ماذا تقصدين ؟ تنهدت الأم و قالت :
أقصد حماك الله من هذا الأستاذ و أشباهه ووقاك شر أولاد الحرام ، لقد بدأ سعيد يلعب لعبته و اختارك أنت هذه المرة فكوني حذرة ••
لكنه تحدث مع أبي و كان الحديث عابرا ، و عرض المساعدة ••
هذه البداية يا بنت أبيك ، احذري و اخبريني دوما بكل شيء و الله يرعاك ••
هل أقول لأبي ؟
لا يفهم الرجال هذه الأمور و لا يستطيعون استيعابها و خاصة عندما يظل الأب على اعتقاده أن ريم ابنة الثمانية عشر عاما ما زالت في مثل عمر سمر •• أبوك لن يصدق
، لكنه سيقلق و لاأريده أن يقلق ، يكفيه قلق ••فهمت يا حبيبتي ؟ هزت ريم رأسها :
فهمت •• *** كانت سوسن في حجرتها عندما طرق عليها أخوها الباب و دخل ، تلفت حوله و سألها مباشرة عن ريم :
غادرت مبكرا ، أنا لم اتأخر •• رفعت رأسها عن كتابها و سألته بدورها :
عمن تتحدث ؟
ريم ضحكت سوسن و أغلقت الكتاب و قالت :
هيه •• بدأنا نتخيل ، هو العشق إذن يا أخي الكبير العاقل ••
أي تخيل يا سوسن ، لقــد قابلت ريم في طريقها إلى هنا و طلبت منها انتظاري ، فلم رحلت باكرا ؟
ريم لم تأت أصــلا ، رغم أنهــا كانت قد وعدتني بزيارة الـيوم ، آه إذن هي لم تأت بسببك ••
بسببي أنا ؟
نعم •• ريم خجول للغاية و مجرد مخاطبتك لها في الشارع أثار حفيظتها ، و لا استغرب تصرفها •• ابتسم سيد بارتياح و قال :
هذا هو النمط الذي أريد •• ريم فتاة خام و هي ما يتمناه كل شاب •• قالت سوسن :
و لكن ماذا عنها هي يا سيد ، إن ريم لا تحب الحديث حولك ، و كم حاولت أن أنقل لها انطباعاتك و مشاعرك فكانت دائما تصدني و ترفض مجرد الكلام ••
خجل العذارى ••
ليس مع صديقتها ، إنني أعرف عنها كل شيء و لا مكان للمواربة بيننا ، علاقتنا منذ الطفولة كما تعلم و ريم حازمة في مثل هذه الأمور ، كل ما يعنيها الرسم و لا
شيء غير الرسم ••
عادة غبية ينبغي أن تتركها عندما نتزوج •• نظرت إليه سوسن ممتعضة ، غادر الغرفة و قالت هي :
هذا إذا تزوجتها ••
كان سيد نموذجا لشباب فقد رغبته في الجديد ، كان قديم المشاعر و التفكير و الأخلاق ، يزن الناس بمقدار ما لديهم من هذا القديم ، يعتبر كل جـــديد انحلال و تفـــسخ
عن القــيم و الأخلاق ، و في سبيل تكريس هذه الحقائق جار على الابتسام حتى نسيه و تعلم أن البنت وسيلة إنجاب و تكوين أسرة ، ينبغي ألا يكون لها في الحياة رأي
أو موقف ، و كان يعتقد أن تعليم الفتاة ينبغي أن يتوقف عند الثانوية العامة ، لذا فقد فرض على أخته حياة البيت بعدها مباشرة ، و لما كان هو ولي امرها بعد وفاة
والدها فقد رضخت لأمره و لم تكمل تعليمها ، شجع سيد منذ البداية العلاقة بين أخته و بين ريم ، في الوقت الذي وقف فيه بالمرصاد لأية علاقة أخرى مع صديقات أخريات
، كان يعرف العم جهاد و يقدره كثيرا و يرى فيه النموذج الحقيقي للرجل ، يكدح من أجل أسرته و زوجته في المنزل تسهر على رعايته و إنجاب الأطفال له ، و بلغ تقديره
