17

21 0 00

أدارت ريم رأسها و قالت بضعف :

قلت لكم لا داعي لذهابي للجامعة مجددا ، قلت لكم أنني سأتعذب أكثر كلما ارتبطت بها أكثر ، لكنكم أبيتم إلا أن أكمل •• حتى نتيجتي لا أستطيع معرفتها •• الأبواب

كلها أغلقت ، لم تتول المنظمة الدفع و لا إدارة الوافدين خفضت و لا أبي استطاع أن يرسل لنا المبلغ و لا قريب لي يمكنه ذلك •• لماذا أرغمتموني ••؟ تطلعت إلى

سعيد و إلى أمها و أكملت بدموعها و ضعفها :

إنني مذبوحة •• صرخ قلب سعيد للحظة :" فداك روحي يا حبيبة " و قال و هو يبتسم بهدوء

لكنك ناجحة يا ريم •• و إن شاء الله ستكملين دراستك و لو كان الثمن حياتي •• تطلعت إليه ريم •• ابتسمت بهدوء و قالت الأم :

نشكرك على مشاعرك يا بني •• و أنت يا ريم ، نسيت أهم الأبواب و أنت تتحدثين عن الأبواب المغلقة ، نسيت باب الله المفتوح دائما لمن سأله •• ادعي الله و هو سيجيبك

•• تنهدت ريم و قالت بقلب مرتجف :

يا رب •• نهض سعيد واقفا و فرد ذراعيه بحركة مسرحية و قال بصوت عميق :

لقد استجاب الله دعاءك يا ريم ••راقبته الأم و ابنتها و هو يتقدم بهدوء مخرجا عدة أوراق من جيبه و قال و هو يقدمها إلى ريم :

هنا ورقة بتقديراتك في كل المواد ، كلها امتياز عدا مادتين جيد جدا ، و المادة التي حملتها للدور الثاني ، و هذه ورقة تفيد بأن المصاريف دفعت كاملة ، و هذه

ورقة قيد تثبت رسميا أنك مقيدة بالسنة الاولى بكلية الفنون الجميلة ••و لو كانت معي صورة لك لأحضرت لك بطاقة الجامعة أيضا •• فما رأيك ؟كانت ريم تستلم منه

الأوراق غير مصدقة ، و كلما تصفحت ورقة أعطتها تلقائيا لأمها ، تتصفحها و تعطها بدورها لقاسم •• تطلع الجميع إلى سعيد و في عيونهم تتزاحم الأسئلة مع الإكبار

مع المحبة مع الامتنان ،و توالت دموع ريم تترجم امتنانها و قالت بصوت مخنوق :

هذا كثير ، كثير •• و سجدت الأم لله أرضا و هي تتمتم بالحمد و الشكر لله فيما نظر قاسم إلى سعيد و قال بصدق شديد :

رجل •• و الله رجل •• عانقه و ترقرقت عيناه ••ثم توجه إلى ريم مسح دموعها وقال و هو يمسك يدها بقوة :

الحمد لله •• الحمد لله •• مبروك يا ريم •• مبروك يا أختي •• رفعت الام رأسها و قالت بدموعها الفرحة لسعيد :

و لكن من أين يا بني ؟ ابتسم سعيد و هو يشعر أنه عملاق ، يشعر بأنه حصل على مقابل ما فعل كاملا بكل هذه المشاعر التي تفيض حوله و له ••قال :

قطعة أرض منسية ورثتها عن والدي يرحمه الله لم يكن لها أية اهمية قبل أن تصبح فجأة هي الحل و المفتاح السحري لمشكلة ريم •• عادت ريم تهز رأسها غير مصدقة و

تهمس :

هذا كثير •• هذا كثير •• تطلع إليها و في عيونه حب العالم كله و قال :

لو كان المقابل سعادتك فإن أكثر الكثير قليل يا ريم •• التفت إلى الأم بسرعة قبل أن يجـــاري أمنيته و ينكـــب على الفتــــاة مقبلا ••قــال بمرح و بصوت عال:

أعتقد أن المناسبة تستحق احتفالا ، كما أنني جائع جدا ، لم أتذوق الطعام طيلة هذا اليوم فهل لديكم طعام أم أذهب للشراء ؟ دقت الأم صدرها و قالت بسرعة : يا

