22

20 0 00

فقال و هو يغادر الغرفة :

 الأصول تقتضي أن يحضر أهلك طعام للعروسين معهم عندما يأتون مهنئين ، آمل ألا ينسوا ذلك ••بدلت ريم ثيابها ، و ارتدت ثوبا مغربيا مطرزا و مشطت شعرها و أعادت

ترتيب زينتها ، فبدا وجهها مشرقا ، و خرجت مبتسمة تبحث عن سهيل ، وجدته في الصالة يطالع التلفاز فقالت على الفور :

 ماذا تشاهد ؟ فقال و هو يركز انتباهه على الشاشة :

 

 أنه فيلم مصري قديم ، شاهدته أكثر من مائة مرة ، أحب مشاهدته كثيرا ••

وقفت أمام الشاشة و قالت بدلال :

 الن تخبرني عن رأيك في ثوبي و زينتي أولا ؟ فقال و هو يثني رقبته ليشاهد الفيلم من الزاوية ••:

 لقد اشتريناه سويا ، و هو جميل بلا شك ، ابتعدي فالفقرة القادمة هي أجمل الفقرات •• ابتعدت ريم عن التلفاز متنهدة و اتجهت للمطبخ ، كانت بقايا طعام العشاء

في المجلى داخل الأواني ، راعها منظر المجلى و هو مزدحم بالأواني ، فشمرت أكمامها و شرعت في تنظيف الأواني ، عندما دق جرس الباب دقات متتابعة تنبىء عن مقدم

المهنئين ، أسرعت فغسلت يدها و توجهت لحجرتها بعد أن أغلقت في طريقها التلفاز و جهاز الفيديو و هي تقول :

 أكمله بعد أن ينصرفوا ، و أذهب لاستقبالهم ، علي أن أهتم بزينتي •• نهض على مضض و هو يتمتم :

 لا أحب أسلوب الأوامر •• فتح الباب و رحب بأسرة ريم ترحيبا لائقا ، كان الأب و قاسم يحملان أكياسا ، و تحمل الأم طعاما و تحمل سمر كيسا آخر ، انطلقت زغرودة

الأم بمجرد دخولها و هتف الأب مهنئا و وضع الجميع ما يحمله و ركضت سمر بإتجاه غرفة النوم، فاستوقفها سهيل بحزم صائحا :

 إلى أين تذهبين ؟ فوقفت مرتبكة و هي تشير على غرفة ريم فقال سهيل بسرعة بصوت حاول أن يكسبه بعض الليونة :

 ستأتي بعد قليل •• نادت الأم سمر و أاجلستها بجوارها و هي تؤنبها على سلوكها ، و خرجت ريم بسرعة مبتسمة و أقبلت تقبل الجميع و تتقبل تهنئتهم و لم ينس الأب

أن يمنحها مبلغا من المال في يدها و هو يقبلها ، و جلست ريم بجوار زوجها ، فتمتمت الأم بدعوات لحمايتها و قال قاسم و هو يبتسم :

 ما شاء الله يا ريم ، لقد تضاعف جمالك ، يبدو أنني سأفكر جديا في الزواجفقال الأب :

 أمنية حياتي أن أراكم جميعا في بيوتكم و أحمل أطفالكم •• و غمزت الأم لريم ثم قالت :

 لم أصلي المغرب ، هلا جئت لتعرفيني مكان القبلة يا ريم •• نهضت ريم و قد فهمت مرمى أمها ، و لم تدر وجهها إلى زوجها رغم يقينها أنه كان ينظر إليها و في عيونه

رسالة ما •• و في غرفة النوم ، قبلت الأم ابنتها مجددا و سألتها عن أحوالها فقالت ريم :

 أنا بخير يا أمي ، وسهيل رجل لا غبار عليه •• تنهدت الأم و عادت فقبلتها و هي تعيد التبريك ، و لما شرعت في الصلاة توجهت ريم إلى المطبخ لتعد شيئا للضيوف الأعزاء

•• انتهت الزيارة بسرعة عندما حسم الأب الموقف و قال للجميع :

