا عن موهبة ريم ؟ فرد أحمد على الفور قائلا :
لا •• و لكنني أعرف ريم ••
فيما بعد ، عندما دخلت ريم إلى مكتب الدكتور محمد لمقابلته ، كانت تعرف أن اثنتي عشرة عينا تتطلع إلى الباب الذي دخلت منه للتو في انتظار النتيجة التي ستخرج
بها ، فقد استقبلتها شلة الشغب الجامعي و اصطحبتها مع لوحاتها التي اختارتها من مجموع ما رسمت إلى مكتب الدكتور محمد و تركوها تدخل بعد أن حصنوها بكل النصائح
اللازمة ، و قال أحمد في النهاية :
و على أية حال فلا داعي للخوف فهو لن يقبض روحك •• وقفت أمام الدكتور بهدوء فأشـــار لها بالجـــلوس و شـــرع في طرح أســئلة عادية عليها ، و فوجئت أن معظم
الأسئلة كانت تنصب على القضية الفلسطينية و تفاصيلها و موقفها الشخصي منها و غير ذلك ، فكانت تجيب قدر استطاعتها ، و إن بدا أنها في عزلة تامة عما يحدث هناك
، و بعد قليل اكتشفت هي أنها لا تعرف عن قضية بلدها سوى ما يعرفه كل طفل في العالم و شعرت بالضحالة فصمتت فجأة ، ثم رفعت عيونا لامعة إلى الدكتور و قالت :
آسفة يا دكتور محمد ، إذا كانت معلوماتي عن بلادي هي مفتاح نجاحي في هذا الاختبار ، فلابد أنني سأفشل فشلا ذريعا فيه ••
نكست رأسها خجلا ، فابتسم الدكتور محمد و قال :
أولا هذا ليس اختبار ، انه مجرد مقابلة شخصية ، و ثانيا انا لا اسألك عن بلدك لاعرف ما اعرفه و يعرفه الجميع و قد تجهلين انت بعضا منه بحكم نشأتك بعيدا عنها
، و إنما أريد أن أعرف ما لا أعرفه عنها و تعرفينه أنت ، أريد أن أعرفها من خــلال إحساسك بها و ليس من خلال التقارير الأخبارية عنها ، فهل هذا ممكن ، أم أنه
صعب بدوره ؟ رفعت إليه وجهها ، كانت تبدو في هذه اللحظة جميلة ، بعيون لامعة و عقل يستشرف شيئا مميزا و عندما تحدثت اكتملت الصورة كما رآها الدكتور محمد بحس
الفنان فيه ، فقد خرج حديثها مغلفا في ضبابات شوق بعيد ، و كأنه يخرج من أعماق ملتهبة تتدفق فيها ينابيع الدهشة و الحلم و الرغبة في المزيد ، كان عنقها يبدو
طويلا و رأســها مرفوع و ذقنها الدقيق مضموم على طابع الحسن الصغير ، قالت :
فلسطين كما أعرفها و أحبها ، هي أرضي التي انتمي إليها ، الأرض التي تناديني بشوق و يستجيب إلى ندائها حنيني ، فلسطين هي الدمعة في عين أبي الذي يقتله الشوق
إليها ، و هي الارتجافة في شفاهه حين يتحدث عنها ، فلسطين هي الورق المخبوء منذ سنين يحمل عناوين غربة بعيدة و شتات كبير ، هي الوثيقة حين يسمونها بعبارة اللاجئين
، فلسطين هي النبض الدائم في العروق ، و هي الشيء الوحيد الذي يسري مع الدم فيها ••
و تهدج صوت ريم و ترقرقت الدمعات و قالت و هي تنظر للدكتور محمد :
فلسطين يا دكتور هي ذلك البئر المعطل في ساحة منزل مهجور ، هي بحر غزة و ناسها •• هي الرمز الجميل الذي يحميني من ضياع الذات حين أكون مخيرة بين أن أكون أو
لا أكون •••• فلسطين هي الغائب الذي أبحث عنه و أحتاجه •• و قال الدكتور :
هذا كل شيء انصرفي الآن
همست ريم بقلق و هي تشير لما في يدها:
و اللوحات ؟ فقال الدكتور بغموض :