إلهي •• تشتري و لدينا أشهى طعام لأفضل الأبناء؟•• دقائق و أعده لكم •• حاولت ريم النهوض قائلة :

بل سأعده بنفسي يا أمي ••أوشك أن يندفع إليها ليعيدها للفراش •• لكنه لم يفعل و اكتفى بمراقبتها و هي تسير بنشاط رغم ضعفها و تقول :

لا أحد غير الأستاذ سعيد يستحق الاحتفال •• طوقه قاسم بيده و توجها نحو الصالة معا ••و في انتظار إعداد الطعام تحدثا معا عن مستقبل قاسم و فرحة ريم و أخبار

الوالد و لم يطل الأمر كثيرا إذ كان الطعام جاهزا بعد دقائق و اجتمعت الاسرة و معها سعيد يأكلون و يتحدثون و كان سعيد في كل هذا فارس الجلسة و محط إعجاب و تقدير

الجميع ، كان يشعر بسعادة فائقة و همست روحه :

ريم تستحق •• *** و كما أن المصائب لا تأتي فرادى فإن الأفراح أيضا تأتي مجتمعة إذ بعد يومين أرسل الاب خطابا كتبه على عجل يشرح فيه أنه موفق في عمله و أنه

حصل على مكافأة من شأنها أن تغطي مصاريف ريم مع ما استطاع ادخاره خلال الشهور الماضية ، و أرفق برسالته شيكا بالمبلغ باسم ريم منوها أنها لديها وثيقة رسمية

تمكنها من إثبات شخصيتها و صرف الشيك و تمنى لريم النجاح و لأولاده التوفيق ، و كانت ريم قد كتبت إليه و إلى تامر و إلى سهيل بأخبار نجاحها ، و اتفقت ريم مع

أمها أن تذهب مع سعيد إلى البنك لصرف الشيك تحديدا لكي ترد له الدين بدون إحراج ووافقتها أمها و أرسلت في طلب سعيد و طلبت منه مرافقة ريم إلى البنكفوافق بكل

سرور ، و هناك و بعد أن صرفت ريم المبلغ مدت يدها به إليه و قالت بامتنان كبير:

لو كان معي ما أعطيه لك و يستطيع حقيقة أن يعبر عن شكري لأعطيت ، لكن لا أملك غير أن أرد الدين ، تفضل •• بهت سعيد و صاح محتجا :

لا يمكن ، لم أدفعه لاسترده يا ريم ، دفعته لكي تسعدي •• قالت ريم مؤكدة :

و لقد أسعدتني فعلا •• دائما كنت قادرا على إسعادي ، خذ المبلغ فهو حقك ، لكنني لن أرد لك ما سببه موقفك لي و لأسرتي من سعادة فقد أصبحت في ذاكرتي وسما لن

يمحوه الدهر ، و لن أرد لك معه تقديري الكبير و شعوري بعظمتك و بأنك الانسان الوحيد في هذه الدنيا الذي يملك و يريد سعادتي ، أرجــــوك خذه ، فهو لا شيء قيـــاسا

على ما فعلت و ليتك تستطيع به استرداد أرضك التي بعتها من أجلي •• سأكون سعيدة لو عادت إليك •• أرجوك •• مستسلما كعادته معها مد يده ، أخذ المبلغ ، لم يكن حقا

يريده ، لكنه كان أسير رغبتها في هذه اللحظة ، لم يكن يريد أن تكثر من رجائه •• أخذ المبلغ و تعمد لمس كفـــها و هو يأخذه و همس لها :

أحبك •• أرخت عيونها أرضا و سارت بسرعة فسار حتى حاذاها و سارا معا صامتين •• إلا أن الدنيا حولهم كانت ترقص فرحا على إيقاع دقات قلب سعيد و ارتجافة قلب ريم

•• *** و جاء الفصل الدراسي الثاني ، و انتظمت ريم في دراستها واثقة في نفسها ، متذكرة ما وعدت به أباها ، ماضية في شؤون حياتها ، و توطدت علاقتها أكثر ببسام