له كل مبلغ عندما وجده أجلس ريم بعد الثانوية العامة كما فعل هو مع اخته و بهذا اتفقت الميول و صار زواجه من ريم مسألة وقت ، لا يقف أمامها رفض ريم أو ممانعة
والدها :
و كيف يرفض و أنا معلم محترم ، لي راتب و بيت و شخصية قيادية يلمسها الجميع •• وأد في نفسه ميلا إلى الشعر لمسه لديه معلم اللغة العربية عندما كان طالبا ،
أعتبر أن الشعر مضيعة للوقت و سبب في مياعة الشباب و تأخر رجولتهم لذا فقد كان حازما مع نفسه ، مزق كل أشعار المراهقة و ترك للأيام قيادته وفق التقسيم التقليدي، دراسة فعمل فزواج •• لكنه بعد أن رأى ريم و قد صارت عروسا جميلة عاوده حنين قديم للشعر ، و عندما أسهده التفكير فيها ذات ليلة ، ضبط نفسه متلبسا بالشعر،
و كانت الساعة تدق الثانية بعد منتصف الليل و قصيدة متينة مستقرة بين يديه تطلب إليه أن يهديها لصاحبتها •• لكنه عاد فهزأ من نفسه و طوى القصيدة و ألقــاها
بلا اهتــمام في درج مكتبه ••
*** خلال سني عمله في مصر ، و بعد زواجه من سميحة عمل جهاد في مجال البناء و شيئا فشيئا تعلم أن يقتحم مجالات أخرى تتعلق به ، فأصبح بامكانه أن يقوم بالطلاء
و برع أيضا في أمور السباكة و الكهرباء و حتى النجارة إذا لزم الأمر ، و اكتسب ثقة كل من عمل معهم لذا لم تتوقف أعماله يوما و كان يعتبر أن هذا رزق تعليم و
رعاية الأولاد ، فلم يكن يبخل عليهم بكل قرش يجنيه من كده ، و كان لتدبير سميجة زوجته أبلغ الأثر في سير الحياة وفق ما تمنــوا و رغبوا ، فعلى قـــدر أحلامــهم
الصــغيرة كانت أيضا أهدافهم و سيرتهم في الحياة ، و لكن بعد أن لاح أمل الجامعة مجددا في أفق حياتهم أصبح هذا الأمر هو الشغل الشاغل لدى العم جهاد ، كان لابد
من وسيلة يحقق بها حلم ابنته و من بعدها ابنه ثم ابنته الأخرى ، و بهذه الطريقة لا يمكن ••!! كان يتأمل لوحة البئر التي أخذها من ريم و آلاف الافكار تتصارع
في رأسه ، تصب كلها في السؤال اليتيم :
من أين ؟ كانت أم ريم تنظر إليه منذ فترة بدون أن يشعر ، كانت تعرف تماما ما يدور في خلده ، كانت مدركة أن الفكرة لم تغادر رأسه منذ زرعها سعيد فيه و هي تعرف
جهاد عشرة العمر جيدا •• أخيرا تنهدت لتنبهه و قالت :
وحد الله يا رجل •• تطلع إليها و تنهد بدوره و قال :
لا إله إلا الله سيدنا محمد رسول الله
عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم •• ما بك يا أبا العيال ؟
ريم يجب أن تدخل الجامعة •• و قبل أن تتكلم حذرها :
و لا تقولي من أين ، الرزاق موجود ••
و نعم بالله ، و لكن حقا ، حقا من أين ؟
أفكر في أمر و لا أدري إذا كان ممكنا أو لا ••
لا تقلها ••
يجب يا أم العيال ، آن الآوان لتنفيذها ، أجلناها كثيرا و لكن آن الآوان
تريد أن تسافر و تتركنا ؟
قاسم صار رجلا يعتمد عليه ، و الغربة لن تطول •• صمتا كلاهما بعد هذه العبارة ، كان كلاهما يفكر في نفس الأمر :" الغربة لن تطول عبارة حدثته بها نفسه قبل عشرين
