في المساء كانت الورقة البيضاء تحمل رسماً مبدئياً لبئر قديمة تغرس فيها شجرة نخيل عجوز جذورها حتى الأعماق فيما طفل صغير يراقب قرص الشمس الغارب من خصاص نافذة
خشبية في طرف اللوحة •• نظرت ريم إلى ما رسمت و بدت راضية عنها و عادت فغطت اللوحة بعناية و خرجت لتفتح الباب الذي كان يدق بإلحاح ••
كانت الأم تطالع التلفاز و الأب كعادته غارق في النوم بجوار المذياع و سمرُ الصغيرة ذات الخمسة أعوام تلعب أمام التلفاز فتثير أمها و يضيع المسلسل •• في طريقها
إلى الباب أجابت ريم على سؤال لم يسأله أحد :
كنت أرسم همست الأم :
أعرف كان قاسم ابنُ الخامسة عشرة شبيهَ أبيه ، صاحت ريم بمجرد رؤيته :
قاسم ، عدت مبكراً تركت الأم مسلسلها المفضل و توجهت نحو ابنها ، احتضنته و هي تقول :
أي مبكر يا ريم ، إنها العاشرة ، أهلا حبيبي رمقته ريم و لاحظت إرهاقه و هو ينفلت من حضن أمه و أشارت بطرف عينيها نحو أبيها النائم هامسة بمَكْر :
سأوقظه !! •• أشاحت أمها بيدها و قالت :
حتى الحب تريدوننا أن نخفيه أيها الفلسطينيون الغلاظ !! سألته ريم :
هل هناك ما يُحكى ؟
أومأ برأسه موافقاً و همس :
الكثير ••
قالت بلهفة و هي تشده من يده :
إذن تعال استوقفتهم الأم بحزم و قالت :
لابد أن قاسما جائع ، أليس كذلك يا حبيبي ؟ نظرت ريم إلى قاسم مبتسمة و رددت:
هل حقاً أنت جائع يا حبيبَها ؟ قال قاسم متذمراً :
لا •• لست جائعاً أكلتُ في الحافلة آخر شطيرة صنعتْها أمي •• ثم نظر إلى أمه و قال بامتنان :
أشكرك يا أمي ، لكنني حقا لست جائعاً •• عبر تهاويم النوم جاءهم صوت الأب الغافي :
جئتَ يا قاسم ؟
نعم يا أبي ، أنا هنا لاح طيف ابتسامة أمن على وجه الأب و استرسل في نومه
يا أبا قاسم قم إلى فراشك ، تعدت الساعة العاشرة و أنت تستيقظ باكراً •• همهم الأب ببضع كلمات ثم قام متكاسلاً و لم ينسَ إغلاق المذياع و في طريقه ربّت على
كتف قاسم و قال :
غداً ستحكي لي كل شيء •• راقبه الجميع و هو يمضي متثاقلاً إلى غرفته و تحدث قلب ريم إليها بشيء ما ، استشعرت خوفاً غريباً لازمها لحظة واحدة ثم انتهى كل شيء
، قالت لأمها :
هل آخذ قسوم الآن ام تريدينه بعد يا أمي ؟ لم تتكلم ، ولكنها ذهبت في إثر الأب المتعب ، وهي تغمغم بتحية المساء و توصي ريم بأختها سمر التي كانت تعالج نعاساً
و تقاومه إلا أنها استسلمت له أخيراً و غفت على البساط حيث تلعب ، حملتها ريم و تبعها أخاها إلى غرفتها ، وعندما وضعتها في الفراش التفتت إلى قاسم و قالت :
و الآن احكِ كل شيء ••
***
كان قاسم في حياة ريم صديقاً أكثر منه أخاً ، وكانت تتقبل راضية تدليل أمه له على أنه أمر مسلم به ، باعتباره الذكر الوحيد ، ولأنه جاء بعدها بثلاثة أعوام
فقد اعتبرته في مثل عمرها ، خاصة لتمتعه برجاحة العقل و الاتزان اللذين لطالما اشتكت زميلاتها من عدم وجودهما عند إخوتهم الذكور ، لذا لم يكن مستغرباً أن تكون
