فقال و هو يغادر الغرفة :
الأصول تقتضي أن يحضر أهلك طعام للعروسين معهم عندما يأتون مهنئين ، آمل ألا ينسوا ذلك ••بدلت ريم ثيابها ، و ارتدت ثوبا مغربيا مطرزا و مشطت شعرها و أعادت
ترتيب زينتها ، فبدا وجهها مشرقا ، و خرجت مبتسمة تبحث عن سهيل ، وجدته في الصالة يطالع التلفاز فقالت على الفور :
ماذا تشاهد ؟ فقال و هو يركز انتباهه على الشاشة :
أنه فيلم مصري قديم ، شاهدته أكثر من مائة مرة ، أحب مشاهدته كثيرا ••
وقفت أمام الشاشة و قالت بدلال :
الن تخبرني عن رأيك في ثوبي و زينتي أولا ؟ فقال و هو يثني رقبته ليشاهد الفيلم من الزاوية ••:
لقد اشتريناه سويا ، و هو جميل بلا شك ، ابتعدي فالفقرة القادمة هي أجمل الفقرات •• ابتعدت ريم عن التلفاز متنهدة و اتجهت للمطبخ ، كانت بقايا طعام العشاء
في المجلى داخل الأواني ، راعها منظر المجلى و هو مزدحم بالأواني ، فشمرت أكمامها و شرعت في تنظيف الأواني ، عندما دق جرس الباب دقات متتابعة تنبىء عن مقدم
المهنئين ، أسرعت فغسلت يدها و توجهت لحجرتها بعد أن أغلقت في طريقها التلفاز و جهاز الفيديو و هي تقول :
أكمله بعد أن ينصرفوا ، و أذهب لاستقبالهم ، علي أن أهتم بزينتي •• نهض على مضض و هو يتمتم :
لا أحب أسلوب الأوامر •• فتح الباب و رحب بأسرة ريم ترحيبا لائقا ، كان الأب و قاسم يحملان أكياسا ، و تحمل الأم طعاما و تحمل سمر كيسا آخر ، انطلقت زغرودة
الأم بمجرد دخولها و هتف الأب مهنئا و وضع الجميع ما يحمله و ركضت سمر بإتجاه غرفة النوم، فاستوقفها سهيل بحزم صائحا :
إلى أين تذهبين ؟ فوقفت مرتبكة و هي تشير على غرفة ريم فقال سهيل بسرعة بصوت حاول أن يكسبه بعض الليونة :
ستأتي بعد قليل •• نادت الأم سمر و أاجلستها بجوارها و هي تؤنبها على سلوكها ، و خرجت ريم بسرعة مبتسمة و أقبلت تقبل الجميع و تتقبل تهنئتهم و لم ينس الأب
أن يمنحها مبلغا من المال في يدها و هو يقبلها ، و جلست ريم بجوار زوجها ، فتمتمت الأم بدعوات لحمايتها و قال قاسم و هو يبتسم :
ما شاء الله يا ريم ، لقد تضاعف جمالك ، يبدو أنني سأفكر جديا في الزواجفقال الأب :
أمنية حياتي أن أراكم جميعا في بيوتكم و أحمل أطفالكم •• و غمزت الأم لريم ثم قالت :
لم أصلي المغرب ، هلا جئت لتعرفيني مكان القبلة يا ريم •• نهضت ريم و قد فهمت مرمى أمها ، و لم تدر وجهها إلى زوجها رغم يقينها أنه كان ينظر إليها و في عيونه
رسالة ما •• و في غرفة النوم ، قبلت الأم ابنتها مجددا و سألتها عن أحوالها فقالت ريم :
أنا بخير يا أمي ، وسهيل رجل لا غبار عليه •• تنهدت الأم و عادت فقبلتها و هي تعيد التبريك ، و لما شرعت في الصلاة توجهت ريم إلى المطبخ لتعد شيئا للضيوف الأعزاء
•• انتهت الزيارة بسرعة عندما حسم الأب الموقف و قال للجميع :