عاما حين غادر غزة و ها هي طالت و طالت حتى صارت عمرا ، فلماذا لن تطول بدورها غربة الكفاح من أجل تعليم الأولاد؟ " همست :
لا أحتمل الفراق •• قال :
سنين قليلة ، اجمع فيها بعض النقود و اعود و ربما تمكنا حتى من بناء بيت خاص لنا بدلا عن هذا المنزل ذي الأجرة القديمة و الذي يراودني صاحبه عنه منذ فترة ••
أنت تعلمين كل شيء يا سميحة ، فلماذا تمانعين ؟
لا •• لا يا أبا قاسم • لا •• لقد كبرنا على غربة تفرقنا ، لن أطيق الفراق بعد أن صرت أنت كل حياتي ، لن أطيق أن أعيش مع الأبناء ، أقاسي الأمرين بدونك ،
و أنت هناك في بلاد الله خلق الله تكافح و تعود آخر النهار فلا تجد من تمسح عرقك و تشد أزرك ، هذا فوق احتمالي يا جهاد فوق احتمالي ••
لكن الأولاد بحاجة للمزيد ••
بل يممكننا الاستغناء عن هذا المزيد ، يمكنــنا أن نرضى بما قسمه الله لنا و نكمل حياتنا ••
نحو أي اتجاه يا أم العيال ؟ تمضي حياتنا نحو أي اتجاه ؟ نعلمهم حتى الثانوية ثم نتركهم يصارعون فقرا و قلة وظائف و لجوء ، ما الذي فعلته إذن •• ما هي الثمرة
التي رويتها بسنين غربتي و لجوئي •• ماذا سيقول أولادي بعد موتي ، هل سيترحمون علي ، ام سيقولون سامحه الله تركنا ريش في مهب الريح •• نحن فلسطنيون يا أم قاسم
، هل تدركين معنى هذه الجنسية علينا ، فلسطيني لا أرض تقبله و لا مكان يرحب به ، يعيش حياته مشتتا بين أمل كاذب و سياسة فاضحة و كفاح مسلح استمر سنينا و حصد
أذكى الأرواح و لم يسفر عن شيء •• هل تفهمين قصدي ؟
و من غيري يمكنها ذلك يا أبا العيال ، من غيري بوسعها أن تعصر سنين العمر الماضية و تقدمها دماءً في عروق الصغار ، من غيري يا أبا قاسم ، و لكن ، الفراق ؟
حتى حين ••
و الأولاد ؟
سيفهمون و سيعينونك ••
و الوحدة ؟
سأرسل لك كل يوم خطاب ••
و السفر؟
سيكون في أسرع وقت •• إن شاء الله *** كان سعيد يداري نفسه بعدما لمح العم جهاد في الطريق ، خشى أن يسأله عن الأمل الكاذب الذي زرعه برعونة في حياته و كان
أخشى ما يخشاه أن يعيد العم جهاد عليه الحوار الذي دار بينهما البارحة ، عندما كان عائدا من عمله فإذا بالعم جهاد ينتظره و يلح عليه أن يدخل بيته ليتحدثا ،
كانت المرة الاولى التي يدخل فيها هذا البيت ، تمنى رؤية ريم و لكن الأب فتح له غرفة الصالون و استأذنه دقيقة عاد بعدها يحمل صينية الشاي ، قدم له كوبه و هو
يقول :
أستاذ سعيد •• تفضل •• أرجو ألا أكون قد فوت عليك عمل ما في هذه الظهيرة ••
لا لا أبدا يا عم جهاد ••
اسمع يا بني منذ أن تفضلت و قلت أنه بامكانك الحاق ريم بالجامعة و أنا أفكر مع أم العيال في الطريقة التي نجمع بها المال من أجل هذا الهدف الذي نحلم به ••
وضع سعيد كوب الشاي و هم بالكلام ، لكن العم جهاد كان متحمسا لإكمال ما يريد قوله فأكمل :
و بعد تفكير قررت أن السفر هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنني من خلالها تحقيق هذا الحلم لأولادي تباعا