 هيا بنا ، لنترك العروسين ، الحمد لله اطمئننا عليهما •• خرج الجميع و بقيت ريم تنظر إلى الباب المغلق بعدهم ، ثم تطلعت إلى سهيل فوجدته يطالعها و في عيونه

أسئلة فقالت :

 هل نأكل الآن ••؟ توجهت إلى المطبخ و حلت الأكياس و استخرجت من طيبات الطعام و الفاكهة و المكسرات الشيء الكثير ، أعدت مائدة أنيقة ، و نادت سهيل ليأكل ، فجاء

و جلس بعد أن قبل خدها و أثنى على حسن تنظيمها للمائدة ثم قال :

 ريم ، لا أحب أن يدخل أحد غرفة نومنا ، و لا أحب أن تتحدثي سرا مع أمك في أي شأن يخصنا •• تنهدت ريم و كأنها كانت تتوقع ما سيقول فقالت بهدوء دون أن تنظر إليه:

 هي أمي ، و من حقها أن تطمئن علي •• تطلع إليها فقالت و هي تبتسم بعد أن قرأت شك في عيونه :

 اطمئن ، لقد اطمأنت تماما ••تناولا طعامهما بدون كلمة واحدة زيادة ، و بعد الإنتهاء منه ، نهضت ريم فغسلت الأطباق و وضعت البواقي في الثلاجة و وضعت إبريق

الشاي على النار ، و لما لم تسمع صوت التلفاز يفتح مجددا خرجت لترى أين سهيل ، فوجدته في غرفة النوم يطالع بكثير من الإهتمام ثوب الزفاف الأبيض المعلق في خزانة

الملابس فقالت :

 ماذا تفعل ؟ فقال و هو مستغرق في التفكير :

 لقد كلفنا هذا الثوب غاليا ، و ينبغي ألا نتركه على هذه الحالة من الإهمال الجسيم •• فقالت بتهكم :

 هل تريد تنظيفه الآن ؟ لم يرد ، لكنه أنزله و حمله عائدا به إلى الصالة و قال :

 احضري منشفة و ماء دافيء ضعي فيه قليل من صابون غســل الملابس ، سيعود جديدا بعد قليل •• قالت ريم و هي تأخذ نفسا عميقا غاضبا :

 حاضر •• حاضر يا زوجي العزيز •• طيلة المساء انشغل سهيل في تنظيف الثوب ، و كان يبدو مستمتعا جدا بما يعمل ، يؤديه بهدوء و ببطء شديد و يتغزل في كل قطعة تعود

لتلمع من جديد بعد تنظبفها ، جلست ريم تراقبه بعض الوقت ، كان عقلها يعمل بسرعة ، كان يهدر غضبا ، لم يعد الأمر مجرد تعديل لأشياء لا تعجبه ، و إنما أصبح تهربا

•• عندما وصلت لهذه الحقيقة ، كان قد انتهى من تنظيف الثوب و كيه و كانت الساعة تدق الثانية عشرة تماما ، بدلت ريم ثيابها عدة مرات ، و كانت ترتدي في كل مرة

ثوب نوم بلون جديد عله ينتبه لها ، لكنه عوضا عن ذلك اتجه إلى الفيديو و سألها عن العشاء ، نهضت فأعدته له و وضعته أمامه و سألته إن كان يريد شيئافقال مستنكرا:

 هل ستنامي الآن ؟ فنظرت إليه و على لسانها أجوبة كثيرة مختلفة عما نطقت بالفعل :

 نعم •• فقال و هو يقضم لقمة :

 اجلسي يا ريم ، تعشي معي ، و شاهدي الفيلم القادم ، إنه مسل جدا ، علام الإستعجال ، لدينا إجازة طويلةفقالت ريم بهدوء غاضب :

 لكنني متعبة و أريد النومفقال بحزم :

 بل اجلسي ، سبق و أن أخبــــرتك أنني لا أحـــب أن تسبقيني إلى النوم أبدا ، أجــلسي و سننام سويا بعد الفيلم •• جلست ريم على مضض ، و بدأ الفيلم ، فلم تشاهد