هيا بنا ، لنترك العروسين ، الحمد لله اطمئننا عليهما •• خرج الجميع و بقيت ريم تنظر إلى الباب المغلق بعدهم ، ثم تطلعت إلى سهيل فوجدته يطالعها و في عيونه
أسئلة فقالت :
هل نأكل الآن ••؟ توجهت إلى المطبخ و حلت الأكياس و استخرجت من طيبات الطعام و الفاكهة و المكسرات الشيء الكثير ، أعدت مائدة أنيقة ، و نادت سهيل ليأكل ، فجاء
و جلس بعد أن قبل خدها و أثنى على حسن تنظيمها للمائدة ثم قال :
ريم ، لا أحب أن يدخل أحد غرفة نومنا ، و لا أحب أن تتحدثي سرا مع أمك في أي شأن يخصنا •• تنهدت ريم و كأنها كانت تتوقع ما سيقول فقالت بهدوء دون أن تنظر إليه:
هي أمي ، و من حقها أن تطمئن علي •• تطلع إليها فقالت و هي تبتسم بعد أن قرأت شك في عيونه :
اطمئن ، لقد اطمأنت تماما ••تناولا طعامهما بدون كلمة واحدة زيادة ، و بعد الإنتهاء منه ، نهضت ريم فغسلت الأطباق و وضعت البواقي في الثلاجة و وضعت إبريق
الشاي على النار ، و لما لم تسمع صوت التلفاز يفتح مجددا خرجت لترى أين سهيل ، فوجدته في غرفة النوم يطالع بكثير من الإهتمام ثوب الزفاف الأبيض المعلق في خزانة
الملابس فقالت :
ماذا تفعل ؟ فقال و هو مستغرق في التفكير :
لقد كلفنا هذا الثوب غاليا ، و ينبغي ألا نتركه على هذه الحالة من الإهمال الجسيم •• فقالت بتهكم :
هل تريد تنظيفه الآن ؟ لم يرد ، لكنه أنزله و حمله عائدا به إلى الصالة و قال :
احضري منشفة و ماء دافيء ضعي فيه قليل من صابون غســل الملابس ، سيعود جديدا بعد قليل •• قالت ريم و هي تأخذ نفسا عميقا غاضبا :
حاضر •• حاضر يا زوجي العزيز •• طيلة المساء انشغل سهيل في تنظيف الثوب ، و كان يبدو مستمتعا جدا بما يعمل ، يؤديه بهدوء و ببطء شديد و يتغزل في كل قطعة تعود
لتلمع من جديد بعد تنظبفها ، جلست ريم تراقبه بعض الوقت ، كان عقلها يعمل بسرعة ، كان يهدر غضبا ، لم يعد الأمر مجرد تعديل لأشياء لا تعجبه ، و إنما أصبح تهربا
•• عندما وصلت لهذه الحقيقة ، كان قد انتهى من تنظيف الثوب و كيه و كانت الساعة تدق الثانية عشرة تماما ، بدلت ريم ثيابها عدة مرات ، و كانت ترتدي في كل مرة
ثوب نوم بلون جديد عله ينتبه لها ، لكنه عوضا عن ذلك اتجه إلى الفيديو و سألها عن العشاء ، نهضت فأعدته له و وضعته أمامه و سألته إن كان يريد شيئافقال مستنكرا:
هل ستنامي الآن ؟ فنظرت إليه و على لسانها أجوبة كثيرة مختلفة عما نطقت بالفعل :
نعم •• فقال و هو يقضم لقمة :
اجلسي يا ريم ، تعشي معي ، و شاهدي الفيلم القادم ، إنه مسل جدا ، علام الإستعجال ، لدينا إجازة طويلةفقالت ريم بهدوء غاضب :
لكنني متعبة و أريد النومفقال بحزم :
بل اجلسي ، سبق و أن أخبــــرتك أنني لا أحـــب أن تسبقيني إلى النوم أبدا ، أجــلسي و سننام سويا بعد الفيلم •• جلست ريم على مضض ، و بدأ الفيلم ، فلم تشاهد
منه شيئا ، كانت تطالع سهيل و هو يشاهده بحرص شديد كأنه يراه للمرة الأولى و يضحك على المشاهد السخيفة و يدق يدا بيد و هو يشير إلى الشاشة صائحا :
