استعرضت الأسماء التي مرت بها في حياتها فوجدت أن اسما منها لا يعني لقلبها شيئا ، حتى جاءت على ذكر سهيل ، ابتسمت و أرخت عضلاتها
تماما و استلقت على الفراش ، و أخذت تسترجع تفاصيل علاقته بهم منذ عام ، لقد لاحظت ــ و تعتقد ان الجميع لاحظ معها ــ اهتمام سهيل بها ، نظراته ، كلماته ، تلميحاته
، لكنها لم تعطه الفرصة أبدا أن يحدثها بشكل خاص في أي موضوع ، كان يزورهم مرة كل أسبوع ، يسهر حتى وقت متأخر يتعشى معهم ، و يحرص في كل زيارة على هدية بسيطة
لريم أو لأمها أو لأختها و عندما عاد قاسم في الإجازة أحضرله سهيل هدية ، تندرت الأسرة على هداياه فأصابه الخجل و تطلــــع إلى ريم لتنــقذه فقالت و هي تبتسم
له :
يا سهيل نحن نعتز بك لأنك من العائلة و ليس بسبب هداياك •• و قالت الأم :
وفر قرشك يا بنيالقرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود •• و تقلبت ريم على فراشها بمرح و تذكرت عندما همت ذات يوم برفع الأطباق بعد العشاء من أمامه فهمس في أذنها
بسرعة :" أريد أن أتحدث معك " رفعت الأطباق و نظرت إليه بركن عينها و تصرفت كأنها لم تسمعه ، و راقبت تحرقه لردة فعلها و هي تمعن في لامبالاتها و تخاله شك في
أنها سمعته !! و نهضت من فراشها و توجهت للمرآة فوقفت أمامها تطالع نفسها و تتذكر التعليقات المتباعدة التي كان سهيل يضمنها أحيانا كلامه و يتعمد أن تظهر و
كأنها غير متعمدة ، لقد أشار يوما إلى دقة اصابعها و جمال منظرها في معرض حديثه عن تأثير الحياة الخشنة على أيدي النساء في فلسطين ، و أشار يوما إلىروعة قوامها
عندما ألحت عليها الأم في تناول المزيد من الحلوى بعد يوم عمل شاق و رفضت من أجل المحافظة على الرشاقة ،و عندما أراد أن يتحدث عن عيونها أدار بنفسه دفة الحديث
ليتجه نحو ما يريد ، فأسهب في شرح لغة العيون و تراوحها بين القوة و الضعف ،و لاحظت ريم اندفاع الأم للتدليل بعيون ريم على ما يقول قائلة :
صدقت ، مثلا ريم استطيع بسهولة أن أعرف مشاعرها و ما تريد قوله بمجرد النظر في عيونها ، إن لغة عينيها قوية جدا •• صاحت ريم في نفسها :" احذري يا أمي ستقعين
في الشراك !!"لكن الأم كانت قد وقعت بالفعل إذ رد سهيل سريعا على عبارتها قائلا:
قوية و جميلة أيضا ••!! و توجهت ريم إلى حامل لوحاتها و خطت بعض خطوط تشكل قلوب و أسهم و الحروف الانجليزية الأولى من اسمها و اسمه ثم ضحكت ضحـــكة حــــبور
صـــافية و صفقت بيدها و خرجت من غرفتها إلى أمها ، كانتا وحديهما قالت :
أمي •• ما رأيك بسهيل ؟ فوجئت الأم بالسؤال و قالت بسرعة :
و ما لنا به ؟ فقالت ريم بمرح :
لا شيء •• لكن بعد عام من تعرفنا عليه ، يجب أن يكون لدى كل منا انطباعا ما عنه •• فقالت الأم مبتسمة :
ماهو انطباعك أنت يا ابنة جهاد ؟ فقالت ريم :
لا أدري ، لكنني أحب مجيئه إلينا ، و أحب أن أجلس إليه و أتحدث معه ، أحب مراقبة محاولاته لإبلاغي دوما برسالة ما •• أشعر أنه قدم روحا جديدة لحياتي •• و أحب
