الوجه العشرون

22 0 00

ذا أنا في وصال عشقي الموروث، وفي وطئي ذرات الذكرى تعيد إحياء كوامني. من ذا يقول أنني، أنا "قاسم الشرقي"، سابقا، ابن الإمبراطور المطاح به والمسفك دمه، لا أكاد أغيب عن تاونات الجبال والرجال حيث يحضنني حوض ورغة الأشم، بتينه وزيتونه، بزيته وعنبه، بأعراصه وأغراسه، بطيبة طبيعته وأريحية أهله؟ أرتوي من عيون بوعادل الدفاقة. تداعبني نسائم هذي الأرض الطيبة. تعاودني الذكرى بأنفاسها وأناسها، بأحداثها ودقائقها، بمسراتها وآلامها، بأصولها وظلالها، بوجوهها وأصواتها، وصوت الجدة يؤثت فضاءاتها، يصبغها بالحب الذي فتح باب قلبي، وأشع شعاعه داخله، وأنا جالس أنصت لكلماتها التي غيرت مسار حياتي، تلكم الكلمات التي ثوت بأعماقي، ورسخت هنالك كما رسخت الأصابع في راحة الكف، وكانت مرآتي أبصرتني من خلالها، وأنارت قطعا من حياتي الماضية حينما أشرقت شمس الجدة فيها، وسطعت فوق سمائي.

واليوم آثرت أن تتنسموا معي من عبق تلك الأشرطة العشرة التي حوت فيما حوت تجربة حياتها، وحياة بنيها، وما كابدت لننعم جميعا بما بلغناه. ثم إني وددت أن أبث لكم جريا على نصيحتها، كلماتي أنا أيضا وتجربتي، ومنتهى حكايتنا المثيرة، وخاتمتها في قرصي المدمج هذا، وجل الذي أتمناه أن تفيدوا منها وتأخذوها مأخذا يتوافق وأهميتها في صنعكم أنتم.

حياتنا، ماضيكم، فلا تعيدوا أخطاءنا الماضية حيث سرقتنا الحياة في دروبها المتشعبة ووقفنا على شرفاتها مأخوذين بزينة أضوائها، وأهملنا دواخل بيوتنا المظلمة. ألهتنا أضواء ما حولنا، فصرفتنا عن ظلام أنفسنا.

من ذا يستطيع أن يجزم بأني، أنا "قاسم الشرقي" سابقا، ذلك الشاب المتردد الذي وقف يوما مشدوها مذهولا أمام الغدر والخيانة؟ أقف اليوم بعد مرور عشر سنوات أمام ماضيَ القريب، وما عشته من أحداث وقد أيقنت تمام اليقين، أن الواجب يلزمني بمعاودة تلكم الأحداث على أسماعكم، وتلكم الحكاية على مخيلتكم، وأن أعاود مشاهدتها معكم، وكأنها حدثت بالأمس فقط. تلكم الأحداث التي تعيدني إلى ذلك اليوم، حيث كنت واقفا حائرا، أمام جامات نظرات "رافان" المسلطة علي، وكأنها خناجر سامة تبتر أوصالي، وتقطع أجزاء مني. كنت ماأزال أرشف اليأس، وأتجرع تباريح خيبة تجربة حب فاشلة، فاقد اللب والتركيز جراء ما اعتبرته خيانة وغدرا، وكانت ضربتي القاضية التي أسقطتني أرضا، منطرحا مندحرا في قعر اليأس ووهاده السحيقة.

لم أكن أتصور "رافان"، الذي عددته أخا أكبر يخفي كل مشاعر البغض والكره تلك، حين أزال القناع الذي تستتر خلفه ملامحه الحقيقية في ذلك اليوم الذي حضر بفيلا باب ازعير، يصحبه ثلاث رجال وامرأة في سن أمي، التي بعثت "بسهد" تطلبني أن أنزل إليهم لأمر غاية في الخطورة. قمت وأنا شبه نائم، إذ وعلى عادتي لم أدخل فراشي إلا متأخرا. لم يدعني "رافان" أسلم عليه، إذ أني لم أكن قد رأيته منذ مدة، ولم يتركني أسأله عن ضيوفه، من تراهم يكونون؟ إذ قال دون تقديم، وبحسم:

- تخرجون اليوم من بيتي.