أنظري •• أنظري •• بعد أن انتهى الفيلم ، و شرب سهيل الشاي الذي كان حريصا على تناوله بعد الطعام مباشرة ، نهضت ريم قائلة :
يمكننا النوم الآن فيما أعتقد •• نظر إليها سهيل مبتسما و قال و هو ينهض :
بالطبع يا حبيبتي •• إذا كان هذا ما تريدينه •• نهض فسبقته إلى غرفة النوم ، اتخذت مكانها و استلقت على الفراش ، بعد قلـــيل جـــاء و استلقى بدوره بجوارها
، ظلا صامتين •• و عندما لم يبـــدي حـــراكا ، اســــترخت تمــامــا و أغمضت عينيها فهمس :
هل نمت يا ريم ؟ تمتمت بالإيجاب فأدار ظهره و اتخذ وضعا جنينيا و تنهد •• رفعت رأسها و طالعت ظهره •• تنهدت و ألقت برأسها على الوسادة فهمس :
لطالما حلمت بأن يكون لي بيت لوحدي •• لم ترد و حبست أنفاسها فأكمل :
بيت كبير فيه أثاث يخصني وحدي ، و فيه زوجة جميلة تنتظرني ، فيه أطفال لي ••• أطفال بلا يتم ، و لا فقر و لا عوز •• أطفال منعمين يشربون الحليب المحلى و يأكلون
التفاح الأحمر و يلعبون بألعاب تخصهم ألعاب ألكترونية و عرائس و دببة و مكعبات •• ضحك بهدوء و لم يغير وضعه و أكمل :
عندما كنت صغيرا كنت أعوض حرماني من كل هذا بالأحلام ، كانت أحلاما جميلة يسعدني الإستغراق فيها ، لكن البرد و الجوع و النهار المذعور كانوا ينتشلوني منها
بسرعة ••كانت ريم تستمع لهمسه بإصغاء تام ، استدارت بهدوء ، و طوقته بذراعها فتناول كفها بين كفه و أكمل دون أن يدير وجهه إليها :
كنت أعيش الخوف في كل لحظة ، تجسد لي دوما كمارد عملاق صوته قصف الرصاص المتقطع و خطواته نداءات ملتاعة لأم فقدت ابنها للتو ، أتعلمين ؟ و استدار ليواجهها
و أكمل و هو يكز أسنانه و قال :
كنت أحسد ذلك الإبن الفقيد على بكاء أمه عليه •• و كنت أتساءل هل إذا مت سأجد من يبكيني •• و كانت الإجابة في عيون كل اللاهين بهمومهم عني ، كنت أعرف أنني
لو مت فلن أكون إلا رقما عشريا تافها في قوافل الأموات •• لذا •• لذا قررت ألا أموت •• نعم قررت ألا أموت يا ريم ، لن أموت إلا إذا أصبح لدي من يبكيني و يترحم
علي و يزور قبري •• أحكمت ريم احتواءه و همست بحنان :
هل يفكر في الموت من يبدأ حياته للتو يا سهيل ؟ ربت عليها و استرخى في نومه ، و لم تمض لحظة حتى سمعت ريم صوت أنفاسه المنتظمة يتردد في أذنها ، ينسل إلى تجويفها
الخالي ليعلن إنتهاء يوم آخر في حياتها الجديدة •• ولم تنم ريم هذه الليلة ، أدارت كلام سهيل في ذهنها و مررته على قلبها فاستشعرت مأساة يمر بها هذا الشاب تحول
بينه و بين المضي قدما في اتمام الزواج على الوجه المفروض ، قررت أن تكف عن التفكير في هذا الأمر حتى يأتي لوحده ، قالت و هي تحكم الدثار حوله :
قريبا جدا ستتيقن أيها الغالي من أنك وجدت أخيرا من يهمه أمرك كثيرا ••