ذلك •• تركت الأم ما في يدها و علا ملامحها القلق و قالت بجدية :
تحبين ؟ ألا تعتقدين معي أن سهيل غير مناسب ؟ قالت ريم بمكر :
غير مناسب لأي شيء يا أمي ؟ فقالت الأم بجدية كبيرة :
غير مناسب للزواج يا ابنة جهاد •• فقالت ريم باهتمام :
صحيح أنه لم يطلــبني ، و لا تحــدث معي بهـــذا الخصوص و لكــــن بوجه عــام ما المانع يا أمي ؟ تنهدت الأم و جلست و هي تقول :
المانع يا حبيبتي هو في القهر الذي لاقيت أنت و إخوتك بسبب الجنسية ، تريدين الزواج من فلسطيني لكي تكرري المأساة مع أبنائك أيضا ؟ وجمت ريم ، انسحب بقوة كل
المرح داخلها ، لوهلة شعرت بغصة كبيرة تتجمع في حلقها ، غصة بحجم المعاناة القديمة ، تذكرت بسرعة و غامت عينيها بضبابات الذكرى ، هزت رأسها و قالت بهدوء :
إذا تعاملنا بهذا المنطق لن يتذكر فلسطين بعد عقد من الزمن أحد من خارجها ، سينتهي من يحبها و تضيع من القلوب •• أشاحت الأم بيديها و قالت :
لن تتأثر فلسطين بواحدة ، و أن تضيع البلد من قلبك خيرا من أن يضيع منك أبنائك ، الحالة تزداد سوءا و العاقل من يضع الغد نصب عينيه ••
لم تكمل ريم النقاش مع أمها ، انسحبت فورا متجهة إلى غرفتها ، لقد صدمها المنطق الذي تتحدث به أمها ، لم تنتبه أبدا إلى أن مساويء اللجوء سوف تنسحب يوما حتى
على المشاعر ، قانون الحرمان يسري عليها بدورها ، كورت قبضـــتها و دقــــت بها الجدار و قالت بغيظ مكتوم :
أن يقفواأمام تعليمنا ، ممكن ، أن يقفواأمام عملنا ، ممكن ، أن يصادروا حرية أن نتحرك و نتنقل ، ممكن ، لكن أن يحكموا سيطرتهم حتى على مشاعرنا و قلوبنا
فهذا ما لن أسمح به أبدا •• تركت الجدار ، توجهت للنافذة ، فتحتها ، لم يسبق أن أطلت منها ، لكنها تطلعت للسماء و قالت :
لن أسمح باعتقال وجداني ، ووضع الحظر على أحاسيسي ، و مصادرة رغباتي ، لن أعطيهم الفرصة لهذا•• و تطلعت إلى لوحتها و قالت بتصميم :" و إذا أردتني يا سهيل
فإنني أيضا أريدك " •• *** و كأنها كانت على موعد مع سهيل ، أو كأنها رتبت لما سيحدث في أول زيارة قادمة ، فاجأهم سهيل فجأة بطلب الزواج من ريم ، وجمت الأم
، و نفـــث الأب دخـــان سجــــائره ، و تركوا الصمت يصول بينهم ثم بعد هنيهة عاد سهيل يقول بهدوء:
أكرر يا عمي ، أنا أطلب منك يد ابنتك ريم ••ماذا قلت ؟ قال الأب بعد قليل بصوت بلا تعبير:
فاجأني طلبك يا ولدي •• و صمت الأب •• كانت العبارة ناقصة ، انتظر سهيل أن يكملها لكنه التزم الصمت ، بعد قليل شعر سهيل أن وجوده بلا معنى ، كان ينتظر ريم
، و لكن بطلبه هذا اختصر مدة بقائه لهذا اليوم هنا ، و كان لابد أن ينصرف ، و عندما أستأذن بالانصراف لم يجد من يستمهله ، و خرج من الباب الخارجي يهدر الغضب
في رأسه بسبب الوجوم الذي قوبل به طلبه ، أعماه الغضب فقرر أمرا ••كانت الساعة تقترب من التاسعة ، بقيت ساعة تقريبا على عودة ريم •• بدلا من نزول السلم إلى