جل أسرارهم عند بعضهما البعض ، و رغم أن قاسماً لم تكن له أسرار بالمعنى الذي يعطي للكلمة هذا العمق إلا أنه كان يحتاج إلى من تسمعه في هذا السن الذي يبدأ فيه
اليافع بقرض الأشعار و السباحة في دنيا الخيال و كتابة المذكرات الخاصة التي يضمنها أحلام الشباب اللاهبة ، و كان قاسم يعكس كل أحلامه المبكرة على سوسن صديقة
ريم ، رغم أنها تكبره بثلاثة أعوام ، إلا أنها كانت تستمع إلى حكاياته عندما تزورهم باهتمام و تعلق على أشعاره و تبتسم له كلما بدأ الكلام ليسترسل دون أن تشعره
بتفاهة ما يقول ، أو بأنه يضيع عليها وقتاً ثميناً ينبغي أن تقضيه مع صديقتها ، و في هذه الرحلة الأخيرة كان جل ما يشغل بال ريم هو الانطباع الذي تركه سيد أخو
سوسن لدى قاسم أخيها ••
و سيد هذا هو الأخ الأكبر لسوسن و هو معلم اللغة الانجليزية لأخيها قاسم ، ولقد أبدى مراراً إعجابه بها لأخته التي كانت تنقل حديثه إلى ريم فتلقى منها صدوداً
مفتعلاً ، وكأنها لا تريد أن تسمع ، و مع ذلك فلقد تركت لصديقتها المجال لتسمعها عبارات من نحو :
سيد شديد الإعجاب بك ، وصف أول لقاء له بك في منزلنا بأنه لقاء العمر ، قال إنه لم يكن يعتـــقد أن هنـــاك من هي في مثل سنــنا و لكـــنها تحمل كل هـــذا
النــضج و الوعي و الثقافة و الأهم الرقة و العذوبة و الجمال ، قال إنك أسريته من أول لقاء •• و ترد ريم بعصبية مفتعلة :
سوسن لا تقولي هذا الكلام ، أنا لا أسمح به ، ليس لدي وقت لأضيعه على قصص الكلام الفارغ التي تشغل معظم بنات اليوم ••
و لكن في أعماق ذاتها كانت مستمــتعة ، سعيدة ، و رسمت قلباً كبيراً يضم وجهين لرجل و امرأة مظللين بلا ملامح ، كانت اللوحة كلها سوداء ما عدا القلب الذي شغل
ركنها الأيسر كله بلون أبيض ناصع يحتوي هذين الوجهين ، و لم تستطع أن تجيب عن أسئلة سوسن التي لاحقتها عندما رأت لوحتها :
لماذا السواد في كل اللوحة ؟ أين الأزهار الجميلة و ضوء القمر و الشجرة التي يقبع عليها هذا القلب محفوراً ، لِمَ كل هذه القتامة و الغموض في الملامح ؟
لم ترد ريم ، كل ما قالته أن ما رسمته كان التعبير الوحيد الذي شعرت به عندما أرادت أن ترسم بعد حديثهما عن أخيها ، و حاولت تغيير الموضوع ••
و جاءت رحلة أخيها قاسم إلى الفيوم حيث سيرافق بشكل ودي أستاذه سيداً ، ويجالسه طوال الوقت ، وكان قاسم يعرف ما دار بين الصديقتين عن سيد ، و كان له رأي سابق
فيه يصفه بالجمود وعدم المرونة والوجه الخالي من التعبير ، و لكن بعد أن طلبت إليه أخته محاولة استكناه هذه الشخصية و الوصول إلى وصف تقريبي لها أثناء الرحلة
على اعتبار أن المرء يتحلل من جموده عندما يكون في قلب الطبيعة و في جو الرحلات ، ركز كل جهده على مراقبة و مجالسة الأستاذ أثناء الرحلة و خرج بانطباعات عدّة:
الأستاذ سيد و إن حاول التودد إليّ هذه المرة ، إلا أنه يظل كما أخبرتك من قبل ، وجه بلا ملامح ، جامد ، حتى ضحكته لا تخرج صافية لا تخرج من القلب يا ريم ••
هذا ما شعرتُ به أنا أيضاً عندما رأيته صدفة في منزل سوسن ••