و خالد اللذين ما انفكا يتابعانها ، و ابتعدت ما وسعها عن شلة الشــغب الجامـــعي ، ظـــلت تراسل أباها و تامر و سهيل و تقص عليهم جميعا أخبارها باستفاضة و

تتلقى أخبارهم عبر الرسائل ، و في الوقت نفسه حدث ما لم تتوقعه الأسرة عندما ضاعت إقامة الأب في مصر بسبب عدم نزوله في الوقت المناسب ، و أصبح نزوله إليها من

قبيل المستحيل ، و تلقت الأسرة هذا النبأ بمزيد من الصبر و التحدي و الإصرار على مواجهة كل ما يعترضهم ، و تقرر أن تسافر الأسرة إلى السعودية عوضا عن مجيء الأب

عندما تتيسر الأحوال •• و مضى التعليم بريم ناجحة متفــــوقة سنة بعد سنة ، و التحق قـــاسم بكلـــية الهندسة ، و تضاعفت المصاريف على الأب إلا أنه كان واعيا

لما يتحقق مدركا لأهمية مواصلة المشوار ، تسانده في ذلك زوجة اعتادت على النضال منذ رزقها الله زوجا فلسطينيا ، كما أن مكتب المنظمة قام مرة او اثنتين بدفع

المصاريف عن ريم و أخيها ، كما تولى أحد الأمراء السعوديين دفع المصاريف للطلاب الفلسطنيين في أحدى السنوات ، فجاءت مكرمته هذه في وقتها لتنقذ الكثير من الطلاب

المهددين بتوقف دراستهم لعدم دفعهم المصاريف ،و دخلت سمر المدرسة ، و أصبح ظهور سعيد في حياتهم متقطعا يأتي ليحل أزمة أو يقدم تهنئة ، أو يسأل عن الاحوال

، و في كل ذلك ملتزم تماما بما طلبته الأم منه ، حريصا على إحاطة ريم برعايته و حمايته و لو من بعيد •• و كانت الأسرة تســـافر إلى السعودية كل عـــــامين في

إجازة آخر العام ، يرى الأب أولاده و يرى الأولاد أباهــــم ثم يعودون إلى حيــــاتهم و دراستــهم على أمل الاجتمــاع مجددا بعد عامين •• من ناحية أخرى فقد

تزوج سيــــد عندما تأكـــــد تماما أن ريم لا تــــريده ، و لن تتـــزوجه ، و استمرت سوسن في الجامعة مع ريم ، إلا أن صداقتهما أصبحت أضعف مما كانت سابقا ،

و كانتا تنتقلان معا من سنة إلى أخرى ، تحافظ كلتاهمـــا على مســـتواها ، ريم متفوقة و سوسن تتراوح بين الجيد و الجيد جدا •• و في غضون ذلك لم تنس ريم هدفها

، لم تنس أنها مطالبة بالبحث عن وطنها و أنها يجب أن تجده ، و كانت سنين الدراسة قد فرضت عليها تصورا ثابتا عن الخطوة الأولى باتجاه هذا الوطن و هي أن تدرس

و تتعلم لكي تمتلك طريقة تعبر بها عن الوطن و تعبر بها إليه ، خاصة بعد أن سافرت في رحلة إلى العريش و رفح نظمتها الكلية لمدة ثلاثة أيام ، رأت فيها ريم للمرة

الأولى في حياتها أرض الوطن عبر الأسلاك الشائكة في الحدود بين البلدين ، عندما اقترب الباص من المكان رفرف قلبها في صدرها ، و قفزت منه و هو يستعد للوقوف ،

ركضت نحو السلك الشائك و أعطت لنظرها مداه علها تخترق به المسافات لتصل إلى بيت في غزة وصفه إليها أبوها ذات يوم ، لكنها عوضا عن ذلك لمست بنفسها ما تمنحه هذه

الحدود الشائكة من عذابات لأناس يعيشون على الحدود ، رأتهم بأم عينيها ، كانوا جماعات كبيرة يتمسكون بالأسلاك حتى تقطعت أيديهم و سال الدم منها و هم لا يشعرون