الشارع ، صعد السلم إلى السطح ، تجول فيه بلا حذاء ، و أطل من خلاله على الشارع تحت البيت ، أنعشه الهواء الليلي فاستنشقه بقوة ، أخذ يراقب الطريق بانتظار عودتها
، دار في رأسه حوارا سيجريه معها ، ثم عدله و عاد فعدله ، و عندما أستقر على العبارات النهائية لمحها تدخـــل من بوابة العمارة ، أســــرع بخفـــة يقف على رأس
السلم و عندما ظهرت أخيرا ناداها بصوت خافت راعها :
ريم •• ريمألتفتت للصوت ، و عندما وجدته تنفست الصعداء و قالت بصوت عادي:
سهيل ؟ أخفتني ، ماذا تصنع هنا ، لماذا تركت البيت ؟ وضع اصبعه على فمه و عاد يقول بصوت خافت :
أخفضي صوتك ، لقـــد كنت في البيــت و خرجت قبل دقائق ، أريد أن أحدثك على إنفراد •• أندهشت ريم لطلبه •• و أدارته في رأسها ، أدركت أن الموضوع متعلق بها ،
عرفت ماهيته المتوقعة ، و بقي السؤال :" هل تستجيب ، أم ترفض الدعوة الغريبة ؟" لم يستغرق التفكير لحظات ، و رغم أن شيئا داخلها كان يرفض هذا السلوك إلا أنها
وضعت المفتاح في حقيبتها و أخذت نفسا عميقا تشد به من أزر نفسها و توجهت إليه ، لفه إطمئنان و ثقة ، صعد أمامها فتبعته ، تزايدت نبضات قلبها مع كل درجة و غلبها
إحساس بالمغامرة تعمق بمجرد أن لفح الهواء البارد وجهها الملتهب حماسا ، عندما وصلا إلى السطح ألتفت إليها و ظل لحظة صامتا يراقبها ، ثم أفتـــر ثــغره عن ابتسامة
ساحرة و قال بصوت هاديء :
هل سبق أن أخبرك أحدهم أنك جميلة جدا •• نكست رأسها خجلا فقال :
ريم ، أنا أحبك •• رفعت رأسها بسرعة و نظرت إليه بدهشة و تراقصت الأضواء البعيدة في عيونها فأمسك بكتفيها و قال بحرارة :
ريم •• أنا أحبك •• أبتعدت عنه بسرعة و همست مستنكرة :
سهيل !!ماذا تقول ؟ التقط أنفاسه بعمق بعد أن أدرك أنه خرج عما رتب قبل قليل ، و قال و هو يستند إلى الجدار :
ريم لقد طلبتك قبل قليل من والدك للزواج ••انتظر أن يرى رد فعلها ، لاحظ رغم صمتهالمعة قبول ظهرت في عيونها فأكملمرتاحا :
في الحقيقة ، لم أجد لديهم قبولا مباشرا كما توقعت ، ووالدك قــال أنه فوجيء بالطلب و لم يحدد لي وقتا ليرد علي ، و الآن ما يهمني هو أن أعرف رأيك ، أريد أن
أسمعه قبل أن أنصرف لأنني سأنتظر أسبوعا قبل موعد الزيارة القادمة لأعرف النتيجة •• دار عقل ريم بسرعة ، عرفت ما دار في عقل أبيها و أمها حيال طلبه ، توقعت
كل ما ستواجه عندما تعود ، نظرت إلى وجه سهيل ، كان ينتظر ردها •• كان لــديها إجابة سبق و أن قررتها ، و لكنها تذكرت أن سهيلا فلسطيني و لن يغفر لها ردا مباشرا
، و قررت أنه لابد من اللعبة القديمة بين حواء و آدم ، فارخت عينيها و همست :
لا فائدة يا سهيل ، انتظر الرد الأسبوع المقبل ، لابد من الحديث مع ولي أمري •• تجعدت الثنيات فوق أنفه و قال و هو يكبت غضبا :
مبدئيا يا ريم ، هل أنت موافقة ؟ ابتسمت إليه و اتجهت نحو السلم و هي تقول :