هزت رأسها و ابتسمت :
لا بأس يا فتى ، هذا الرجل لا يعني لي شيئاً •• و بالمناسبة فسأريك شيئاً •• تحركت و اتجهت نحو الخزانة أخرجت وثيقتها للمرة العشرين هذا اليوم ألقتها إلى أخيها
بغير اعتناء :
انظر ••
الوثيقة ؟ متى جاءت ؟
أحضرها أبي اليوم ••
مبارك ، صرت مستقلة الآن ••
هل لاحظت عنوان الوثيقة ؟
و ثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين ، ما به ؟
قاسم •• نحن لاجئون ، هل تعرف معنى هذه الكلمة ؟
و من لا يعرف ؟ أطرقت ريم قليلاً و نبض قلبها بشدة ، وعندما رفعت وجهها كانت عيناها تلمع :
أراني أبي جزءاً مما تحفظه ذاكرته للوطن ، أخذني إلى غرفة نومه ، أعطاني جرساً صغيراً كان لأمه ، و أراني ألبوماً قديماً ما زال يحمل صور عائلتنا هناك •• هل
رأيته ؟ نهض قاسم واقفاً و همس :
نعم ، أراني إياه ، بعد أن تشاجرت مع عادل في المدرسة الشهر الماضي ، كان يعيرني بوطني ، قال إنني بلا وطن و ينبغي أن أشعر بالامتنان لهم ، لأنهم آوونا ورحمونا
من التشرد ، صاح بي يا لاجئ •• يومها جئت إلى المنزل باكياً ، كان أبي نائماً بجوار المذياع ، لكنه بطريقة ما لمح دموعي ، و من الكلمات الأولى فهم كل شيء و
صحبني إلى غرفته ، أراني كل شيء و قال لي إنه ما زال يحلم باليوم الذي يرى فيه أهله مجدداً •• زفرت ريم و تنهدت ـ من يصدق عشرون عاماً منذ غادر أبي أرضه ، عشرون
عاماً لم ير خلالها أحدا من إخوته أو أمه ••
حتى خبر وفاة جدي ، يرحمه الله ، عرفه صدفة ••
هل تعتقد أن شيئاً ما يمنع أبي من الذهاب إلى هناك ؟ همس قاسم ، وملامحه تحمل صورة غامضة لم تستوعبها ريم كثيراً قال :
الخوف •• ران صمت طويل على الغرفة بعد هذه الكلمة لم يقطعه إلا صوت أنفاسهما و تقلب الصغيرة في فراشها ، عبر ضوء القمر خصاص النافذة فتبينته ريم و عندما همت
أن تنهض إليه ودعها أخوها :
أنا ذاهب للنوم •• لدي مدرسة غدا ••
أومأت برأسها ، و عندما أغلق الباب خلفه نهضت ففتحت النافذة تطلعت إلى القمر ، كان مكتملاً ، شيئاً ما يخيفها عند اكتمال القمر بدراً ، تشعر أن اكتماله إيذانا
ببدء النهاية ، و رغم ذلك لا تملك في كل شهر إلا أن تقف تراقبه و هو يفترش السماء و يقرأ عليها الرسالة ، همست و هي تتمطى :
يوما ما سأعود إلى الوطن ••
و عندما همت بإغلاق النافذة رأته ••
سعيد محامٍ غير نابه ، شاب في الخامسة و العشرين من عمره يقطن المنزل المجاور لهم ، متزوج و عنده ثلاثة أطفال ، اشتهر عنه أنه شاب لاهٍ ، لا يعترف بالمسؤولية
، يؤدي عمله في مكتب المحاماة الصغير الذي يملكه بشيء من اللامبالاة ، عانت زوجته طويلاً من عيونه الزائغة وراء كل حسناء ، لا يبالي أبداً بالاعتراف أمام الملأ
بأنه لا يحترم النساء ، و أن المرأة تكوين جسدي مثير خلق للمتعة و ليس للوفاء و ليس للحب ، إنه أساساً لا يعترف بشيء اسمه الحب ، و لديه القدرة دائماً على تسفيه
كل شعور بالحب قد يخطئ صاحبه و يصفه له ••