بعد أسبوعين من الزفاف قررت ريم قطع إجازتها و العودة إلى العمل ، لم يعترض سهيل بل على العكس كان يرى أنه لابد بالفعل من العودة للعمل لكليهما و علق قائلا:
المكوث في المنزل أمر ممل للغاية ، لا أدري كيف يحتمل الناس شهور الإجازة •• و استقبلت مشاعل عودة ريم السريعة بكثير من الدهشة و لم تتقبل أي عذر قدمته لها
ريم ، و عندما شارف اليوم على الإنتهاء و استطاعت الاثنتان الجلوس بهدوء كان من الطبيعي أن تبادر مشاعل بسؤالها المتوقع :
ماذا حدث يا ريم ؟ لكن ريم التي كانت تحفظ نصيحة أبيها كحرز غير قابل للإهدار قالت بمرح مصطنع :
لا شيء يا أم الأفكار •• فقالت مشاعل بهدوء الواثق :
بل هناك شيء ، و شيء كبير أيضا ، و سؤالي هل يتعلق الأمر بسهيل ؟ هزت ريم رأسها و لم تقوى على الإستمرار في الإدعاء فصمتت تمنع رغبة قوية في الكلام ، رغبة
وصلت معها حد الحرقة •• كزت مشاعل على شفتيها و تفكرت قليلا ثم قالت برزانة غريبة عليها :
اسمعي يا ريم ، قبل أن نتزوج نكون قد رسمنا في أخيلتنا صورة حالمة ، شديدة النعومة عن حياتنا مع الزوج ، و لكن عندما نتزوج فعلا نجد أن الصورة اختــلفت قليلا
أو كثيرا عما رسمنا ، و العقدة دائما فينا ، نحن القادرات على حلها أو زيادة تعقيدها ، فإذا كنت قد جابهتي أمرا لم تتوقعيه ، ابحثي في نفسك أولا عن طريقة التكيف
معه ، لا توجد عقدة بدون حل •• فقالت ريم و كأنها تنفي تهمة :
سهيل انسان يا مشاعل •• ابتسمت مشاعل و قالت على الفور :
لم أقل عكس هذا يا ريم •• أدركت ريم أنها تسرعت بهذه العبارة فقالت باقتضاب :
لست أعاني من أي مشكلة •• تنهدت مشاعل و قالت :
إذا كان الأمر يتعلق بسهيل فأعتقد أنك يجب أن تشركي أمك في الموضوع فهي سيدة حكيمة و سيفيدك رأيها •• بسرعة قالت ريم :
لا •• لا يمكن •• لا أستطيع •• نهضت مشاعل و تناولت عباءتها و قالت :
أذن ، أنا رهن خدمتك ، و أعتقد أن مجرد الحديث عن المشكلة كفيل بايجاد حل لها •• ألن تستعدي ، أزف ميعاد الإنصراف •• هزت ريم رأسها موافقة و نهضت متكاسلة ارتدت
عباءتها و أحكمت وضع غطاء رأسها بآلية فيما مشاعل تراقبها و شيء داخلها يقسم أن ريم لديها مشكلة •• *** ذاك المساء قررت ريم أن تفتح نقاشا صريحا مع زوجها ،
قررت ألا تقف مكتوفة اليدين أمام مشكلة تفرض نفسها على تفاصيل عـــلاقتها معه ، قــــدمت له كـــوب الشاي مبتسمة و قالت مداعبة :
تفضل يا وطني •• تطلع إليها سهيل و ابتسم بدوره و قال :
وطني ؟ هل هذا أسم تدليل ؟ هزت ريم رأسها و قالت بمرح :
بل هو واقع الحال يا سهيل •• أنا لم أر وطني و لم أعش فيه ، و زواجي منك كان نهاية رحلة بحث مضنية عن هذا الوطن •• في البداية بحثت عنه في دراستي و كتبي و
شهادة كبيرة أحصل عليها •• لكنني وجدت بعد رحلة دراسة مضنية أن الوطن لا يختبيء في الكتب ، و شهادتي معلقة على حائط الجاليري بلا قيمة ، حتى سطورها المتتابعة
