19

20 0 00

عندما استيقظ الأب لصلاة الفجر ربط بين الضوء في غرفة ريم و عودة قاســم ، هز رأسه و همس :

 لابد أنها الحكايات سرقتهما •• لكنه عندما دخل الغرفة لم يجد قاسم ، وجد ريم أمام حامل الرسم ، كانت نائمة ، الفرشاة مازالت بين شفتيها ، و الفرشاة التي ترسم

بها على الأرض بجوار ذراعها المدلاة •• توجه إليها بهدوء لإيقاظها ، لكن اللوحة التي كانت تعمل فيها شدته ، تأملها كانت عبارة عن منظر ضبابي لعيون تتطلع بشغف

نحو الأعلى من خلال سحابات بيضاء كثيفة تغطي تلالا بعيدة ، للحظة داخل الأب إحساس بأنه يعرف لمن هــذه العيون ، همس بإعجاب :

 الله •• الله •• انتبهت ريم من غفوتها فزعة ، وعندما رأت أباها همست :

 أبي ••؟ قال الأب و هو مازال يطالع اللوحة :

 مرحى يا ريم ، لقد عدت من غربتك مجددا •• أفاقت تماما و استوعبت المعنى وراء العبارة ، ابتسمت بهدوء و قالت :

 إن هي إلا محاولة ••

 ناجحة ، ناجحة تماما يا ريم •• نهضت ريم و هي تقول :

الفضل بعد الله لقاسم ، كم كنت بحاجة لمن يذكرني بأنني مازلت على قيد الحياة •• قال الأب و ابتسامته تنسحب و إحساس بالذنب يلفه :

 غلطتنا يا ريم ، نحن من شجعنا اغترابك عن نفسك •• بسرعة و حنان ردت ريم :

 لا تقلها يا أبت ، بالعكس لقد استفدت كثيرا من الفترة السابقة ، لا يمكن أن أظل بعيدة عن الواقع ، و أعيش في جزيرة أحاسيسي فقط ، كان لابد من معاشرة الواقع

، من معرفة العالم من حولي ، الخطأ الوحيد هو أنني عرفت و لم أتعلم ، قاسم أرشدني و أعتقد أنني الأن اكثر قدرة على تحويل واقعي إلى الوجهة الصحيحة التي تتيح

لي الإستفادة منه في ضوء إمكانياتي ••تطلع إليها الأب بفخر و قال باشفاق :

 

 كبرت يا ريم •• ابتسمت و قالت :

 لم أعد ريم الصغيرة يا أبي •• لابد من التغيير على أية حال •• *** في اليوم التالي بدأت ريم مباشرة في تنفيذ ما اتفقت عليه مع أخيها ، إذ شرعت في اعادة ترتيب

المحل و فرغت ركنا خاصا للوحات التي ترسمها ووضعت حامل رسم خاص في زاوية منه ، و لم يمض يومان حتى كان هذا الركن الخاص من أجـــمل الأركان في المحل و أكثرها

اجتذابا لزائرات السوق ، ووجدت ريم لنفسها متعة أخرى عندما بدأت بعض السيدات في سؤالها عن المعنى الآخر للوحات ، و كانت تشرح بحماس و تقدم خلال شرحها معلومات

إضافية عن قيمة العمل الأصلي ، و أشياء كثيرة كانت دهشتها عظيمة عندما ضبـــطت نفسها تقولها ، إذ أن إقبـــال السيدات عـــلى الشراء بعـــد الحديث معــــها

و اتفاقهن على لوحات أخرى لم يكن له من معنى آخر غير أنها نجحت •• استرعى الزحام غير التقليدي على محل ريم انتباه زميلاتها بالسوق من مختلف البائعات ، و عندما

استطلعن الأمر و عرفن الخبر وجدت صاحبة الأسواق من تترك عملها و تذهب إليها خصيصا لتخبرها أن ريم تعمل لحسابها الخــاص في المحـــل الذي تقف فيه ، و يبدو ان