منه شيئا ، كانت تطالع سهيل و هو يشاهده بحرص شديد كأنه يراه للمرة الأولى و يضحك على المشاهد السخيفة و يدق يدا بيد و هو يشير إلى الشاشة صائحا :

 أنظري •• أنظري •• بعد أن انتهى الفيلم ، و شرب سهيل الشاي الذي كان حريصا على تناوله بعد الطعام مباشرة ، نهضت ريم قائلة :

 يمكننا النوم الآن فيما أعتقد •• نظر إليها سهيل مبتسما و قال و هو ينهض :

 بالطبع يا حبيبتي •• إذا كان هذا ما تريدينه •• نهض فسبقته إلى غرفة النوم ، اتخذت مكانها و استلقت على الفراش ، بعد قلـــيل جـــاء و استلقى بدوره بجوارها

، ظلا صامتين •• و عندما لم يبـــدي حـــراكا ، اســــترخت تمــامــا و أغمضت عينيها فهمس :

 هل نمت يا ريم ؟ تمتمت بالإيجاب فأدار ظهره و اتخذ وضعا جنينيا و تنهد •• رفعت رأسها و طالعت ظهره •• تنهدت و ألقت برأسها على الوسادة فهمس :

 لطالما حلمت بأن يكون لي بيت لوحدي •• لم ترد و حبست أنفاسها فأكمل :

 بيت كبير فيه أثاث يخصني وحدي ، و فيه زوجة جميلة تنتظرني ، فيه أطفال لي ••• أطفال بلا يتم ، و لا فقر و لا عوز •• أطفال منعمين يشربون الحليب المحلى و يأكلون

التفاح الأحمر و يلعبون بألعاب تخصهم ألعاب ألكترونية و عرائس و دببة و مكعبات •• ضحك بهدوء و لم يغير وضعه و أكمل :

 عندما كنت صغيرا كنت أعوض حرماني من كل هذا بالأحلام ، كانت أحلاما جميلة يسعدني الإستغراق فيها ، لكن البرد و الجوع و النهار المذعور كانوا ينتشلوني منها

بسرعة ••كانت ريم تستمع لهمسه بإصغاء تام ، استدارت بهدوء ، و طوقته بذراعها فتناول كفها بين كفه و أكمل دون أن يدير وجهه إليها :

 كنت أعيش الخوف في كل لحظة ، تجسد لي دوما كمارد عملاق صوته قصف الرصاص المتقطع و خطواته نداءات ملتاعة لأم فقدت ابنها للتو ، أتعلمين ؟ و استدار ليواجهها

و أكمل و هو يكز أسنانه و قال :

 كنت أحسد ذلك الإبن الفقيد على بكاء أمه عليه •• و كنت أتساءل هل إذا مت سأجد من يبكيني •• و كانت الإجابة في عيون كل اللاهين بهمومهم عني ، كنت أعرف أنني

لو مت فلن أكون إلا رقما عشريا تافها في قوافل الأموات •• لذا •• لذا قررت ألا أموت •• نعم قررت ألا أموت يا ريم ، لن أموت إلا إذا أصبح لدي من يبكيني و يترحم

علي و يزور قبري •• أحكمت ريم احتواءه و همست بحنان :

 هل يفكر في الموت من يبدأ حياته للتو يا سهيل ؟ ربت عليها و استرخى في نومه ، و لم تمض لحظة حتى سمعت ريم صوت أنفاسه المنتظمة يتردد في أذنها ، ينسل إلى تجويفها

الخالي ليعلن إنتهاء يوم آخر في حياتها الجديدة •• ولم تنم ريم هذه الليلة ، أدارت كلام سهيل في ذهنها و مررته على قلبها فاستشعرت مأساة يمر بها هذا الشاب تحول

بينه و بين المضي قدما في اتمام الزواج على الوجه المفروض ، قررت أن تكف عن التفكير في هذا الأمر حتى يأتي لوحده ، قالت و هي تحكم الدثار حوله :

 قريبا جدا ستتيقن أيها الغالي من أنك وجدت أخيرا من يهمه أمرك كثيرا ••

بعد أسبوعين من الزفاف قررت ريم قطع إجازتها و العودة إلى العمل ، لم يعترض سهيل بل على العكس كان يرى أنه لابد بالفعل من العودة للعمل لكليهما و علق قائلا:

 المكوث في المنزل أمر ممل للغاية ، لا أدري كيف يحتمل الناس شهور الإجازة •• و استقبلت مشاعل عودة ريم السريعة بكثير من الدهشة و لم تتقبل أي عذر قدمته لها

ريم ، و عندما شارف اليوم على الإنتهاء و استطاعت الاثنتان الجلوس بهدوء كان من الطبيعي أن تبادر مشاعل بسؤالها المتوقع :

 ماذا حدث يا ريم ؟ لكن ريم التي كانت تحفظ نصيحة أبيها كحرز غير قابل للإهدار قالت بمرح مصطنع :

 لا شيء يا أم الأفكار •• فقالت مشاعل بهدوء الواثق :

 بل هناك شيء ، و شيء كبير أيضا ، و سؤالي هل يتعلق الأمر بسهيل ؟ هزت ريم رأسها و لم تقوى على الإستمرار في الإدعاء فصمتت تمنع رغبة قوية في الكلام ، رغبة

وصلت معها حد الحرقة •• كزت مشاعل على شفتيها و تفكرت قليلا ثم قالت برزانة غريبة عليها :

 اسمعي يا ريم ، قبل أن نتزوج نكون قد رسمنا في أخيلتنا صورة حالمة ، شديدة النعومة عن حياتنا مع الزوج ، و لكن عندما نتزوج فعلا نجد أن الصورة اختــلفت قليلا

أو كثيرا عما رسمنا ، و العقدة دائما فينا ، نحن القادرات على حلها أو زيادة تعقيدها ، فإذا كنت قد جابهتي أمرا لم تتوقعيه ، ابحثي في نفسك أولا عن طريقة التكيف

معه ، لا توجد عقدة بدون حل •• فقالت ريم و كأنها تنفي تهمة :

 سهيل انسان يا مشاعل •• ابتسمت مشاعل و قالت على الفور :

 لم أقل عكس هذا يا ريم •• أدركت ريم أنها تسرعت بهذه العبارة فقالت باقتضاب :

 لست أعاني من أي مشكلة •• تنهدت مشاعل و قالت :

 إذا كان الأمر يتعلق بسهيل فأعتقد أنك يجب أن تشركي أمك في الموضوع فهي سيدة حكيمة و سيفيدك رأيها •• بسرعة قالت ريم :

 لا •• لا يمكن •• لا أستطيع •• نهضت مشاعل و تناولت عباءتها و قالت :

 أذن ، أنا رهن خدمتك ، و أعتقد أن مجرد الحديث عن المشكلة كفيل بايجاد حل لها •• ألن تستعدي ، أزف ميعاد الإنصراف •• هزت ريم رأسها موافقة و نهضت متكاسلة ارتدت

عباءتها و أحكمت وضع غطاء رأسها بآلية فيما مشاعل تراقبها و شيء داخلها يقسم أن ريم لديها مشكلة •• *** ذاك المساء قررت ريم أن تفتح نقاشا صريحا مع زوجها ،

قررت ألا تقف مكتوفة اليدين أمام مشكلة تفرض نفسها على تفاصيل عـــلاقتها معه ، قــــدمت له كـــوب الشاي مبتسمة و قالت مداعبة :

 تفضل يا وطني •• تطلع إليها سهيل و ابتسم بدوره و قال :

 وطني ؟ هل هذا أسم تدليل ؟ هزت ريم رأسها و قالت بمرح :

 بل هو واقع الحال يا سهيل •• أنا لم أر وطني و لم أعش فيه ، و زواجي منك كان نهاية رحلة بحث مضنية عن هذا الوطن •• في البداية بحثت عنه في دراستي و كتبي و

شهادة كبيرة أحصل عليها •• لكنني وجدت بعد رحلة دراسة مضنية أن الوطن لا يختبيء في الكتب ، و شهادتي معلقة على حائط الجاليري بلا قيمة ، حتى سطورها المتتابعة