اللوحة التي رأيت تشغلني الآن أكثر •• هيا انصرفي ••
و خرجت ريم فقام الدكتور من فوره ، أمسك لوحة بيضاء صغيرة و بدأ يخط فيها بسرعة وجه فتاة شامخة الرأس لها طابع حسن مضموم على تصميم و في نظراتها حنين ••• و
صارت ريم طالبة منتظمة في قسم الفنون التشكيلية بكلية الفنون الجميلة ••
ابنة عمي ريم ••
لم أصدق نفسي و انا أقرأ سطور رسالتك الغريبة العجيبة القادمة من المجهول ، لم أصدق أن لي ابنة عم لديها كل هذا الحس المرهف و الرغبة في التواصل و السعي إليه
•• كنت أعرف بالطبع ان لي عما اسمه جهاد يعيش في مصر لكنني مثلك كنت أسمع الأسماء و لا أرى الوجوه أو أحس بها ، وصل خطابك في وقت شديد الحرج فأبي الذي أضنته
الغربة يحتضر و نحن حوله لا نملك له شيئا ينقذه ، يبدو يا أبنة عمي أن الغربة قادرة دوما على امتصاصنا حتى آخر قطرة و التضامن مع أعدائنا على تهمشينا و ضياعنا
•• قرأت الخطاب عوضا عنه ، و شعرت أنه موجه لي أنا و ليس لأبي ، عرفت من خلاله روحا أخرى ضالة تبحث عن وطن •• و فرحت لأننا في عمر واحد تقريبا ، قد أكون أكبر
منك بشهور فقط ، لكن الهم واحد يا ابنة العم ، الهم واحد و الهدف واحد ، أراه أنا في العودة الحقيقية للوطن و ترينه أنت في تعليم أعلى تحصلين عليه •• أراه أنا
في كفاح مسلحينبغي أن يبقى و ترينه أنت في صراع مع الحياة ينبغي أن يستمر ••لكن لكلانا نفس الهدف في النهاية •• لقد وقف أبي في طريقي دوما كان يخشى علي مصير
مثل مصير عمي محمد ، و لعلك لا تعرفيه ، فلقد أمضى عمي الباسل في كفاح الصهاينة زهرة شبابه ، لم يتزوج و دخل السجن الاسرائيلي مرات عديدة و لم يستسلم و لم ينحرف
عن هدفه يوما و في النهاية استشهد في السجن •• هذا آخر ما سمعناه عنه منذ ثلاثة شهور فقط و لعل عمي جهاد لا يعرف و أنتم بالطبع لا تعرفون ••
أما عن عمي بدر فقد بقي بجوار جدتي يعيش و يتزوج الواحدة تلو الاخرى و يصارع الحياة المفروضة يعمل يوما و يجلس عشرة و في كل هذا هو الشاطر الذي لا يشق له غبار
في النصب و الاسترزاق و التحايل على المعايش بشتى الطرق ، لديه الآن سبعة أولاد ذكور و خمسة من الإناث و يصر على إكمال أولاده عشرة و معه الآن ثلاث زوجات ،
أما نحن فإننا خمسة من الاخوة أنا أكبرهم و بعدي أربع بنات جميعهن يتعلمن هنا في الأردن و معنا الجنسية الأردنية أيضا ••أما أولاد عمي عامر يرحمه الله فهم تسعة
و لكنهم متفرقون في بقاع شتى من العالم و لا تعيش هنا منهم إلا هديل و هي بالمناسبة فتاة وطنية و تحب قرض الشعر الحماسي و تحلم بيوم تستطيع العودة فيه إلى فلسطين
••
ابنة عمي البعيدة •• أحب ان تظلي على اتصال بنا و سأترك لك في نهاية الرسالة عنوان شخص مهم ينبغي أن تراسليه فهو على نفس دربنا يسير لم تقتلع منه الغربة الإحساس
العميق بالوطن ، إنه من أبناء عمومة أبائنا و يعمل في ليبيا و اسمه سهيل ، و أنتوي إن شاء الله إرسال رسالتك له ضمن رسالة لي أحدثه فيها عنك و عن هدفك في المعرفة
••