طريقة توصيل هذه المعلومة كانت قوية بالقدر الذي دفع صاحبة الأسواق إلى استدعاء ريم على عجل و مبادرتها فور دخولها :

 ريم هل أفتتحت لنفسك ركنا خاصا بك في محلي؟ فوجئت ريم بالمباشرة في السؤال فــلم تعلق مـــباشرة ، فأعـــادت المرأة الســــؤال علــــيها و أمهلتها حتى استجمعت

شجاعتها و ردت عليها قائلة :

 إذا كان ما تقصدينه هو ركن الفن التشكيلي فهذا صحيح •• قالت صاحبة الأسواق بحدة :

 هل تعرفين معنى أن تفتتحي لنفسك ركنا خاصا بك دون علمي ؟ فقالت ريم بدهشة:

 ركنا خاصا بي ؟ فقالت المرأة :

 بالطبع ، هو ركن تجاري يعود بالنفع عليك وحدك ، هكذا و بدون استئذان حتى •• أين تعتقدين نفسك ؟ في سوقك ، أم أنك صدقت أن المحل لك ؟ قالت ريم و قد أربكتها

لهجة التأنيب الحادة :

 يا سيدة أم سعد ، أنا لم أعتقد في أية لحظة ما تقولينه ، و لا يعدو الأمر تنفيذ فكرة تعود بالنفع على المحل و تستقطب له زبائن أكثر ، و هذا ما حدث بالفعل ••

هزت أم سعد رأسها رافضة تفهم ما حدث و قالت :

 ريم أنت لم تكوني أمينة على المحل الذي وضعتك فيه ، لذا أطلب إليك بهدوء أن تغادري المحل و لا تعودي إليه ثانية •• كانت الدموع تتدافع من عين ريم و هي تشعر

بمذلة و إحباط كبيرين ، و تذكرت مثل هذا الشعور و كم مر بها في مناسبات سابقة ، غادرت منزل أم سعد و هي مقتنعة أن لا حظ لها أبدا في هذه الحياة •• توجهت إلى

السوق ، لملمت أغراضها و أغلقت دكانها و سارت بهدوء بين عيون الزميلات اللواتي تعاطف بعضهن معها و تحدثن معها مواسيات مستفسرات مستنكرات و تحدثت إحدي البائعات

قائلة :

 كان من واجبك استشارتها قبل الإقدام على هذه الخطوة يا ريم •• أنت مخطئة طبعا •• من أقصى السوق جاءتها عميلة تركض ، قالت بسرعة و هي تلتقط أنفاسها :

 لم أصدق ما حدث ، هل حقا أنت راحلة ؟ ابتسمت ريم و أومأت إيجابا فقالت المرأة :

 هل يمكن أن آخذ رقم هاتفك ، سأحتاج موهبتك قريبا •• أعطتها ريم الرقم و غادرت السوق و لم تعد إليه ثانية •• *** كان قاسم أكثر أفراد اسرتها تألمــا مما حدث

معها و اعتبر نفسه سببا مباشرا فيما حدث و قال لها :

كان يجب ان نتدارس المشروع من كافة جوانبه ، لقد أغفلنا أهم الجوانب ، صاحبة السوق من حقها أن تعرف ، و لن يكون ظلما لو أخذت نسبة من المبيعات أيضا ، فالمحل

محلها •• قالت ريم و هي تغص بدموعها :

 لم تترك لي فرصة لأشرح لها حسن نيتي ، لم تدع لي مجال للتفاهم معها ، كانت قاسية جدا ، للحظة اتخذت ملامحها ملامح كل من ظلمني يوما •• أنا فاشلة ، لا حظ لي

في هذه الحياة •• قالت الأم و هي تراقب ريم مغتاظة :

 إنها وشاية يا ريم ، لابد في الأمر وشاية •• رفعت ريم رأسها و قالت مستنكرة :

 وشاية ؟ و لماذا أتعرض لوشاية من أحد ، إن علاقتي بالبائعات جيدة و لا أعتقد أن لإحداهن مصلحة في طردي •• تنهدت الأم و قالت بحزم :