التي تحمل اسمي و مؤهلي و تقديري لا تعنيني و كأنها لشخص آخر ، ثم اعتقدت أنني سأجد الوطن في العمل و الإنتماء له ، فأخذت أرسم و أعمل و استغرقني العمل حتى

نسيت الهدف و أفقت فجأة على أن ريم التي تعمل هناك ليست سوى عاملة ، أيا كان طبيعة عملها ، و ليس لجنسيتها علاقة بعملها و لا مكانها و مكانتها ، و تيقنت أن

ريم هذه لو كانت مصرية ، أو سعودية ، أو سودانية •• أي جنسية فلن يتغير الوضع •• و عندما ظهرت أنت في حياتي تمحور حولك انتمائي فصرت الآن أنت الوطن ، هذه حقــيقة

فلا تضحك يا سهيل ••

كان سهيل يضحكعلى هذه العبارة الأخيرة حتى أن كوب الشاي اهتز في يده فأسقط قطرات على ملابسه ، لم يشعر بحرارتها و قال :

 الوطن يا ريم ليس دراسة و لا عمل و لا زوج ، الوطن أرض و حدود ، فهل ترين أنني أرضك ، حدودك ، هل أصلح لهذا الدور ؟ فقالت ريم حانقة :

 

 بل يجب أن تكون في هذا الدور معي ، لا تسخر مني يا سهيل ، أنني صادقة جدا فيما أقول ، يعوزني دوما الإنتماء إلى شيء ما ، يعوزني الإطمئنان و الركون و إغماض

عيني بلا خوف ، يعوزني الوثوق و الحماية ، و الأمان ، هذه معاني يوفرها الوطن ، و أنا بلا وطن ، و بزواجنا صرت أنت الأمان و الحماية ، إليك أنتمي و معك أغمض

عيني و آخذ من الدنيا مواثيق الأمان •• أنت الوطن يا سهيل ، هل تفهم هذا ؟ سحب سهيل بقايا ضحكة التهكم من عينيه ، وحلت في لحظات معاني الألم فيهما ، قال بصوت

لا يشبهه :

 إنسان بلا هوية ، ساقط قيد ، من فئة البدون ، لا يستحق أن يعيش ، إنسان يستجدي علمه ، يستجدي عمله ، يستجدي وجوده ، أكرم له ألا يعيش •• هل تفهمين يا ريم ،

أكرم له ألا يعيش •• لم تفهم ريم ، ظلام لف عقلها في لحظات فاستحالت معه كلمات سهيل طلاسم ، أمل كان هنالك يرعى في نفسها مطمئنا انكمش فجأة و تجمد على ابتسامة

جهل بلهاء طافت على شفتيها ثوان ثم انطفأت و صاح داخلها الألم سؤالا لم تستطع أن تكتمه :

 لماذا تزوجتني يا سهيل ، أنت انسان يقتات الضياع ، فلماذا ربطت في عنقك إنسانا يعيش على الأمل ، لماذا تزوجتني يا سهيل ، إذا كنــت ترى الحياة ظـــلاما ، و

النـــاس شـــرا و الأسرة وهما ••؟

أمسكها بسرعة من كتفيها و صاح بعنف :

 لأنني أردت الخروج من كل هذا ، لأنني أردت أن أحطم شرنقة تعاسة تعشعش في كياني منذ طفولتي ، تسرق مني متع الحياة ، فرحة النجاح ، ابتسامة التفاؤل •• لأنني

رأيتك إنسانا يحاول أن يطفو برأسه من مستنقع الضياع و يتنفس الأمل ، رأيتك منذ حدثني عنك تامر في خطابه فتاة ترفض الرضوخ لواقع الغربة الأبدي و تمد يدها نحو

الضوء رغم عجزها و قلة حيلتها •• فعلت بخطابات التواصل مع الغائبين مالم نستطع أن نفعله و الغربة تمتص دماءنا و الصبر يلعق جروحنا و المرارة تغلف أيامنا ••

 صاحت ريم و هي تحاول التفلت من يده :

 إنك تؤلمني يا سهيل •• أفلتها و أكمل و زبد أبيض يحيط شفتيه و تهدج خفيف يغلف صوته :