و لكن يا عم جهاد ••
و لكن يا بني أنا أريد أن أعرف الآن ماذا تم بهذا الخصوص ، فلدي فرصة للسفر الى السعودية بعد شهرين من الآن صديقي الحاج محمود وفرها لي مشكورا ، سأعمل هناك
في البناء أيضا براتب كبير ، حوالي ألف جنيه ، هكذا قال لي الحج محمود ، و أنا أريد منك تأكيدا ••
نعم يا عم جهاد و لكن ••
يا بني الجامعة حلم ريم الدائم ، و أنا لا أريد أن أثقل علــيك ، فقط أجبني هل هو ممكن ام لا ؟ ترك سعيدا كوبه و نهض قائلا :
في أقـــرب فرصـــة سأخبرك بكــل شيء ، لقد ســرت بعــض الخطوات في هذا الموضوع و عندما أنتهي سوف أخبرك بكل شيء
بارك الله فيك يا بني ، بارك الله فيك ، اجلس نتغدى سويا •• لكن سعيد لم يجلس ، لقد خرج مسرعا و كأنه كان في الجحيم ، لمح ريم و هو يغلق الباب خلفه ، لمح عيونها
، تلك العيــون التي حيـــرته كثيرا منــذ اللحظة الأولى ، رأى فيها أملا و رجاء و اعتماد •• خرج مســـرعا لا يلـــوي على شيء فتح باب منزله و نظر لمــرآة الباب
و صاح بغضب :
كاذب ، كاذب •• *** نزل خبر سفر الأب المزمع على رأس ريم كالصاعقة ، رفضته منذ اللحظة الاولى ، توسلت إليه ألا يفعل ، قالت أنها راضية تماما بتعليمها إلى هذا
الحد ، دللت على أن الأمر عادي بصديقتها سوسن ، لكن الأب اكتفى بقوله :
سوسن مصرية و أنت فلسطينية •• توسلت إلى أمها أن تثنيه عن قراره ، تحدثت الليالي الطوال إلى أخيها عن غول الغربة الذي سيقتحم حياتهم اذا سافر الأب في غربته
الثانية ، بـــكت ، تــوسلت ، ألحت ، صــلت و دعت الله كثيرا و لكن أباها لم يستجب ، لقد قرر و انتهى ••
و عندما دخل سعيد بيتهم تلك الظهيرة مع أبيها شعرت أنها تريد أن تقتله ، وقفت على باب غرفة الصالون تستمع إلى الحديث ، بدا و كأنه حديث من طرف واحد ، أبوها
فقط يتحدث و سعيد يقول "و لكن " حنقت عليه أشد الحنق ، إنه هو السبب ، ليته يستطيع أن يثنيه عن قراره ، ليته يكمل " و لكن " بحديث طويل يقنعه فيه أن غربته عن
أولاده ثمنا كبيرا جدا على تعليم الأولاد ، تمنت أن يقول له أنه كان يكذب و أن الجامعة كذبة كبيرة اتخذت شكل البومة و لعبت لعبتها الأبدية في تفريق الشمل و
بعثرة الأسرة ، لكنه لم يقل ، و حين خرج ، لا تدري لماذا نطقت عيونها بالتوسل بدلا عن الغضب الذي كان يغلي داخلها ، و تساءلت :
هل فهم •• هل سيحاول •• لابد أن يفهم ، لابد أن يحاول و هي ستقنعه بذلك •• حزمت أمرها و انتظرته في اليوم التالي بجوار منزله ، في نفس المكان حيث رآها للمرة
الاولى ، عندما أقبل عليها بدا للوهلة الأولى غير مصدق ، ثم تحولت ملامحه إلى الابتسام تعبيرا عن سروره ، لكنه ما أن اصبح في مواجهتها بوجهها الحانق حتى انقلبت
ملامحه رأسا على عقب ، وقف واجما و لم يعرف ماذا يقول و بادرته هي :
أستاذ سعيد ، أريد أن أتحدث معك كلمتين لو سمحت •• ابتسم مجددا و لكن بحذر و دعاها للكلام قالت :