 ستظلين طوال عمرك بلهاء •• تنظرين للناس بعين طبعك ، تعتقدين أنهن كلهن طيبات و محبات •• ألم تسمعي يوما عن الغيرة ، الحقد ، التنافس غير الشريف ، هذا بالتأكيد

ما تعرضت له يا ابنتي ، و عليك أن تعرفي من هي التي وشت بكعند أم سعد •• فقال قاسم بسرعة :

 يا أمي و ما الفائدة ؟ لماذا نحمل ريم فوق طاقتها و نفتح لها نوافذ على عيوب البشر ، دعيها في اعتقادها و دائما لن يصيبها إلا ما كتب الله لها •• و قالت ريم:

هل تظني يا أمي أنني حقا بلهاء ، إنني احاول أن أراجع مواقفهن معي فلا أجد فيهن من أستطيع اتهامها ، لقد كنت دوما صديقة للجميع ، و لم يحدث أن طلبت مني إحداهن

خدمة ولم أؤدها لها ، لقد ساعدت معظمهن على إعادة ترتيب محلاتهن ، ووقفت بدلا عن من تخرج مبكرا لظرف طاريء منهن ، و كنت أوجه زبائني إلى محلاتهن عندما أعرف

رغبة إحداهن في شراء شيء لديهن ، حتى المشاكل التي قد تحدث بين البائعات كنت أساهم دوما في حلها و ترضية الأطراف ، فلماذا أقابل بالشر و قد بدأتهم بالخير ؟

قالت الأم و هي تنظر بشفقة لإبنتها :

 من أجل كل هذا يا ابنتي •• من أجل الخير الذي يملأ قلبك ، لابد أن منهن من حسدتك على خيرك و عطائك ، لابد أن هناك من تمنت موقعك في السوق و تمنت لو أن خير

قلبك و عطاءك يكون لديها ، هذا لا شك فيه •• و عندما ظهرت موهبتك سافرة أمام العيون اشتعل الحسد في القلوب المريضة و كانت هذه النتيجة ••فقالت ريم :

 و لكن يا أمي هذا يعني أن الشر انتصر •• فقال قاسم على الفور :

إلى حين يا ريم ، الشر قد يكسب جولة ، و لكن الخير له النصر الأخير •• همست ريم :

 أتعتقد هذا حقا ؟ هز رأسه إيجابا و قالت الأم :

 بل هو أكيد •• *** لم تمض على هذه المحادثة أيام قليلة حتي جاء الفرج بشكل لم تتوقعه ريم أبدا عبر مكالمة هاتفية من صاحبة أسواق نسائية أخرى في منطقة أكثر

رقيا عرفت بنفسها قائلة :

 أنا أم عبد الله ، سمعت عنك كثيرا من بعض عميلاتي ، و رأيت أيضا عملك الفني لدى إحداهن ، و لذا فإنني أطلب إليك ــ خلافا للعادة ــ أن تأتي إلى السوق غدا لنتحدث

بشأن مشروع أفكر به ، إذا كان يناسبك •• قالت ريم بحماس :

 بالطبع ، سآتي ، غدا ، غدا أكون لديك إن شاء الله •• عندما وضعت ريم السماعة كان لديها يقين بأن الله معها ، و عندما شرحت لأمها ماحدث دعت لها بالتوفيق و قال

قاسم :

 آمل أن أطمئن عليك قبل سفري ، سيكون من دواعي سروري أن أحمل عنك أخبارا طيبة لمن ينتظرون أخبارك •• سألته ريم باسمة :

 و من الذين ينتظرون أخباري يا قاسم ؟

 كثيرون يا ريم ، كما تتلهفين على الأخبار يتلهفون •• قالت ريم بحذر :

 الأستاذ سعيد ؟ ضحك قاسم و قال :

 سعيد ، ياله من رجل !! ، أتعرفين لقد أقمت عنده فترة أسبوعين على الأقل ، أصرعلىأن أعيش معه ليتمكن من خدمتي و عندما أثبتت الأيام أنه لا يتقن الطهي آثرت

العودة إلى منزلنا و خرجت و لن أعود •• قالت ريم مندهشة :