 كنت ساخطا ، لا تفارق عبارات اللعن لساني ، أمارس عملي كما كان العبيد يمارسون أعمالهم تحت نير التعذيب و فرقعة السوط ، الفرق الوحيد أن المعذب كان من هنا

•• دق صدره بقوة ••

 من داخلي ، كنت أستيقظ في الصباح و أذهب إلى العمل و أظل أعمل الساعات الطوال ، لا أبالي بشمس يسقط تحتها المترفون ، كنت أحاول حين أواصل ضرب المطارق أن أطمس

 على صوت اتهامات الآخرين للفلسطنيين و حطهم من قدرهم ، كنت أحاول أن أدفع بقسوتي على ذاتي اتهاما لم يواجهني به أحد ، لكنني كنت أراه في العيون ، أقرأه في

الصحف ، ألمسه في المعاملة •• تعرفين كيف ينظر العالم إلينا ، تعرفين أو لا تعرفين أن السارق في أي مكان فلسطيني ، و الإرهابي فلسطيني ، حين نمر على الحدود

يفتشون تحت الجلد منا ، يسألون أطراف شعورنا و زوائد أظافرنا عن شر لابد أننا نحمله ••

كنت أراهم يا ريم ، يمرون جماعات ببساطة أمام مفتشي الحدود و عندما يأتي الدور على فلسطيني يستنفرون عروقهم ، و يلمــــسون أسلحـــتهم و يقـــدمون الإهـــانات

على مرأى و مسمع كل من له وطن •• و الجميع ينظر ، بين شفقة لا نحتاجها ، أو لسان حال يصرخ في العيون إننا نستحق ••أنت جربت بعضا من بعض عذاب اللاجئين ، و

مع ذلك مازال لديك أمل ، مازلت ترين الحياة إبتسامة واسعة يمكن أن نزين بها شفـاهنا ، و قهقهة تخرج من أعماق أعماق روحنا ••لا تسألي يا ريم •• لا تسألي لماذا

تزوجتك •• لا يُسأل المجروح لماذا يبحث عن الضماد ، لا يُسأل المبطون لماذا يبحث عن الدواء ••

تريدين مني أن أكون الوطن •• وطنك يا ريم بحاجة إلى وطن •• و لم تجرب ريم أن تفتح معه نقاشا بعدها •• *** قالت الأم و هي تحتضن ابنتها بشوق :

 أهلا بحبة القلب •• غريب أين سهيل ؟ لقد عودنا ألا يفارقك في أي زيارة كأنه يخشى أن نعبئك ضده إن نحن جالسناك وحدنا •• ظلت ريم صامتة تستمع إلى تعليق الأم

و لا ترد و انتبهت سميحة إلى وجوم ابنتها فسألتها بقلق عن حالها ، ترقرقت الدموع في عيون ريم و هزت رأسها و حاولت الإبتسام و قالت :

 أنا بخير يا أمي •• لقد اشتقت إليكم كثيرا هذا كل ما في الأمر ••

استشعر قلب الأم بأسا ، قالت و هي تجلس ريم و تجلس أمامها :

 أحلفك بالله أن تقولي ، ما بك يا حبة القلب و نور العين •• حنان أمها هو ما كان حقا ينقصها •• كلمات الدلال القديمة ، و الإهتمام الذي فقدته مذ تزوجت حرك مكامن

الخوف القديمة داخلها ، أصبحت عيونها مستعدة تماما لترجمة عذابها ، خرجت دمعة يتيمة تستطلع تبعتها دمعات صامتة ، و عندما احتضنت الأم عذابها انفجر القلب المغلق

على همومه في نشيج مرتفع هز الأم و بلل كتفها •• تركت ريم تبكي ، تركتها تقول في هذه الدموع كل شيء دون أن تنبس بحرف واحد ، و عنــدما انــتهت ريم و صامت شهقاتها

المتوالية عن الدموع تقبلت شاكـــــرة كأس العصـــير المثـــلج من ســمر و احتسته بهدوء و ابتسمت و قالت :

 أنا بخير يا أمي ••