صدقيني يا ابنة عمي إنها فقط البداية •• لكنها ــ مهما بحثت ــ هي البداية الوحيدة الصحيحة
ابن عمك
تامر عمر القاسم
طوت ريم الرسالة بعناية و كانت تقرأها قبل قليل للمرة العاشرة على الأقل •• تنازعتها مشاعر متناقضة و عجيبة ، أخذت تتضح و تتبلور مع كل إعادة قراءة و استقرت
في النهاية على الشعور الجارف بالرغبة في معرفة النهاية •• أشعــلت فيها الكلمات الحماس و شعرت بعظمة أولئك المغروسين في أرضهم ، شعرت بالفخر أنها تنتمي لعم
بطل استشهد و هو بطل ، و حتى عمها بدر لم تشعر بالنفور منه بل استماحت له ألف عذر ، و استوقفها طويلا ذلك التأطير الذي وضعها فيه ابن عمها من ناحية نظرتها لقضية
بلادها ، و شعرت أن رسالة ما أصبحت مطالبة بحملها ، و لن يعفيها من حملها أن تكون لاجئة بل على النقيض ربما كان اللجوء هو السبب الأول لحتمية أن تحمل الأمانة
، دعاها إلى هذا حديثها مع الدكتور محمد و رسالة ابن عمها ، و قبل هذا حقيقة انتماؤها إلى الوطن السليب ، و حاولت تقييم وضعها منذ البداية و استغرقها التفكير
في هذا الوضع الســـلبي الذي عاشتــه مخيرة ، و شــعرت أنها لابد أن تغــير من وضــعها ما أمــكنها ذلك و تعمق التفكير ليصل بها في النهاية إلى سؤال واحد :"
ماذا بوسعي أن افعـل لبلادي ؟ " و لم تجد الإجابة الإ من تهويمة واحدة سيطرت عليها مفادها :" لابد أن أجدها أولا ••"نهضت بعدها لتستقبل سوسن التي جاءت بكل
صخبها كالعادة بادرتها :
ريم ، افتقدتك كثيرا ، كيف حالك ؟
أجابتها الأم و هي تنظر إليها بلوم:
لو كانت ريم حقا عزيزة عليك ما اختفيت طيلة هذه المدة ، منذ أول يوم في الجامعة ••
قالت سوسن بأسف :
معك حق يا خالتي ، و لكنك لا تعلمي مقدار تأثري بما حدث يومها لريم ، لقد كان الرجل فظا معها و لم أجد في نفسي القدرة على مواجهتها بعدها خشية إثارة حفيظتها
••
فقالت ريم بتسامح :
لا عليك يا سوسن ، إرادة الله فوق كل إرادة و الحمد لله على كل حال ••
فقالت سوسن و هي تتخذ لها مجلسا في صالة المنزل فيما ذهبت الأملإعداد الشاي:
و الحل يا ريم ؟
قالت ريم و هي تبتسم :
الحل هو أن تنهضي من فورك فتحضري لي محاضرات الأسبوعين الماضيين و تشرحي لي بكثير من الاستفاضة كيف هي الدراسة و المحاضرات ، حتى يتسنى لي متابعة الموقف كاملا
غدا إن شاء الله عندما نذهب سويا للجامعة ••
صاحت سوسن غير مصدقة :
ماذا تقولين ؟ هل استطعتم تدبير المال ؟ هزت ريم رأسها نفيا و قالت :
بل وفقنا الله و استطعنا تدبير كرسي لي في قسم الفنون التشكيلية معك يا سوسن •• قفزت سوسن فرحا و صفقت بيديها طربا و قالت و هي تقبل صديقتها :
معا إلى الأبد يا ريم ، معا إلى الأبد ••
كتبت ريم الى والدها التطورات الاخيرة حكت له عن جو الجـــامعة و الزميلات و الزملاء و الأساتذة ، و بالطبع عن شرط بقائها في الجامعة ، و أرسل الأب بدوره رسالة
جميلة تحدث فيها مع أسرته عن سعادته بكل ما عرف و عزمه على وصل الليل بالنهار من أجل تدبير المبلغ الذي يحتاجونه ، مشيرا في معرض حديثه عن رغبته في أن تلحق