الأسبوع المقبل يا سهيل •• أخذت الدرجات قفزا و فتحت الباب بسرعة و دخلت ، أكتنفها دفء البيت ، و كان أبوها و أمها مازالا يناقشان الأمر في الصالون ، دخلت
إليهما ، ألقت التحية ، و اتخذت لنفسها مكانا على مقعد بين أبيها و أمها ، قالت الأم:
خرج سهيل باكرا اليوم •• هزت رأسها إيجابا فقال الأب :
طلبك للزواج •• قضمت شفتها العليا بأسنانها و انتظرت تعليقاتهم ، فقالت الام :
ما رأيك يا ريم ؟ حررت شفتها و قالت باقتضاب :
أسمع رأيكما أولا •• فقالت الأم على عجل :
تعرفين رأيي يا ريم •• و قال الأب و هو يتنهد :
سهيل مهندس شاب ، لم يسبق له الزواج و هو من أقربائي و أعتقد أنه من حيث المبدأ لا غبار عليه ، اللهم •• تطلعت ريم باهتمام لأبيها و لما طال صمته استحثته قائلة:
أبي••"اللهم " ماذا ؟ فقال الأب :
اسمعي يا ريم ، لقد تربى سهيل في المخيم •• لم تفهم ريم مقصد أبيها فرسمت السؤال في عيونها و انتظرت الإجابة ، فقال الأب بعد لحظة تفكير :
أبناء المخيمات لهم طبيعة مختلفة ، النشأة في جو غير نظيف ، و وسط يوميات رعب و صراع من أجل الطعام و الحياة ، تجعل نظرتهم للحياة مختلفة عن الآخرين الذين
تعرفينهم•• لا أعرف ماذا أقول ، و لكن أبناء المخيمات لا تستطيع من تربت مثلك احتمالهم •• أخذت ريم نفسا عميقا و قالت بتصميم :
و نحن بدورنا أبناء لجوء •• جميع الفلسطنيين كانت نشأتهم غريبة ، لا علاقة لنظريات التربية الحديثة بهم ، و مع ذلك يحسب له كما يحسب لي أنه استطاع رغم ظروف
المخيم النجاح و التفوق و الإستمرار و العمل •• يحسب له أنه اعتمد منذ نعومة أظفاره على نفسه و بنى حياته بساعده ، و أثبت في كل الظروف أنه رجل ، أنه بطل ،
أنه رمز جميل للوطن •• قالت الأم مغتاظة :
الوطن ، الوطن ، كل ما تتحدثين عنه هو الوطن ، أنا لست ضد أن تحبي بلادك ، و لست ضد انتمائك إليها فقد كنت أساعد أبيك في ترسيخ محبتها في نفوسكم منذ الصغر
، لكنني ضد أن تقدمي روحك قربانا لهذا الوطن ، و ليت ما ستفعلينه سيكون له قيمة للوطن ، لن يجلي زواجك من فلسطيني يهوديا واحد اعن بلادك ، و لن يدفع هذا الزواج
العالم لكي ينصفوكم ، ستتزوجي و تنجبي و يعيش أبناؤك الضياع المركب •• قالت ريم :
و لكن يا أمي ، زواجي من سهيل ، من فلسطيني يعني أنني ســأظل أنتمي لهذا الوطن و ينتمي إليه أبنائي بدورهم ، و هذا ما بوسعي أن أقدمه ، لا أملك إلا هذا ، و
لا أريد البخل بما أملك لمجرد أنني تعذبت بجنسيتي في الغربة ، ربما كان المستقبل أفضل ، ربما استطاع أولادي أن يعيشوا حياة كريمة ، و يدخلوا بلادهم و يبنوا
فيها ••غلب الصمت المكان ، و نفس الأب دخانه و قد اعتزم أمرافي الليل و عندما نامت سميحة غادر جهاد غرفته بهدوء و توجه إلى غرفة ابنته ، طرق الباب و حمد
الله أنها مازالت مستيقظة ، دخل و سألها عن سبب سهرها فأخبرته أنه التفكير فقال لها و نفسه تنازعه :
ما سأقوله لك يا ريم هو خلاصة هذا الموضوع ، اسمعيني و لا تردي ، اسمعي و فكري ، خذي وقتك في التفكير ، يوم ، أسبوع ، عشرة ، فكري بمنتهى العقل •• و تنهد و