عشت مع سعيد ؟لم تخبرنا من قبل بهذا الأمر ••

 لا جديد فيه ، سعيد يعيش بمفرده و أعيـــش بمفردي ، و لا فــــرق في أن أســــكن عــنده أو يسكن عندي، الحياة اختلفت كثيرا يا ريم ، البيت بدونكم مقفرا ،

أحيانا أجد نفسي متجها تلقائيا لديه أمارس معه لعبة العائلة المفضلة في تفريغ الهموم ، و أحيانا أخرى أجده يأتي إلي ، عزاب يا أختي ماذا تتوقعين ؟ قالت ريم

بإعزاز :

 هذا المخلوق •• كم أتعبناه معنا و لازلنا ، إنه إنسان نادر ••

 هو يراك نادرة أيضا ••

 أنا ؟

 نعم ، يضع لوحة لاجئة فوق فراشه و كلما وقعت عيناه عليها بادر بارسال التحية ، بالمناسبة لقد تلقى عرضا مغريا لبيع اللوحة قبل مقدمي بيوم ، زاره شخص غريب قال

إنه صاحب صالة فنون تشكلية و يريد شراء هذه اللوحة منه •• بلهفة قالت ريم :

 و هل وافق؟ فقال قاسم بلامبالاة :

 اقترحت عليه أن يوافق فالرجل يعرض ثروة ، و لكنه فيما يبدو لم يوافق •• لا أدري ، انشغلت بأمور السفر و لم أعرف التفاصيل •• همست ريم :

لن يبيع اللوحة ، لو فعل لن يكون سعيد الذي عرفت •• *** كان عرض أم عبد الله مفاجأة لريم بكل المقاييس ، لقد عرضت عليها محلا مستقلا في سوقها ، يؤثث كاملا

للفن التشكيلي ، يبدأ بلوحات لها و تدريجيا يضم لوحات أخرى لفنانين أخر ، تنفذ فيه أعمال تشكلية وفق رغبة العميلات ، و يلحق به فرع خاص للاطارات و تغليف الهدايا

، و طلبت منها أن تعرض عليها أي فكرة جديدة قد تخدم المحل ، او خدمة في هذا الإطار تحتاجها العميلات ، و ذلك مقابل المناصفة في الأرباح ، عرض خيالي لم تكن ريم

تتوقعه ، فهي لا تملك إلا موهبتها ، فيـــما ستقوم السيدة بتأثيث المحل و تجهيزه و توفير كافة الخامات المطلوبة ، وفي النهاية الأرباح مناصفة ، أي عرض ؟ كانت

ريم تقص الخبر على أسرتها و دهشة كبيرة تغلف صوتها ، و إحساس فرح كبير يطغى على قلبها ، قالت الأم و هي تحمد الله :

 الله مع المنكسرين جابر •• و قال قاسم :

 مبروك يا أختي ، ارفعي رؤوسنا و قدمي أحسن ما عندك •• و قال الأب :

 لا تنسي يا ابنتي ، العمل لن يكون فنا خالصا ، إنه ادارة و تسويق و تعامل مع أناس فيهم الجيد و فيهم الرديء ، ضعي الله نصب عينيك و توكلي عليه ، و إن شاء الله

ستنجحين •• و قالت الأم :

 لا تعطي ثقتك لأحد •• إعملي بما يرضي الله و لكن لا تمنحي كل ما تملكين دفعة واحدة ، اعرفي المجتمع الجديد و تعاملي معه بحذر •• هزت ريم رأسها و قالت بثقة:

 اطمئنوا ، الله معي ، لن يخذلني ما حييت •• *** سافر قاسم ، وعادت الأسرة إلى سابق عهدها و يومـــياتها، و استغــرقت ريم في إعـــداد و تجهيز المحل الخاص

بها ، كان الحــلم يتجسد يوما بعــــد يوم و المحل يأخذ طــــابعا مختلفا و شكلا مبهرا ، وظفت أم عبد الله كل فنون الديكور في عمل موقع للفن التشكيلي من أبدع