هاه •• إذن تحب ؟ يا أخي خذها إلى مكان بعيد و تمتع بها ، ثم عد إلى منزلك و أغلقه عليك و نم •• قبل شهر خرجت زوجته من حياته و أخذت أطفالها الثلاث ، قـــالت
له إنها تخشى عليهم و على نفسها من وجودها معه ، قالت إنها حاولت المستحيل ليصبح إنساناً مسئولاً ، لكنها فشلت ، اعترفت له أنها استسلمت و أنه إنسان غير قابل
للتغيير و تركته ، بدوره لم يتمسك بها ، كان يعرف أنها لن تستمر معه طويلاً ، يعرف أن استمرارهما معا هو من قبيل نفخ الرماد لإنعاش نار غافية ، كانت و ظلت و
ستظل طوال الوقت غافية ، أعتقد أنه أصبح أكثر حرية عندما تركته ، و لكنه فوجئ كثيراً بالتغيير عندما وجد نفسه أكثر التزاماً و هو وحيد على عكس ما كانت حياته
و هي معه ، وجد نفسه زاهداً فجأة في النساء و عندما كان أصحابه يسألونه عن السبب كان يلوي رأسه قرفاً و يقول :
لا راحة في دنياك إن اقتحمتها امرأة •• ذات صباح ، كان عائداً من العمل ، لم يعرج على أي مكان اتجه فوراً إلى منزله ، كان يشعر برغبة قوية في ترتيبه و تنظيمه
بعد أن تركه طيلة الأسابيع الماضية في حالة إهمال جسيم ، بجوار مدخل العمارة كانت ريم واقفة ، تعمدت التلكؤ حتى يراها و عندما اقترب منها ، لم يلاحظها ، إلا
أنها نادته :
أستاذ سعيد •• رفع رأسه باتجاهها ، ارتسمت على وجهه علامة استفهام كبيرة ، و بدا أنه لا يعرفها قال : ناديتني ؟ أومأت برأسها و قالت :
نعم •• في الواقع رأيتك و أنت قادم من بعيد و انتظرتك •• ابتسم ابتسامة ذات مغزى و قال و هو يقيس بنظراته تفاصيلها:
خيرا إن شاء الله ؟ ضغطت ريم بأصابعها على شيء تحمله و مدت يدها به قائلة :
هذا للسيدة مريم ••
ما هذا ؟ أعادت اللفافة إلى حضنها و قالت :
إنه ثوب كنت قد اقترضته منها قبل فتــرة و جئت اليوم لأعيده إليها لكنها غير موجودة ••
آه حقاً ، هي غير موجودة ، و لن تكون موجودة أبداً ، احتفظي بالثوب لنفسك فهي لن تعود •• همست كأنها تقرر حقيقة كانت تعرفها :
انفصلتما ، أليس كذلك ؟ قال باقتضاب :
نعم •• نظرت إليه بتحفز و لا تدري من أين واتتها القوة لكنها قالت :
هذا أفضل لها ، فمثلك لا يصلح زوجاً •• انفلتت إلى منزلها ، و لم تلتفت وراءها ، و عندما وصلت إلى البيت حكت لأمها ما حدث ، تحدثا قليلاً و علقاً على الانفصال
المتوقع ، ثم نسيا الأمر ، و لم تدرك أنها تركت أثراً عميقاً منذ ذلك الوقت لم تستطع الأيام أن تمحوه لدى سعيد ••
*** عندما همت ريم بإغلاق نافذتها لمحت سعيداً جالساً في شرفة منزله يحتسي كوباً من الشــاي و ينظــر باتجاههــا مبتسمــاً ، لم تعط للأمر أية أهــمية إلا
أنها تذكــرت زوجــته و شعرت بغصة غضب تجاه هذا المخلوق ، حنقت عليه جالساً يسامر القمر فيما أسرته بعيدة ، أغلقت النافذة بقوة كأنها تصفعه و هدهدت سمر قليلاً
حتى نامت مجدداً بعد أن أيقظها صوت النافذة الغاضب ، و نامت ••
حلمت في هذه الليلة حلماً غريباً ، رأت نفسها فيما يرى النائم كأنها تسير في صحراء مترامية الأطراف ، لاشـــيء أمامها ســـوى هذه الصحراء ، كــانت تشعر بالعطش