هو يتخذ لنفسه مكانا بجوارها على السرير و دون أن ينظر لها استطرد :
لم أستطع قول كل ما أريده بحضور أمك ، كان صعبا علي الإعتراف بأي شيء يمسنا كفلسطنيين أمام أمك ، رغم أنها عشرة عمري و رفيقة كفاحي ، لكن هناك أمور يصعب على
المرء أحيانا أن يعترف بها حتى لأقرب الناس إليه •• وجمت ريم و خفق قلبها بشدة و غالبت غصة ألم و هي تقول لأبيها :
ماذا هناك يا أبي ؟ فقال الأب و هو يعاني صراعا بين أن يقول ، أو يصمت ، لكنه في النهاية قال :
ريم ، الشعب الفلسطيني شعب عانى الأمرين ، ذاق المر و العذاب صنوفا ، مورس ضده الإذلال ، و صدم مرات كثيرة في الشعوب العربية ، عانينا طوال وجودنا في أرضنا
من ذل احتلال كان يتحول إلى مارد يوما بعد يوم فيطبق على أرواحنا و يسد منافذ الهواء عن صدورنا ، عانينا حتى النخاع من رعب سكن أخيلتنا منذ استخدم الإسرائليون
اسلوب المذابح الجماعية لترويع الأحياء بأشلاء الأموات الممزقة ، تركت أهلي منذ أكثر من خمس و عشرين عاما بوجدان مذعور محطم ، و نفس ذليلة ، ربما ساعدتني الغربة
قليلا على نسيان مرارة سطوة الإحتلال الملموسة ، لكنها أبدا لم تمحو مرارة سطوته في ذاكرتي ووجداني و سمعي و عقلي و تفكيري ، أنت و إخوتك ولدتم في الخارج فلم
يداخلكم من الإحتلال أثر مادي ، و لكنكم بدوركم عــــانيتم و مازلتم ستعــــانون لأنكم بلا وطـــن ، و سيظل تاريخ اللاجئين الفلسطنيين عارا في جبين الأمة العربية
حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ، أما أولئك الذين بقــــوا في فـــلسطين فقد شربوا الــــذل و الرعب مع المـــاء و تنفسوه مع الهواء ، أصبح مرأى الأشلاء الممزقة
عادة يومية ، و أصبح اليتم تعويذة يعلقونها على صدور المواليد ليظل ملمسها يحرق أرواحهم و يطالبهم دوما بثأر لا ينتهي ، و أصبحت الطفولة هناك مرحلة عمريةيضطر
أبناء فلسطين أن يمروا بها رغما عنهم ، لكنهم لا يشعرون بها و لا تعني أبدا لهم لعبة ، أو دلال ، أو هدهدة أو مدارة أو مجاراة ••كان الكلام مؤلما ، لكنه لم
يكن ليدعو الأب إلى هذه السرية التي أحاطه بها منذ البداية مما دفع ريم أن تقاطعه قائلة :
أبي و ما علاقة كل ماذكرت بموضوع سهيل ؟ أنا لا أفهماستدار الأب إلى ريم حتى أصبح في مواجهتها و قال بقوة :
سهيل من أبناء الوطن الذين لم يعرفوا غير اليتم و الذل و الجوع ، لم يعرفوا غير قسوة الإحتلال و الناس ، سهيل لم يعش طفولة ، و لم يعرف حنان ، لذا فهو من داخله
، من أعماقه غير قادر على منحك ما تريدين ، لن يتفهم حاجتك للحب و الحنان ، سيكون حسك المرهف دوما مدعاة لسخريته ، حساسيتك تجاه الكلمات القاسية لن تعني له
إلا تربية مدللة و فتاة بلا هموم ، و أنا أخاف عليك ، أنت جني عمري يا ريم ، و أنا أخاف عليك يا ابنتي •• علا الوجيب في صدر ريم ، تسارعت دقات قلبها و استشعرت
الخطر همست :