ينادون أحبة على الطرف الثاني و على بعد كبير وبدورهم يرد الأحبة النداء و يلوحون بأيديهم إليهم فيما يرفرف العلم الاسرائيلي على أبراج صفراء يسكن كل واحدة

منهاجندي معه بندقية مصوبة نحو المشاعر الملتاعة تحت ناظريه •• لم يكن لريم أحد هناك تلوح له بيدها لكنها قبضت السلك مدفوعة برغبة سكنتها العمر كله ، تحملت

أشواكه أو لم تشعر بها و نادت باعلى صوتها :

يا وطني ••لم يجبها أحد و ضاعت حروفها عبر المسافة الشاسعة فعادت تنادي و هي تحكم قبضتها على السلك و انهمرت دموعها عندما غص حلقها بأسماء لأهلها لا تعرفها

، بحثت بسرعة في عقلها عن اسم تناديه لكن الذاكرة صارت فجأة بيضاء فعادت تقول بصوت جريح :

يا وطني •• شدها أحد الزملاء و همس في أذنها :

ريم اهدئي ، هذا المكان ممنوع دخوله على غير المصريين ، لا تفضحينا أرجوك •• نظرت إليه و دموعها تنهمر و قالت :

إنه وطنيدفعها أمامه و هو يقول :

آمل أن تتمكني من زيارته يوماظلت ذكرى هذه اللحظة تعيش في وجـــدان ريم لم تمحـــها كل الأحــــداث الــتي مرت بها ، و كانت كلما تذكرت هذه اللحظة دق قلبها

بوجيب يشبه إحســــاسها آنذاك و تجمعت في عيونها سحابة حزن لا تمطر ، و تنهدت بحرقة******

القسم الثالث:

عندما غادرت العبارة ميناء السويس متجهة إلى ميناء جدة تحمل ريم و أسرتها ، تركت ريم قطعة من قلبها هناك ، كانت الباخرة تبتعد بهم ببطء مخلفة خيطا أبيضا طويلا

ينتهي على المرفأ حيث وقف سعيد يلوح لهم بيده ، ظلت يده مرتفعة تعلو على كل الأيادي المـــلوحة ، ظـــلت ريم تلمحـــها حتى عنـــدما اختفى المــرفأ و اختفى

الناس ، و تنهدت تاركة لدموع الوداع العنان ، و علا داخلها صوت يسأل بلوعة :

" ترى هل سأعود ؟"و لم تسمع إجابة ، لم يكن هناك ثمة من يجيب ، فالوداع في حياتها دوما كان صنو الفراق الطويل ••عندما بدأت الأسرة في حزم حقائبها بعد انتهاء

الإمتحانات النهائية لريم ، كان هناك اتفاق ضمني بينهم على أنهم لن ينتظروا الشهادة ، و ستبقى هناك رهن ظروف قد تفرج عنها أو ظروف تبقيها في طي النسيان ••

كان سعيد معهم في خطوات السفر كدأبه دائما عندما يحتاجونه ، كان ينهي الإجراءات بروح ثقيلة و عيون مغلقة ، كان إذا جاء بعد إنهاء إحداها يستقبل أسئلتهم بأوراق

يمد يده بها تنبيء عن نجاح المهمة و لا يتكلم ، و يظل يعاود السؤال الوحيد مرة بعد مرة : " هل سأراكم مجددا ؟" و تجيب الأم مرة بعد مرة : " اللقيا نصيب "فيطرق

برأسه و تسمع ريم تكسرات روحه ، و تلمح بعيون قلبها رفض ذرات كيانه لهذا الرحيل النهائي و تقرأ في عيونه الرجاء الصامت فلا تجيب و إنما تبتسم مشجعة ، و في ليلة

السفراجتمعا سويا في صالون المنزل وحـــدهما ، كـــان ثمـــة ما يشغل الأم و يشغل قاسم قبل السفر ، تطلعت إلى الحقــائب المكدسة عند باب البيت و تنهدت تقول:

 من يصدق ، ها نحن نغادر أخيرا بعد سنين الملحمة •• رنا إليها بعيون أضناها السهر و قال بصوت كسير :

هل أنت سعيدة يا ريم ؟ تطلعت إليه و قالت بحنان :