ما يكون ، أطلقت على المحل " جاليري الرياض " و بعـــد شهـــر كان المحـــل قد اكتسى حلته و تهيأ حتى بالأكياسو الكروت التي تحمل اسمه ، و لم تبخل أم عبد

الله عليه بالإعلان في الصحف و عندما رأت في عيون ريم أسئلة و دهشة ضحكت قائلة :

 الغالي ثمنه فيه يا ريم ، العمل ينبغي أن يصرف عليه جيدا حتى يأتي بعائد جيد ، غدا تعرفين قيمة ما نفعل و ما نصرف •• قالت ريم :

 لكنك أنفقت الكثير وفي هذه الحالة يكون مناصفة الأرباح بيننا غير عادل ، ينبغي إعادة النظر في هذا الاتفاق •• ضحكت أم عبد الله كثيرا و ربتت على كتف ريم و

قالت :

 يبدو أنك ساذجة أكثر مما تصورت ، ما تقولينه ينبغي ألا يقال ، أنت ستساهمي بمجهود كبير و على اكتافك سينهض و يستمر هذا المحل ، كل ما ترينه غلاف أنيق لن يكون

له قيمة ما لم يكون المضمون راق ، هل فهمت ؟ هزت ريم رأسها و قالت :

 لا أعرف كيف أشكرك يا أم عبد الله ، أسأل الله أن يوفقنا و ينجح المشروع و أستطيع حقا أن أكون عند حسن ظنك بي و بموهبتي •• قالت أم عبد الله مؤكدة :

 انا اكيدة إن شاء الله أنك ستكونين على قدر المسئولية، هذا أحساسي و طالما كان إحساسي صادقا و لم يخذلني أبدا •• *** عادت ريم في هذا اليوم كأسعد ما يكون

، ممتلئة حماسا و رغبة في إعطاء مجهودها مداه ، كانت بالفعل قد شرعت في الرسم المخصص للمحل داخل المنزل و كانت تريد أن تصل سريعا فقط لتكمل ما بدأت ، و عندما

دخلت المنزل ، استرعت انتباهها الأصوات القادمة من الصالون ، ثم نادتها الأم لتدخل و كانت مازالت بعباءتها ، دخلت تلبية لطلب الأم فوجدت الأب جالسا في واجهة

الغرفة وعلى يمينه ، جلس شاب شديد الوسامة ، كانت نظراته مطرقة ، و في يده كوب شاي لم ينتهي ، وقفت ريم على الباب فقال الأب :

 أدخلي يا ريم ، تعرفي على ابن عميسهيلاتسعت ابتسامة ريم و دخلت على الفور مرحبة و قالت و هي تمد يدها إليه :

 

 أهلا بك يا سهيل ، حمدا لله على سلامتك •• نهض سهيل و قال بارتباك قليل :

 أهلا بك يا ابنة العم ••قال الأب :

 أتصدقين يا ريم أن سهيلا في الرياض منذ شهرين و لم يأتي الا اليوم ؟فقالت ريم فورا :

 صحيح ، لقد تذكرت أخبرتني في خطابك أنك قادم ، فعلا أنت هنا منذ وقت طويل ، لماذا لم تأت قبل اليوم؟ جلس سهيل و عادت نظراته إلى الأرض و قال :

 لم أشأ أن أزوركم قبل أن تستقر أوضاعي هنا ، كان لابد من تأمين السكن و استلام العمل والتعرف على المكان و غير ذلك من أمور •• قالت ريم :

 فهمت •• ستحتاج بعض الوقت للتكيف مع المحيط و الحياة هنا ، و خاصة حرارة الجو •• رفع سهيل عيونه إليها و ركزهما عليها و قال :

 انسيت ، أنني كنت أعمل في الصحراء الليبية ، و الجو الحار من خواص منطقة العمل هناك •• خفضت ريم نظراتها بسرعة و قالت :

 نعم •• معك حق •• أستأذنت لتبديل ملابسها و عندما عادت ، تشعب الحديث و كانت الموضوعات كثيرة ، تحدث سهيل عن نفسه و تحدثت ريم عن مشروعها ، و عندما دقت الساعة