الشديد و في كل مرة تتراءى لها بحيرة تركض نحوها فتجدها سراباً و يزداد العطش ، رأت بحيرة ، ثم بحيرة ، ثم جبلاً عالياً تسلقته حتى القمة و اعتلت سحابة بيضاء
و كانت ما تزال عطشى و فجأة أمطرت السحابة مطراً ، و أخذت منها الحيرة كل مأخذ ، لأنها لم تستطع أن تشرب من ماء المطر المنهمر تحتها رغم عطشها الشديد و استيقظت
و هي تحاول التقاط بعض القطرات بكفها و لكنها لم تستطع •• *** كانت قد أنهت للتو مساعدة أمها في أعمالها المنزلية ، و كانت أمها تستحثها الإسراع في تجهيز الطعام
و فرشه قبل وصول أبيها المتوقع بعد لحظات ، و عندما انتهتا من وضع كل شيء في مكانه جلستا صامتتين تنظران الباب تارة ، ولساعة الحائط تارة أخرى ، قالت الأم و
قد شعرت أنه لابد من الكلام :
أبوك متعب نظرت إليها ريم ، صمتت قليلاً ، كانت تبحث عن الكلمات المناسبة ، كانت تريد أن تخبرها أنها تعرف ، شعرت بهذا منذ فترة ، منذ أن أصبحت خطواته واهنة
و دموعه التي لا تسقط قريبة ، في الحقيقة هي تعرف أنه ما فتح لها كنزه المخبوء منذ سنين إلا لينقل لها عبر ذكرياته وصية ما حفرت في قلبها إلا أنها لم تستبن
كلماتها ، أوجعها قلبها و أحست بالغصة منذ أن أعطاها وثيقتها ثم الجرس و لكنها كانت تريد أن تحتفظ بكل مشاعرها داخلها فهي لا تريد أن تخرج كلماتها فتقرر واقع
لذا اكتفت بأن تقول :
العمل مرهق لمن في سنه يا أمي ، اطمئني و دعينا نعمل على راحته أو نطلب إليه أن يتوقف قليلا عن العمل بضعة أيام فقط ••
أي سن يا ريم ؟ إن والدك ما زال في الخامسة و الأربعين من عمره لم يتمهم ، لكنه يبدو و كأنه تجاوز الستين ، بل السبعين •• انني شديدة القلق عليه •• أدارت ريم
وجهها عن والدتها لا تريدها أن ترى دمعة ترقرقت لامعة في عينيها تعتمد الحقيقة التي ذكرتها أمها ، صاح شيء بداخلها:
إنه الحنين يا أمي •• الحنين إلى منزل قديم و بئر معــطلة و أم ربطــت حجرا على قلبها و دفعت أولادها يوما إلى الغربة لكي يعيشوا •• إنه الحنين أيتها الأم
الحبيبة ، الحنين إلى صخب أخوة جمعتهم يوما أرض كانت لهم ، وطن كان فرشهم و غطاؤهم زادهم و زوادهم •• إنه الحنين يا أمي و ليس تعب السنين كما أقول و ترفضين
، إنه فقط الحنين •• عندما فتح جهاد الباب ، لمح في نظرات زوجته كل ما توقع و أكثر ، قــلق و حيرة ، خوف و ضيق ، تنهد :
السلام عليكم •• توجه إلى غرفته تتبعه عيونهما :" إيه يا أم قاســم •• إيه أيــتها الغــالية ، رفيقة الدرب و الكفاح ، هل تشعرين بحالي ، هل أخبرك صمتي أنني
أعاني ، هل سمعت هدير أمواج غزة في زفيري و شهيقي ، لابد لكل طير أن يعود ، و لقد طالت غربتي ، فهل سأعود يوما ، أم أنه كان فراقا للأبد ، شيئا يشبه الموت،
لكنه موت مؤجل ، إيه يا أم العيال إنني محطم حتى النخاع ، وحيد رغم العمل و البيت و الأولاد ، شيئا عزيزا قطعوه من لحمي يحن إلي الآن ••" التفت إلى الباب كانت