أستاذ سعيد •• رغم كل ما عانيته هنا حتى انتهى تعليمي فإنني أشعر إجمالا أنني كنت في بلدي و بين أهلي ، لن يغير هذه الحقيقة بعض الصعوبات التي واجهناها ، و

لن يمحو تعلقي بها محن قاسية مررنا بها ، كيف أنسى مسقط رأسي ، أو أتــنكر لبـــلد نشـــأت فيه و كبرت و تعلمت الكلام وتلقيت فيه العلم ، صدقني يا أستاذ سعيد

، أنا أحب مصر حبا عظيما ، و في قلبي مكان لكل شخص عرفته يوما أحبني أو أبغضني •• و ضحكت بعصبية و هي تفرك يدها و تكمل :

 حتى الأستاذ شاكر مدير شؤون الطلاب بالجامعة ، لا أحمل له ضغينة •• و أعرف أنني سأحن إلى أيامه ، إلى زملائي في الجامعة ، صديقاتي ، بيتنا ، شارعنا ، و حتى

القمر الذي أعرف أنه الوحيد الذي سيرافقني إلى هناك •• تطلع إليها و همست روحه قبل أن يهمس بألم :

 و أنا ؟ جلست بجواره و قالت بحرارة :

 أنت ؟ أنت الكائن الوحيد الذي لن يكون حنيني إليه شوقا عابرا ، الوحيد الذي لن يغادر ذاكرتي ما حييت ، ألا يكفيك أنني سأتذكرك و أذكرك في كل لحظة من لحظات

حياتي ، إذا فرحت ، و إذا حزنت ، إذا ضاقت علي الدنيا و إذا ابتسمت لي ،إذا تطلعت إلى القمر ، أو استيقظت في الصباح ، أو نمت عند المساء ، إنك غال جدا يا أستا••

قاطعها ، وضع راحته على فمها بسرعة و همس برجاء:

 سعيد •• قولي سعيد فقط •• الا أستحق هذا في اليوم الأخير معا ، أرجوك •• انفلتت منه بسرعة و نهضت و قالت بارتباك :

 ما سيعذبني هناك هو إحساسي بأنني لم أستطع موافاتك حقك يا •• أســـ •• أقصد يا •• ابتلعت ريقها و نظرت إليه ثم قالت بسرعة :

يا سعيدعلت وجنتيها حمرة خجل و شعرت بحرارة الكلمة فاغمضت عينيها ، و عندما فتحتهما كان سعيــــد واقفا أمـــامها ، في عيــــونه حــب الدنيا ، مد يـــده

فأمسك يدها فلم تفلـــتهما و استمعت إليه و هو يقول :

أعرف أنني أحببتك دوما و إنك لم تبادليني حبا بحب ، لكنني أريدك أن تعرفي إنك الكنز الوحيد الذي وهبه الله لي في وقت كنت بأشد الحاجة فيه إلى هدية تنير طريقي

، صدقيني يا حبيبتي •• لم أعرف طريقي أبدا إلا بعد أن أحببتك ، و لم أعرف لهذه الحياةمعنى إلا عندما وجدتك تتربعين على عرش قلبي ملكة متوجة بلا شريك ••و لن

امتلك ناصية السعادة المطلقة إلا حين يجمعنا الله سويا زوجين في هذه الدنيا •• ربما ليس الآن •• ربما ليس غدا ، لكنني أسأل الله أنني عندما يحين قضائي أن يكون

بين يديك •• وتكونين آخر من أرى يا ريم يا حبيبتي •• كانت يده تضغط على يدها فتؤلمها ، لكن لم يكن لديها القدر الكافي من الشجاعة لتسحب يدها •• كانت تسمعه و

تؤنب نفسها و قلبها الذي لم يشارك هذا المحب حبه ، كانت تعرف أنه صادق ، صادق حتى النهاية ، و لم تعرف بماذا تكافيء صدقه ، و لا كيف توفيه شكره ، إلا أنها أضمرت

في نفسها أمرا تنفذه قبل رحيلها بدقائق ، و هكذا عندما سلموا جميعا السلام الأخير و توجهوا الى الباخرة تمهلت قليلا و تركت لوحة مغلفة بجواره كان الجميع يعتقد