منتصف الليل قرر سهيل أن يمضي •• عادت ريم لغرفتها ، و استخرجت من خزانة ملابسها رزمة رسائل كان سهيل قد كتبها إليها طيلة السنوات الماضية ، أعادت قراءتها ،

كانت تريد أن تعرف المزيد عنه ، و كانت كأنها تقرأ الرسائل للمرة الأولى ، كان فيها شيء جديد لم يسبق لها أن رأته من قبل ، فجأة شعرت أن الكلمات أكتست لحماو

دما و أن وجه سهيل الجميل يطغى على السطور بل على كل جو الغرفة •• *** عاش سهيل يتيما ، تربى في أحدالمخيمات على الحدود ، كانت ظروفه دائما سيئة ، تعلم في

مدارس الأنروا و كان دوما طفلا ذكيا موهوبا أثبت تفوقه رغم ظروفه و رغم اضطراره إلى العمل منذ نعومة أظفاره و افتقاره إلى الحنان فكل امريء في المخيم لاه بحاله

و لم يكن وجود طفل يتيم بينهم بالأمر الذي يدعو إلى المعاملة الخاصة ، لأن حاله مثل حال الكثيرين ، تربى و كبر دون أن يعتني أحد بعينه بهذه التربية و كان في

داخله غضب يكبر كلما كبر و تعلم و فهم ، غضب على حياته و جوعه و حرمانه ، غضب على الأشخاص الذين يأتون مرة كل شهر ليصبوا في أوعيته القديمة دقيقا و سكرا و زيتا

، كان لديه غضب على كبار كانوا يسرقون طعامه ليطعموا أولادهم و يتركونه في البرد يرتجف ليغطوا بغطاء الصدقات الخاص به أطفالهم ، كان في قلبه غضب على الأطفال

الذين لديهم أم أو أب ، أولئك الذين كانوا يصيحون فيه كلما اقترب منهم و يهددونه بهذا الأب أو تلك الأم ، كان غاضبا دوما ، لا تزور البسمة شفتيه إلا إذا استطاع

أن يقتص من أي شخص بطريقته الخاصة ، قد يسرق ، قد يضرب ، قد يجري سريعا بعد أن يضايق أحدهم فلا يلحق به ، الشيء الوحيد الذي لم يمارسه أبدا في حياته هو الكذب

، لم يكن يكذب أبدا كان يعتبر الكذب نقيصة تقلل من أهميته و تأخذ من رجولته ، لذا جر عليه صدقه صنوفا من العذابات على يدي سكان المخيم ، أو معلميه ، و عندما

كبر انخرط كغيره منالفتيان في صفوف المقاومة ، لم يكن يعنيه اللواء الذي يقاتل تحت شعاره ، كل ما كان يهمه أن يمسك في يده بنـــدقية قديمة ، أو رشاشا صغـــيرا

، أو حتى قنبــلة يدوية و ينفذ عملية صغيرة تطلب منه ، و سقط إحدى المرات في يد الإسرائليين ، و كان من الممكن أن يظل سجينا بقية حياته لولا خروجه ضمن إفراجات

تحدث من وقت إلى آخر لأسباب سياسية لم تكن تعنيه ، كل ما كان يعيشه آنذاك أنه دخل السجن و أنه خرج منه ، و أنه صار بطلا و لا يستطيع أن يقهره أي مخلوق، و

عندما انتهى من الثانوية العامة تحدث مع المستر "جو " الذي جاء ليتفقد المخـــيم ذات يـــوم و طلب منه أن يكـــمل تعليمه و وعده هذا "الجو " بأن يدرس وضعه و

ييسر له هذا الأمر ، و بالفعل حالفه الحظ ووجد له مقعدا دراسيا في جامعة بير زيت ،ربما كانت الدعاية للمساعي الغربية النبيلة هي التي وفرته له ــ فقد تم تصويره