ينبغي أولا أن أشكرك على عرضك الكريم على أبي بإلحاقي بالجامعة ، لكنني أريد منك أمرا لو سمحت •• بلع غصة قريبة و ظن أنها ستطلب منه مثلما طلب أبوها الإسراع
في المجيء بالرد لذا هم بالكلام :
لقد قلت لأبيك •• قاطعته :
دع عنك أبي الآن ، أنا صاحبة القضية ، و أنا من تعنيها بالمقام الاول ، و بقدر اشتياقي و رغبتي الحقيقية في الالتحاق بالجامعة ، و بقدر أمنيات أبي و رغبته
العارمة في تعليمنا حتى آخر التعليم العالي ، أطلب منك أن تعدل عن خدمتك و أن تخبر أبي انك كنت تكذب عليه و لا تستطيع خدمتنا بهذا الخصوص •• بلع ريقه و نظر
إليها و الدهشة تكسو كل ملامحه ، ماذا تطلب هذه الشابة ؟•• ترجم دهشته في كلمة استنكار بدت حقيقية جدا :
أنا كاذب ؟ تلعثمت ريم لكنها سرعان ما استعادت قوتها و قالت :
آسفة •• لم أقصد ما قلت حرفيا و إنما اردت إبلاغك أنك بهذا الحلم الذي دخلت به حياتنا أعملت معولك في هدمها •• أشاحت بوجهها تخفي دمعة ، ثم نظرت إليه و ملامحها
تحمل رجاء و استعطاف و قالت :
أبي سيسافر و يتركنا من أجل هذا الهدف•• شيء يشبه الزلزال تحرك داخله ، شيء ما هزه حتى الأعماق ، تمنى لو يأخذ هذه المخلوقة في حضنه و يعتصرها بين يديه ، تجاوبا
مع نظرة الاستعطاف ، تمنى لو أمكنه حتى أن يمد يده فيمسح دمعتها الخجول ، صمت قليلا ثم قال :
لكنه هدف نبيل و يستحق الكفاح •• صاحت :
أنت لا تفهم ، لا يمكن أن تفهم معنى غربة أبي الثانية •• أنت لن تفهم ، لن تفهم •• لم تستطع أن تكمل ، بدأت دموعها تغلبها ، و لمح هو اللؤلؤ يتساقط بسرعة غريبة
من عيونها ، كانت عيناها مفتوحة و دموعها بلا صوت لكن النشيج كان في قلبه ، و الأسى ملك عليه نفسه همس :
اهدئي أرجوك ••
ستخبر أبي أنك لم تسطع عمل شيء و أنني لا يمكنني الدراسة في الجامعة ؟
سأفعل ••
وعد ؟
اعتبريه كذلك ••
أشكرك •• و مثلما حدث في اللقاء الاول في نفس المكان انسلت من أمامه كالطيف و غابت في انعطافة منزلهم و هي تحدث نفسها :
ربما ينجح هو فيما فشلنا فيه ••
*** ذلك المساء كان مميزا جدا فقد جاء سعيد إلى منزل العم جهاد بنفسه و بدون دعوة ، طرق الباب و عندما فتح له قاسم سلم عليه كرجل راشد و سأله عن أبيه ، فأدخله
قاسم الصالون و نادى أباه و أخبره عن الزائر الغريب فنهض الأب مبتسما و طلب من أم العيال أن تعد الشاي بسرعة ، كان سعيد يرتدي ملابس أنيقة صيفية ، حليق الذقن
تنبعث منه رائحة ذكية ، و كان مبتسما ، سلم على العم جهاد بحرارة و جلس و بادر فورا بالكلام :
عم جهاد ، لقد تحدثت اليوم مع الآنسة ريم بشأن تعليمها و سفرك •• عقدت الدهشة لسان الأب و هم بالحديث فعاجله سعيد :
لا أحب أن ألف و أدور كثيرا ، لقد وجدت الآنسة ريم بانتظاري أمام البيت في الشارع ، رجتني أن أثنيك عن عزمك على السفر و أعلنت أنها لا تريد إتمام تعليمها،
طلبت مني أن أخبرك أنني كاذب و أنني لا يمكنني إلحاقها بالجامعة لكي تتنازل عن فكرة السفر ، لذا آمل منك أن تتكرم بدعوة الآنسة ريم لنناقش الموضوع معا و بمنتهى