به الأسرة في السعودية بعد انتهاء دراسة ريم ، موصيا إياها في الوقت ذاته بتقوى الله و الالتفات الدائم إلى دروسها لكي تثلج صدره بالتفوق الذي لن يرضى عنه بديلا
، و رد ت عليه ريم بأنها ستحرص دوما أن تكون عند حسن ظنه بها ، و عندما أرادت أن تكتب له عن أحوال أعمامها توقف القلم في يدها ، برهة تردد و قلق عليه ، ثم تغلبت
على ترددها و كتبت ، حكت كل شيء و قالت لأبيها :
لن أعزيك في فقد عمي محمد ، فهو لم يمت إنه عند الله من الأحياء إن شاء الله ، لكنني سأرسل لك مع هذا الخطاب كل مشاعري و أحاسيسي التي شربت مشاعرك و أحاسيسك
علها تقف بجوارك و تقدم وعدها لك خالصا بأننا سنعود ، و إن الشمل سيجتمع مرة أخرى مهما طال الزمن و حرمتنا الغربة من بعض الغوالي ••
و كتبت سميحة إلى زوجها رسالة أرفقتها برسالة ريم قالت فيها :" أخيرا يا أبا العيال تحقق الحلم ، أخيرا أثمر طـــريق الشوك عن فـجر جــديد ، ثــمرة العــمر
كله بدأت تيــنع و تزهر و تسفر عن أمل يا جهاد ••
لا أدري ماذا أقول لك أيها الغالي ، ســوى أنني عندما حـــسبت ســنين العمر التي مضت و حذفتها من لحظة الفرحة الكبرى بثبوت ريم في الجامعة وجدت أن تلك اللحــظة
فاضت و زادت حتى غطت على كل سنين الشقاء •• أتحسبني نسيت يا أبا العيال ؟ أتحسبني نسيت ليالي سهادك و أيام جهادك ، أتحسبني لم أكن أسمع الزفرات الحرى تخرج من
قلبك فتحرق قلبي ، أم تحسبني لم أكن أسمع في الليالي الطويلة التي تقاسمنا الفراش فيها وجيب قلبك و هو ينادي الفرج و يسأل الله سؤال المضطرين ، لقد سمعت وشاهدت
و عشت و أحسست و اليوم معك أحصد و إليك أهدي و بك تستمر المسيرة ••
أبو العيال من أجل خاطر سميحة اهتم بنفسك و عد إلينا سريعا فالليالي بطيئة بدونك و الصبر طعمه مر ، أولادنا في العيون و في حبة القلب ، و ريم كما علمت أما قاسم
فهو في الصف الثاني ثانوي يمضي قدما بدوره نحو الهدف ماشاء الله شبيه أبيه ، يحمل عني كل الهموم و يقف بجانبنا في كل الأمور و أصبح يلاطف ســمر فترة أطول كل
يوم و يحضر لها الحلوى و اللعب ، و قد اختار القسم العلمي كما تمنيت ، أسأل الله أن يقدرك على مصاريف تعليمهم أنه على كل شيء قدير ••
وضعت ريم الخطابين في مظروف واحد و مضت لتلقي الخطاب في صندوق البريد المجاور •• و في طريق العودة لمحت سعيد يسير باتجاهها و كان في شكله شيء غريب
بعد اليوم الذي مازحت فيه ريم سعيد ، لم يرها أبدا ، حتى ابتسامة المساء التي عودته عليها اختفت بدورها ، لم تعد تخرج إلى نافذتها و أصبحت نظراته المعلقة كل
ليلة على نافذتها تتمنى رؤية الضوء المنبعث من الخصاص على الأقل ، و كان يحلو له أن يتخيل ما تصنع الآن قبل أن تطفىء النور و تنام ، كان يتخيلها تارة ترسم و
تارة تبدل ملابسها ، و كان خياله في كل مرة يجرفه إلى يوم المنظمة ، هكذا أطلق عليه ، و كان كلما تذكر عبارتها يضحك و تعتريه رعشة لذيذة تلف أوصاله و يتذكر