و هو يدخل الجامعة و كتبوا على لسانه بعض عبارات الشكر في كتيب أنيق يوزع على الجهات المانحة للمعونات ــ ، لكنه لم يكن معنيا إلا بما يستطيع الوصول إليه من

مكاسب أيا كانت الجهة التي ستمنحه هذه المكاسب ، و في الجامعة أيضا كان متفوقا ، عنيفا ، سليط اللسان ، ساعدته وسامته و طلاقة لسانهعلى تقبل الآخرين له ،

كما أنه كان وطنيا لا يجرؤ أحدهم على اتهامه بعكس ذلك ، فقد كان ينظم المظاهرات و يقوم من وقت لآخر بالعمليات الصغيرة التي اعتاد القيام بها منذ صغره ، و عندما

تخرج استطاع أن يحصل على عقد عمل في صحراء ليبيا •• و لم تكن حياته خالية من وجود الجنس الناعم فيها ، فهو قد تربى في مخيم و يعرف من أين تؤكل الكتف كما يقولون

، لذا اتسم بالجرأة في تعامله مع البنات ، و كان من السهل عليه تكوين العلاقات ، إلا أن علاقاته لم تصل يوما إلى أبعد من اللقاءات و الكلام المعسول و الأحلام

الوردية ، ثم يتركها ليبحث عن غيرها ، و كان شباب الجامعة يغبطونه على قدرته في اجتذاب القلوب إليه فكان يبتسم إبتسامته الغامضة الساحرة و يقول :"إنه سر اللعبة

••!!" عندما أتاحت له الظروف أن يعمل في الرياض ، كانت ريم هي شغله الشاغل ، ربطمصيرها بمصيره منذ تعرف إليها عبر السطور و المسافات ، كانت شيئا شفافا لم

يقابل مثله في حياته، و عندما تعرف إليها في أول زيارة لبيتها ترسخ لديه اليقين بأنها ستكون بطلة قصة جدـــيدة في حياته ، و أعجبه جــدا طريقـــة تفكيرها و

أسلوب حديثها و تفاؤلها الدائم رغم ما مرت به من محن ، و عندما تحدثوا أمامه عن ثقتها فيمن حولها عرف أنه قابل فتاة طيبة :

 

 كما أنها جميلة •• ***خلال عام كانت ريم قد ثبتت نفسها في عملها و صنعت لنفسها اسما في عالم الفن التشكيلي و استطاعت ان تحظى بثقة كل من تعامل معها فازدهرت

أعمـــال المحل كثيرا ، و ظلت هي محل اهتمام و عطــف صاحبة الســــوق ، التي قدرت فيها مهارتها وأمـــانتها و حسن سلوكها ، و استطاعت ريم أيضا خلال هذا العام

أن تستخرج شهادتها الجامعية بناء على الحاح والدتها و ليس لأنها تريدها ، شقت ريم طريقها بدون الشهادة و لذا فلا أهمية لهذه الورقة التي أخذت من عمرها سنين

، و خالفتها أم عبد الله الرأي قالت لها إن وجود هذه الشهادة ووضعها في المحـــل في إطار أنيق من شأنه أن يدعـــم المحـــل أكثر ، و ذلك عندما تطلع العميلات

على الشهادة و تعرفن أن من يتعاملن معها صقلت موهبتها بالدراسة ، قالت لها و هي تؤكد :

صدقيني ، الناس يهمها الشهادات •• و بالفعل أطرت ريم الشهادة ووضعتها على جدار المحل ، و صدق توقع أم عبد الله فقد تناقلت العميلات الخبر و ازدادت ثقتهن بها

و بذوقها و أصبح من العادي جدا أن تسألها العميلة عن رأيها في التصميم الداخلي لمنزلها ، و فشلت في أقناعهن بأنها ليست مهندسة ديكور ، إذ كان ذوقها يبرهن دائما

على تفهمها الكبير للجمال و معرفتها لأبسط الطرق التي تؤدي إليه •• و استرخت ريم ، شعرت أنها ارتاحت ، لم يعد هناك ما يؤرقها ، فالتفتت إلى قلبها لتكتشف فجأة

أنها لم تحب حتى هذا الوقت