التي تحمل اسمي و مؤهلي و تقديري لا تعنيني و كأنها لشخص آخر ، ثم اعتقدت أنني سأجد الوطن في العمل و الإنتماء له ، فأخذت أرسم و أعمل و استغرقني العمل حتى
نسيت الهدف و أفقت فجأة على أن ريم التي تعمل هناك ليست سوى عاملة ، أيا كان طبيعة عملها ، و ليس لجنسيتها علاقة بعملها و لا مكانها و مكانتها ، و تيقنت أن
ريم هذه لو كانت مصرية ، أو سعودية ، أو سودانية •• أي جنسية فلن يتغير الوضع •• و عندما ظهرت أنت في حياتي تمحور حولك انتمائي فصرت الآن أنت الوطن ، هذه حقــيقة
فلا تضحك يا سهيل ••
كان سهيل يضحكعلى هذه العبارة الأخيرة حتى أن كوب الشاي اهتز في يده فأسقط قطرات على ملابسه ، لم يشعر بحرارتها و قال :
الوطن يا ريم ليس دراسة و لا عمل و لا زوج ، الوطن أرض و حدود ، فهل ترين أنني أرضك ، حدودك ، هل أصلح لهذا الدور ؟ فقالت ريم حانقة :
بل يجب أن تكون في هذا الدور معي ، لا تسخر مني يا سهيل ، أنني صادقة جدا فيما أقول ، يعوزني دوما الإنتماء إلى شيء ما ، يعوزني الإطمئنان و الركون و إغماض
عيني بلا خوف ، يعوزني الوثوق و الحماية ، و الأمان ، هذه معاني يوفرها الوطن ، و أنا بلا وطن ، و بزواجنا صرت أنت الأمان و الحماية ، إليك أنتمي و معك أغمض
عيني و آخذ من الدنيا مواثيق الأمان •• أنت الوطن يا سهيل ، هل تفهم هذا ؟ سحب سهيل بقايا ضحكة التهكم من عينيه ، وحلت في لحظات معاني الألم فيهما ، قال بصوت
لا يشبهه :
إنسان بلا هوية ، ساقط قيد ، من فئة البدون ، لا يستحق أن يعيش ، إنسان يستجدي علمه ، يستجدي عمله ، يستجدي وجوده ، أكرم له ألا يعيش •• هل تفهمين يا ريم ،
أكرم له ألا يعيش •• لم تفهم ريم ، ظلام لف عقلها في لحظات فاستحالت معه كلمات سهيل طلاسم ، أمل كان هنالك يرعى في نفسها مطمئنا انكمش فجأة و تجمد على ابتسامة
جهل بلهاء طافت على شفتيها ثوان ثم انطفأت و صاح داخلها الألم سؤالا لم تستطع أن تكتمه :
لماذا تزوجتني يا سهيل ، أنت انسان يقتات الضياع ، فلماذا ربطت في عنقك إنسانا يعيش على الأمل ، لماذا تزوجتني يا سهيل ، إذا كنــت ترى الحياة ظـــلاما ، و
النـــاس شـــرا و الأسرة وهما ••؟
أمسكها بسرعة من كتفيها و صاح بعنف :
لأنني أردت الخروج من كل هذا ، لأنني أردت أن أحطم شرنقة تعاسة تعشعش في كياني منذ طفولتي ، تسرق مني متع الحياة ، فرحة النجاح ، ابتسامة التفاؤل •• لأنني
رأيتك إنسانا يحاول أن يطفو برأسه من مستنقع الضياع و يتنفس الأمل ، رأيتك منذ حدثني عنك تامر في خطابه فتاة ترفض الرضوخ لواقع الغربة الأبدي و تمد يدها نحو
الضوء رغم عجزها و قلة حيلتها •• فعلت بخطابات التواصل مع الغائبين مالم نستطع أن نفعله و الغربة تمتص دماءنا و الصبر يلعق جروحنا و المرارة تغلف أيامنا ••
صاحت ريم و هي تحاول التفلت من يده :
إنك تؤلمني يا سهيل •• أفلتها و أكمل و زبد أبيض يحيط شفتيه و تهدج خفيف يغلف صوته :