كيف لمس دون أن تدري أطراف شعرها بينما كانت تقف تملأ بيانات الاستمارة الخاصة بهم ، كانت منهمكة جدا في الكتابة ، و الجو خانق إلا من مروحة عابثة كانت تتجول
فوق الوجوه دون أن تخلف بردا ، و كان شعرها الكستنائي الطويل يتطاير كلما وصل هواء المروحة إليه ثم يعود ليستكين إذا غادرته ، و ظل هو فترة يراقب هذا المنظر
في حين كانت الأم مع ابنتها تحددان اجاباتهما و تضعان وصف أوضاعهم في الأوراق أمامهم ، اقترب خطوة فلم يفطنوا كثيرا إلى تغير مكانه ، و أصبح شعر ريم المتناثر
قيد أنملة منه ، كان جميلا جدا ، مثيرا جدا ، أو هكذا رآه ، نازعته نفسه إلى لمس الخصلات المتناثرة ، شعر كأن كل من في البهو وقتها يعرف ما يدور برأسه ، اعتراه
خجل غريب لم يشعر به من قبل ، إلا أن فضوله و رغبته في لمس هذه الزوائد الكستنائية الطائرة غلبه ، مد يده قليلا فلاحظ ارتعاشتها ، تطلع حوله و أخرج منديله و
طفق يمسح به عرقه الذي خرج غزيرا ، عاود المحاولة مرة اخرى ، و اقترب كثيرا هذه المرة بأصابعة حتى أن الشعر المتطاير في هذه اللحظة دغدغ أصابعه ، تراجع بسرعة
خوف أن تضبطه ريم بالجرم المشهود ، و عاد فابتسم عندما وجدها تسأل أمها امرا فتجيب الأم و تعودان للكتابة بانهماك ، مد يده بجرأة أكبر هذه المرة و لمس الزوائد
بهدوء و بخفة ، فشعر بأنه ملك الدنيا ، استقرت أصابعه لحظة على أطراف شعرها قبل أن تعاود المروحة ممارسة لعبتها المفضلة في بعثرة شعرها •• تراجع خطوة فعاد إلى
مكانه ، لكنه كان يضع يده في جيبه كشيء غالي يريد أن يحتفظ به ما استطاع ، كان يتحسس أصبعه بأصبعه في جيبه و إحساس بالنشوة لم يفارقه لا في تلك اللحظة و لا
في أية لحظة أخرى مرت به بعد ذلك اليوم ، و رغم أن ريم هجرت النافذة إلا أنه لم يعتريه غضب ، لم يكن يريد أكثر مما أخذ زادا للأيام المقبلة ، كان وقوفه في شرفته
يطالع النافذة يمده بالكثير من الأفكار و الأخيلة التي تجعل الابتسامة لا تفارق وجهه و كأنه يراها أو أنه يرى ابتسامتها ••ذلك المـــساء فرك يــده و هو يتذكر
ملمــس شعرها على أصابعه و يطالع نافذتها المغلقة ، و فجأة هاجمه شوق لا منتهي لرؤية ريم ، تذكر فجأة أنه لم يرها منذ أسبوعين و تعجب كثيرا لأن هذه الايــام
مــرت دون أن يراها و دون أن يشعر بمرورها و تساءل بصوت سمعه :
إلى هذا الحد غيبتني هذه المخلوقة الأثيرة عن نفسي ؟ وقع السؤال في أذنه كان غريبا ، كان مستفزا ، فتح بعده الباب لعشرات الأسئلة و كان أهمها على الأطلاق هو:
و لماذا لا أبادر إليها ، ما المانع ؟ وجده سؤالا بديهيا و غريبا في آن واحد ، ما الذي دفعه إلى الأحجام عن التعبير عن مشاعره طيلة هذا الوقت ، لماذا اعتبر
أن التعبير خطأ لن تغفره ريم ، من أين جاءه هذا اليقين ؟ أسئلة كثيرة قلبت ابتسامته تجهما و تطلع للنافذة و صاح فجأة :
لماذا لا تخرجين ؟ و عندما أيقن أنها لن تخرج كان قد قرر أمرا و أصر عليه ، سيراها غدا و يحادثها ما استطاع و يخبرها أيضا بما يشعر به عل في هذه المصارحة ما
يخفف وطأة التغرب عن الذات الذي بات يشعر به مؤخرا ••