تساءلت أمي، والبغتة تركبها.

- ماذا تقول، "رافان" ؟

أجابها بنبرة صوته الأولى الجديدة علينا:

- ما تسمعينه. زوجك المحترم، باع لي كل ممتلكاته. الشركات، العقارات حتى الأرصدة المالية، منحني إياها قبل انتحاره وعشيقته التي هي في مثل سن ابنته.

ورثت إمبراطورية "الشرقي" كلها إلا أنتم، فأنتم خارج الشركة، لذا أرديكم أن تتفضلوا خارج داري.

كنت أعتقدني داخل كابوس إذا ما استفقت سيرحل عني، بيد أني كنت واهما فكل ما أعيشه واقع لا علاقة للتخييل والنوم به، فخرج صوتي رغما عني:

- مستحيل ما تقوله، "رافان"، فأبي لا يمكنه أن يسئ لنا بهذه الطريقة.

أفرجت شفتاه عن ابتسامة هازئة، وهو يخرج من جيبه أوراقا رماها لي فإذا هي نسخ عقود بيع مسجلة، تحمل توقيع والدي المشهور. ازدادت ابتسامته اتساعا، وحملت مزيدا من الخبث وهو يخرج ورقة أخرى من جيبه قائلا:

- ما دمنا نتحدث عن الأوراق -وهنا التفت إلى "سهد" التي كانت تعاني في داخلها وفضحها احتقان وجهها الشديد- هذه ورقة طلاقي منك غيابيا حبيبتي، أو خلاصي منك، لا يمكنك أن تتصوري عذاباتي معك التي كنت أتحملها. كنت مجبرا على تحملك، بل تحملكم جميعا، والآن أزفت ساعة الحساب. والحقيقة، هذه التي معي-وأمسك بيد السيدة التي كانت برفقته وقبل يدها-هذه أمي، وهي الوحيدة المستحقة لحبي، وعطفي. اخرجوا من بيتي، لا أطيق رؤيتكم أمامي.

قال جملته الأخيرة هاته صارخا، وهو يدفعني بقوة تقهقرت معها إلى الخلف وتخاذلت لتتلقفني الأرض. كانت الأرض تميد بنا جميعا، وأحسسنا زلزالا بأنفسنا قويا شديدا، وسقطت أمي فاقدة وعيها، بينما ظلت "سهد"، جامدة بمكانها، شاخصة البصر لا تبدي حركة، وقد خبا بريق عينيها، فهرعت إلى أمي، أحاول الإطمئنان عليها. رجة قوية تلك التي أحدثها انكشاف "رافان" أمامنا، ونض عن نفسه المساحيق التي ظلت تصبغ وجهه، والمجاملات والرقة التي ما كانتا تفارقان حديثه وسلوكه، وكل منا تأثر لذلك إلا أن الطريقة اختلفت. شيء من داخلي كان يدفعني للقول بأن ما حدث، رغم الوثائق والحجج، لا يمكنه أن يصدر عن أبي، أن يفرط في كل ما أنفق أجمل سنوات عمره لجمعه، وكابد لأجل ذلك ما كابد، بتلك السهولة "لرافان". ولمَ "رافان" ونحن الأولى منه؟ رفضت أن يصدر ذلك عن أبي في داخلي، إلا أن تسارع الأحداث، وإفلاتها مني بسرعة ركضها جعلني مشتت الفكر، فاقدا هدوئي، بين أمي العليلة المكلومة، التي مازالت في أيام حدادها على أبي، ومازال جرح فضيحته لم يندمل، وأختي التي أسلمت نفسها لسلطان الشرود، الذي خطفها بعيدا عنا في حدود سلطانه الوهمية.

قد تعتقدون يا أبنائي، أني ولدت غنيا، وأختي "سهد"، لكن ذلك غير صحيح. رافقناه في رحلة صعوده الشاقة والمتعبة صغارا سنين طويلة، وفي كل مرة كان يقول بأن ما بلغناه، ليس إلا محطة استراحة، نقف عندها قليلا قبل معاودة التسلق. كل تلك السنين وما كابدنا خلالها من غياباته المستمرة جراء سفره، وكل صبر أمي وجهادها ذهب أدراج الرياح في لحظة واحدة. هكذا، ببضع كلمات على ورقة، وإمضاء. بيع وشراء وتنازل، ألا ما أشق الصعود، وما أقسى آلام السقوط!