كنت ساخطا ، لا تفارق عبارات اللعن لساني ، أمارس عملي كما كان العبيد يمارسون أعمالهم تحت نير التعذيب و فرقعة السوط ، الفرق الوحيد أن المعذب كان من هنا
•• دق صدره بقوة ••
من داخلي ، كنت أستيقظ في الصباح و أذهب إلى العمل و أظل أعمل الساعات الطوال ، لا أبالي بشمس يسقط تحتها المترفون ، كنت أحاول حين أواصل ضرب المطارق أن أطمس
على صوت اتهامات الآخرين للفلسطنيين و حطهم من قدرهم ، كنت أحاول أن أدفع بقسوتي على ذاتي اتهاما لم يواجهني به أحد ، لكنني كنت أراه في العيون ، أقرأه في
الصحف ، ألمسه في المعاملة •• تعرفين كيف ينظر العالم إلينا ، تعرفين أو لا تعرفين أن السارق في أي مكان فلسطيني ، و الإرهابي فلسطيني ، حين نمر على الحدود
يفتشون تحت الجلد منا ، يسألون أطراف شعورنا و زوائد أظافرنا عن شر لابد أننا نحمله ••
كنت أراهم يا ريم ، يمرون جماعات ببساطة أمام مفتشي الحدود و عندما يأتي الدور على فلسطيني يستنفرون عروقهم ، و يلمــــسون أسلحـــتهم و يقـــدمون الإهـــانات
على مرأى و مسمع كل من له وطن •• و الجميع ينظر ، بين شفقة لا نحتاجها ، أو لسان حال يصرخ في العيون إننا نستحق ••أنت جربت بعضا من بعض عذاب اللاجئين ، و
مع ذلك مازال لديك أمل ، مازلت ترين الحياة إبتسامة واسعة يمكن أن نزين بها شفـاهنا ، و قهقهة تخرج من أعماق أعماق روحنا ••لا تسألي يا ريم •• لا تسألي لماذا
تزوجتك •• لا يُسأل المجروح لماذا يبحث عن الضماد ، لا يُسأل المبطون لماذا يبحث عن الدواء ••
تريدين مني أن أكون الوطن •• وطنك يا ريم بحاجة إلى وطن •• و لم تجرب ريم أن تفتح معه نقاشا بعدها •• *** قالت الأم و هي تحتضن ابنتها بشوق :
أهلا بحبة القلب •• غريب أين سهيل ؟ لقد عودنا ألا يفارقك في أي زيارة كأنه يخشى أن نعبئك ضده إن نحن جالسناك وحدنا •• ظلت ريم صامتة تستمع إلى تعليق الأم
و لا ترد و انتبهت سميحة إلى وجوم ابنتها فسألتها بقلق عن حالها ، ترقرقت الدموع في عيون ريم و هزت رأسها و حاولت الإبتسام و قالت :
أنا بخير يا أمي •• لقد اشتقت إليكم كثيرا هذا كل ما في الأمر ••
استشعر قلب الأم بأسا ، قالت و هي تجلس ريم و تجلس أمامها :
أحلفك بالله أن تقولي ، ما بك يا حبة القلب و نور العين •• حنان أمها هو ما كان حقا ينقصها •• كلمات الدلال القديمة ، و الإهتمام الذي فقدته مذ تزوجت حرك مكامن
الخوف القديمة داخلها ، أصبحت عيونها مستعدة تماما لترجمة عذابها ، خرجت دمعة يتيمة تستطلع تبعتها دمعات صامتة ، و عندما احتضنت الأم عذابها انفجر القلب المغلق
على همومه في نشيج مرتفع هز الأم و بلل كتفها •• تركت ريم تبكي ، تركتها تقول في هذه الدموع كل شيء دون أن تنبس بحرف واحد ، و عنــدما انــتهت ريم و صامت شهقاتها
المتوالية عن الدموع تقبلت شاكـــــرة كأس العصـــير المثـــلج من ســمر و احتسته بهدوء و ابتسمت و قالت :
أنا بخير يا أمي ••