أنها ستحملها في الباخرة معها و عندما نبهها قاسم إلى أنها نسيتها ، لكزته و قالت :

 لم أنسها •• إنها هدية لسعيد •• كانت لوحة "لاجئة " الأصلية التي رسمها لها يوما الدكتور محمد و أعطاها هدية لها بعد انتهاء الإمتحانات في اليوم الأخير بعد

أن ظلت طيلة الأعوام الأربعة تزين جدران المعرض الدائم و بعد أن حازت على إعجاب كل النقاد ، و كتبوا عنها في الصحف ، و رغم أن الدكتور محمد أعطاها لها و أوصاها

أن تحافظ عليها بعد أن ظلت ترجوه أن يعطيها إياها منذ رسمها ، فقد وجدت أنها عند سعيد ستكون بأمان أكثر ، ووجدت نفسها مرتاحة إلى هذا القرار و كتبت عليها من

الخلف " إلى سعيد •• الواحة الآمنة لللاجئة ريمو عندما اختفت الباخرة من أمام سعيد •• أنزل ذراعه المودعة ، و استدار ليغادر بنفس كسيرة ، ملتاعة ، اصطدمت

قدمه باللوحة المغلفة •• رفعها و استدار بسرعة كأنه سيتمكن من مناداة ريم ليعطيها ما نسيت ، ، لكن الباخرة كانت قد ابتعدت بريم ، حمل اللوحة كشيء غال ، أحتضنها

و غادر الميناء •• *** سطح الباخرة كان المكان المفضل لريم دائما في سفراتها إلى السعودية عندما كانت تذهب لزيارة أبيها ، و في هذه الرحلة كان بينها و بين السطح

موعد دائم لا تقطعه إلا سويعات النوم القليلة في الكابينة المخصصة لهم ، و في الفجر كان ركاب السفينة قد ألفوا منظر ريم و هي منكبة على لوحة ترسم فيها الشروق

كما تراه من هناك ، كانت خطوط ريم قد اكتسبت قوة و مهارة بعد سنوات الدراسة ، و كان اتجاهها نحو الواقعية رغم ما واجه من انتقاد يعطي للوحاتها قيمة كبرى ، و

قد استطاعت خلال سني دراستها أن تحصل على العديد من الجوائز في المعارض المشتركة و كان حلمها أن تصنع معرضا خاصا بها في يوم من الأيام و قد شجعها على ذلك الدكتور

محمد الذي كان يشيد دوما بموهبتها و أخبرها قبيل سفرها عن استعداده لتبني معرض شخصي لها إن هي أرادت ، إلا أن السفر أجهض هذا الحلم مؤقتا •• و أصبح لريم مع

مرور الزمن طقوسها الخاصة و عاداتها التي لا تفارقها عند الرسم ، فهي لا تستطيع أن ترسم إلا لو كانت إحدى الفرشات بين شفتيها في وضع مستعرض ، كما أنها أصبحت

تلقائيا ترتدي اللون الأزرق إذا قامت لترسم ، و سميت مجازا لهذا السبب بين زملاء الجامعة " ذات الرداء الأزرق " و كانت تختبر مزيج الألوان على ظهر كفها قبل

أن تضعه في لوحة الالوان •• لذا فقد كان منظرها مثير للتأمل و هي ترسم لوحة الشروق عند الفجر على سطح الباخرة ، أما المتــــأمـــل فقد كان رجــــلا خمسينيا

يرتدي بـــذلة الرياضة و يمارس بعض السويدي على السطح ، استوقفه منظر ريم ، فاقـــترب كثيرا و لم تشعر به تأمل المنظر و شدته براعتها و دقتها في تصويره و عندما

بدأت في مزج لون الشروق على كفها ثم استقرت على اللون النهائي و بدأت في وضعه على اللوحة قال بسرعة :

 لو أنه أغمق لكان أفضل •• ارتاعت ريم فنظرت بسرعة لمحدثها و أوقعت الفرشاة من بين شفتيها و قالت بسرعة :

 

 بسم الله الرحمن الرحيم