الصراحة لنخلص إلى رأي يرضي جميع الأطراف و يريحني من عقدة ذنب أبت كريمتكم إلا أن تحملها لي ، فهل هذا ممكن ؟ كان الأب ما زال غير مصدق لما يسمع ، غير موقن
أساسا أنه سمع هذه العبارات ، ابنته ريم تقابل هذا الرجل و تتحدث معه ، ماذا حدث ••؟! أسرع الأب فنادى زوجته و ابنته ، كان يبدو عليه الغضب ، جاءت الأم و الابنة
و في أثرهم قاسم و حتى سمر الصغرى جاءت ، قالت الأم بلهفة :
ماذا حدث يا أبا قاسم ؟ قال الأب و هو ينظر إلى ريم بغضب :
ابنتك قابلت الأستاذ و طلبت إليه أن يثنيني عن السفر •• أليس كذلك يا ابنة عمري ، أليس كذلك ؟ نهض الاستاذ سعيد بسرعة و توجه إلى الأب و هو يقول :
اهدأ يا عم جهاد ، اهدأ و أخبرني ما الذي يضايقك •• إذا كان ما يضايقك هو مقابلة الآنسة ريم لي فقد تمت في الشارع و على مرأى كل من فيه و أنت تسعى لإلحاقها
بالجامعة و هناك سوف تكلم الكثير من الرجال سواء أكانوا أساتذة أو زملاء ، ما الفرق ؟ أما إذا كان ما اغضبك هو أنها سألتني منعك من السفر فهذا لأنها خائفة من
فراقك لهم و لا تريد هذه الغربة •• جلست سميحة بجوار زوجها و ربتت عليه و هي تقول :
نعم يا أبا قاسم ، و لقد حكت لي ريم كل شيء و لم أجد غضاضة فيما فعلت ، ابنتنا مرباة و مؤدبة و نحن نثق بها أليس كذلك يا أبا ريم ؟ تطلع الأب نحو ريم و غمامة
غضب صغيرة جرداء تلوح في عيونه ، في الحقيقة كان عتابا أكثر منه غضبا ، تقدمت ريم بهدوء و نظرت إلى الأرض و هي تقول :
أنا حقا آسفة يا أبي ، كنت أريد منعك من السفر بأية طريقة ••
و لماذا لم تكلميني أنا ؟ لماذا لم تخبريني أنا ؟ ألست أباك و موطن أسرارك ، مصب أمنياتك و محقق أحلامك ؟ ألست هو يا ريم ، ما الذي تغير يا ابنة جهاد ، ما
الذي تغير ؟ جثت ريم على ركبتيها أمام أبيها و أمسكت يديه و مالت فقبلتهما و قالت :
و ستظل دوما واحتي و الوطن أيها الأب الحبيب ، ستظل دائما مرفئي و بيتي و بئري الذي منه أرتوي •• إنما هي محاولة رجوت لها النجاح •• رفع الأب رأسها و تطلع
اليها و قال وهو يكز على أسنانه :
لماذا ؟ لماذا ، آلاف غيري يسافرون ، و ربما كانت أهدافهم أقل قيمة من هدفي ، إنهم يبحثون عن بيت أوسع و أرض أكبر و تجارة لا تبور ، بينما أبحث عن وسيلة أؤمن
لكم بها العلم ، سلاحكم الوحيد في مواجهة الزمن من بعدي ، أنا لا أريد لنفسي شيئا ، لا أحلم بأكثر مما أنا فيه ، لكنني أريد الدنيا لكم ، الحياة الكريمة ••
رفعها من على الأرض و أجلسها بجواره و أكمل فيما الجميع يشاهد صامتا :
أنتم كنزي يا ابنتي و سفري ليس تضحية ، إنه رسالة تكتمل و أيام تمر بسرعة إن شاء الله و أحلام تتحقق •• شدت ريم على يد أبيها و قالت و هي تغالب دموعها :
لكنني لا أريد لغربتك أن تصبح أكبر و لا أريد لعذابك أن يطول ، لا أريد لأمنا و لنا الوحدة بدونك ، لا أريد ، بل لا أحتمل أن أصحو ، و أنت غير موجود بيننا