إلى هذا الحد ؟ ربت الاب عليها مطمئنا و قال :
أنا هنا لأحميك حتى من نفسك ، فكري يا ريم جيدا ، فكري في كل ما قلته لك ، و ما تقررينه سأوافق عليه ، شرط أن تستوعبي أن القرار قرارك و أنا أو أمك لم يكن
لنا يد فيما تتجهين إليه •• نهض الأب متثاقلا و اتجه إلى الباب ، أغلق المصباح و قال :
نامي يا ريم ، لقد تأخر الوقتكثيرا •• و لم تتمكن ريم من النوم •• لقد كان يوما طويلا ، أحداثه كثيرة و الآراء المتناقضة فيه كفيلة بتشويش أكبر عقل ، و لذا
فلم يكن مستغربا أبدا أن يطلع الصباح على ريم و هي تتقلب في فراشها و تقلب الأمر من كافة وجوهه و تناقش جميع المواقف و الآراء التي سمعتها قبل أن تخرج بقرار
•• ***مشاعل زميلة لريمتساعدها في أعمال المحل ، جاءت بعد أن استقرت أحواله و ازدهرت أعماله ، و كان لابد من مساعدة لريم ، و كانت مشاعل ، شابة سعودية حنطية
، حادة الملامح ، تتميز بخفة دم و طيبة قلب و دماثة خلق ، ربطت بينها و بين ريم علاقة قوية منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها المحل ، مشاعل كانت متزوجة و لديها
ولد و بنت صغار كانت تأتي بهما إلى السوق معها فتضعهم في مكان مخصص للأطفال و تأتي إلى الجاليري مباشرة و هي تلهث و تقول بمجرد أن ترى ريم :
السلام عليكم •• آسفة تأخرت لأن •• و تكمل ريم عنها قائلة :
لأن عائض كان يبكي و عائضة كانت جائعة ، مفهوم يا مشاعل ، هيا ادخلي بسرعة فلدينا عمل كثير •• و في أوقات الفراغ عندما يخلو المحل إلا من عميلة تتأمل اللوحات
بتأني من لا تنتوي الشراء كانت ريم و مشاعل تجلسان لالتقاط الأنفاس و التحدث عن أحوالهما ، كانت مشاعل حامل و كانت دائما ما تدعو لريم بالزواج و تقول :
رغم أن الرجال لاخير فيهم ، إلا أنك يجب أن تتزوجي ، هذا الأهم يا ريم •• و كانت ريم عندما يأتي ذكر الزواج تقول و هي ساهمة :
و هل هناك بنت لا ترغب في الزواج يا مشاعل ، و لكن ليس أي رجل ، و لا أي زواج •• و تضحك مشاعل و تقول :
لا يقع إلا من يعتقد نفسه ماهرا •• أفضت ريم إلى مشاعل بكل شيء عن حياتها ، و حدثتها بإسهاب عن الأسماء التي مرت بها و الشخصيات التي تأثرت بها وكانت مشاعل
متأثرة جدا بقصة سعيد تحديدا و دائما ما كانت تتهم ريم بقسوة القلب لانها لم تعطي لهذا المحب فرصة فكانت ريم ترد عليها قائلة :
القلب و ما يهوى يا أم عائض •• و في مساء ذلك اليوم عندما جلست ريم بعد الإنتهاء من الإتفاق مع إحدى العميلات صعبة الإرضاء جاءتها مشاعل و سحبت لنفسها كرسيا
بجوارها و استرخت عليه و أغمضت عينيها و مباشرة سألت:
ما بك ؟ تطلعت إليها ريم بدهشة و شكت لوهلة أن السؤال لم يصدر عن مشاعل ، فقد كانت في حالة استرخاء كامل و عيونها مغلقة ، و ليس في هيئتها ما يوحي بأنها تتأهب
لإدارة حديث ، لم ترد فعادت مشاعل تسأل فقالت ريم باستنكار :
هل تسأليني أنا ؟ فقالت مشاعل و هي بنفس حالتها و بمنتهى الهدوء :
أجيبي يا ريم ، و كفاك تضيعا للوقت