تملأ تجويفه الخالي ، تنظر إليه بقلق همست :
هل أساعدك ؟ هز رأسه مبتسما و قال :
مازلت شابا يا أم العيال ، من في سني لم يتزوجوا ، أنت التي شيبتني بالعيال مبكرا قبل الآوان ، صدقيني سأتزوج عليك يوما شابة صغيرة تعيد إلي الشباب !! أشاحت
أم العيال بيديها و قالت باسمة :
و هل كنت ستجد من تتحملك مثلي أيها الفلسطيني التائه ، أم نسيت ؟ هل أذكرك بيوم جئت لأبي ترجوه أن يقبلك زوجا لي و تعده بأن تصونني في العيون و في حبة القلب
••
أنا ؟ !! أنا الذي ذهبت أم أنت من طاردتني حتى قبلت الزواج منك •• هيا لا تغالطي التاريخ يا أم قاسم •• كانت ممازحة يبعد بها كلاهما شبح النهاية عن سمائه،
و كان يحلو لهما دائما تبادل اتهامات السبب في هذا الزواج ، لكن الممازحة اليوم كانت هما ثقيلا على القلبين لذا صمتا فجأة كما تكلما فجأة و نظرت إليه مليا فاطرق
برأسه و قال :
نعم •• ساعديني يا أم العيال ••
*** كانت سميحة والدة ريم الآن هي ذاتــها تلك الشــابة المصــرية التي تلبس الملاءة السوداء و تغطي شعرها بمنديل مزركش الأطراف و تحمل الغذاء كل يوم إلى أبيها
ملاحظ العمال ، فيلتفت لمقدمها كل عامل بناء و كل مهندس يصادف وجوده في موقع العمل ، عندما رآها جهاد لأول مرة كان قد مضى على وجوده في مصر ثلاثة شهور ، عمل
خلالها في عدة أعمال صغيرة و سافر إلى مدن عدة قبل أن يستقر به المقام في القاهرة حيث تلقفه عم صابر والد سميحة و تعهده بالرعاية عندما علم أنه غريب من فلسطين
، كان يسأله عن الأحوال هناك و كان كغيره من المصريين آنذاك يعتبر أن فلسطين هي القضية التي خانها مليكهم يوما حين كانت في مرمى اليد ، أسلحة فاسدة و قصة قديمة
تحولت مع مرور الوقت إلى عقدة ذنب خفيه في الضمائر ليس لها سببا مباشرا ، لذا فقد رأى فيه العم صابر ممثلا جيدا لبلاده يمكنه من خلاله أن يقدم شيئا لتــلك البلد
البعيـــدة التي تــضم قدس جريح ، و لم يكن هذا الحال مستغربا لدى الجميع ، لذا فقد كان لدى جهاد فرصة جيدة ليقف على أقدامه بمنأى عن أية مكائد قد يدبرها زملاء
المهنة لبعضهم الــبعض ، كان هو اســتثناء ، و كان سعيدا بهذا الاستثناء ، و عندما رأى سميحة قرر أن يختبر هذا الاستثناء عــمليا و أضمر في نفسه أنها ستكون
زوجته ، لم يكن يعنيه تلهف الرجال عليها و حديث بعضهم علنا عن رغبتهم في الزواج منها كان في قرارة ذاته يشعر أنها له ، شعر بذلك من عينيها عندما التقت بعيـــنيه
في لحظة واحـــدة ، وقعا خلالها بالأحــرف الاولى علاقة لن تنــقطع ، و كان كلما سمع أن أحدهم تقدم لها ينتظر بقية الحكاية التي يعرفها••" و رفضت هي " لكنه
لم يتكلم و لم يشر حتى بأنه يريدها ، كان يعرف أنه لابد أن يكون مستعدا للزواج قبل أن يقدم على هذه الخطوة ، و بالفعل ، بعد عام كامل تقدم إلى العم صابر و قال
بمنتهى الثبات :
عم صابر •• أحبك كثيرا و أريد أن ارتبط بك ارتباط دم و نسب فهل تقبل أن تزوجني ابنتك ؟