، أن أحتاجك فلا أجدك ، أن أمد إليك يدي فلا تحتـــويها و تحــتــويني ، يا أبي إذا سافرت يضيع الأمان ، و إذا تركتنا حتى و إن تحققت الاحلام ستكون مجروحة ،
مصبوغة بعرق الغربة و ليالي التعب و الفراق ، كيف نهنأ بها و هي من بعض دمك ، كيف ؟ تنحنح سعيد و قد غلبه التأثر فلمعت عيناه لكنه قال :
لا أملك أمام هذا الموقف إلا أن ألغي فكرة التعليم ، أنا أقول لأبيك يا ريم كما طلبت أنني كاذب ، ليس لدي أية وسيلة أساعدكم بها •• نهض الأب مسرعا ، أمسك يده
بحرارة قال:
لا •• لا يا أستاذ سعيد ، لا تتخذ هذا الموقف ، لا تبال بما سمعت ، إنهم صغار و أنا ذاهب و هم قادمون ، و عندما يكبرون على دنيا ليس فيها أبوهم و ليس لهم فيها
ميراث يستندون عليه ، لن يكونوا سعداء بهذا المــــوقف ، و لن أكــــون راضيا عن كفاح عمري •• لا يا أستاذ سعيد ، أمض في اجراءتك و سأمضي في اجراءاتي علنا في
النهاية نصل الى نقطة تتلاقى فيها الأهداف و أنطلق منها إلى تحقيقها •• و نظر إليه متوسلا ، همس و هو ما زال يضغط على يده :
أرجوك •• ران صمت طويل على الجميع ، نظر سعيد إلى ريم مطولا ، كانت تنظر في الأرض تحرك قدمها فوق أشكال البساط الهندسية ، يدها منعقدة خلف ظهرها و في ملامحها
تجمع ألم الدنيا ، منظر أعاد إليه الرغبة ذاتها في أن يعتصرها و يهدهد قلبها و يطمئنها على غد تخافه و مجهول تشعر أنه يتربص بها •• لا يدري لماذا شعر أن إحساسا
بالمسئولية يترسخ في ذاته تجاه هذه الأسرة ، لم تعد ريم فريسة يريد اقتناصها و لكن ضعيفة يريد حمايتها ، حزينة يريد إسعادها ، وحيدة يريد أن يملأ عليها أيامها
، نظر إليها طويلا يطبع ملامحها في وجدانه ، يكرس مشاعره نحوها ، يجمعها من شتاتها البعيد ليصبها في مجرى أيامها و عندما طال الصمت تنهد و قال :
و الآن ماذا قررتم ؟
رفعت ريم وجهها إلى أبيها و رفع الأب وجهه إليها ، كانت الرغبات المتعارضة لأول مرة تتضافر تشكل لحمة ، وشيجة ، تؤصلها أكثر ، تغرسها في أرض لا يراها إلا هما
و لا يحسها إلا أب قرر التضحية حتى آخر نفس و ابنة ترفض هذا العذاب •• و صمتا كلاهما فتكلمت الأم :
على بركة الله يا أستاذ سعيد ، جهاد زوجي و أعرفه إذا قرر أمرا •• مخ فلسطيني عنيد •• و ليكن دعاؤنا أن يقصر الله ليالي غربتنا و يحقق أهدافنا بها •• نهض الأب
مبتسما و أمسك يدي زوجته و قال :
بارك الله فيك يا أم العيال ، و صبرك على المـــخ الفلسطيني العنيد ، يا رفيقة الكفاح و العمر الذي مضى و العمر القادم ، إنني أعتمد عليك بعد الله كثيرا ••
انسحب الجميع من الغرفة بهدوء و ظل الأب جالسا على طرف الأريكة و سعيد واقفا ينظر إليه و سمعه يقول : كم أخاف عليكم يا أحبائي •• ما أقسى أيامي بدونكم ••
مال عليه الأستاذ سعيد و ربت على كتفه و قال بصدق :
هم أهلي منذ الآن يا عم جهاد و لن يصيبهم مكروه طالما في صدري نفس يتردد ، فلا تقلق ••