لم نحمل معنا من بيتنا شيئا إلا كلوما غائرة في صدورنا، وما جاد به علينا "رافان" وأمه من ساقط الكلام، وبذئ التجريح. طردنا كما نحن. كان علي أن أذهب بأمي أولا إلى المستشفى. كان ذلك عزمي وقصدي، بيد أني ما أن انتبهت "لسهد" حتى أدركت أنها أيضا تحتاج ما تحتاجه أمنا.

وأتاني رأي الطبيب بعدما أخبرته بما جرى أن ذلك نتيجة لتراكم الصدمتين فقد كان لوفاة الوالد بتلك الطريقة الفاضحة، أثر مكبوت أختفى في صدريهما، وكانت صدمة خيانة "رافان" التي حركت آثار الصدمة الأولى من جحرها، وإن كانت لا تقل عن الأولى، فكلتيهما اكتشفتا خيانة الزوج. وجعل الطبيب يشرح لي كل ذلك وهو ينظر إلي بارتياب كأنه يبحث في ملامحي عن أعراض مرض مشابه، بيد أني كنت متماسكا لإدراكي ضرورة الصبر والجلد، ليس لأجلي فقط بل لأجلهما معا، وقد صرت المسؤول الوحيد عنهما. أطرقت أعمل فكري، وأنصت لنفسي على اضطرابها، ووصلت ألا مقام لنا في الرباط بعدما ضاع منا كل شيء، ولأخضع لنصيحة الطبيب الذي قال بأن علي أن آخذهما بعيدا في رحلة علاجية، لأن ابتعادهما عن مكان الصدمة يساعد على نسيان آثارها اعتمادا على عامل الوقت. شيء آخر دفعني إلى قراري ذلك، إذ أني كنت أخجل من أن أقابل أحد معارفنا بوضعنا الجديد، حيث لاشيء نملكه، وقد كنا من أثرى عائلات الرباط. ورغم أن أعراض إصابتهما كانت متباينة إلا أن نتائجهما كانت واحدة وحدة أسبابها، فبينما شلت أطراف أمي كلها، إذ لم تعد تملك من حركاتها شيئا، واحتفظت عيناها بمسحة حزن واضحة، كانت "سهد" تستطيع الوقوف والحركة، بيد أن حركاتها كانت متراخية بكسل غير مفهوم، في حين غابت نظراتها إلى المجهول في حين اشتركتا في غياب النطق.

كانت المرة الأولى التي أجدني فيها وحيدا، لاأحد يحيط بي أو يبحث عني، أو يجاهد كي يصل إلى رفقتي. وأدركت متأخرا أني بلا صديق. قد أملك معارف بالكثرة التي أضيع أسماء بعضهم، أو أنهم هم من كانوا يملكونني، بيد أني لم أعرف صديقا أستطيع الوثوق به، وإطلاعه على ما كان يضيق به صدري. وهراء كان ما أطلبه، إذ أني لم أنصت لشكوى أحد من قبل، بل ولم أعبأ بأحد. أدركت أنانيتي المطلقة، حين أدركت فقري الشديد. ووصلت إلى أمر آخر أكثر أهمية وهو أني لم أكن أحدا، سوى أني "إبن الشرقي"، الإمبراطور، صاحب المال والجاه والمركز. وكذلك كانت أمي، وعمتكم "سهد". لم نكن نملك شيئا سوى أننا من "آل الشرقي". لم يفكر فينا أحد بأن يطالب بشيء له من كل ما نملكه، أو ما كان يملكه والدي، لذلك وجدتنا بلا مال. السيارة كانت ملكي الوحيد، واسم أمي العائلي كان ملكها الوحيد أيضا، يمنحها، ونحن معها، مكانا في بيت العائلة بفاس.

مكثنا في فاس زهاء الشهر على حالنا، بين الوحدة والألم والغياب. ضياع مطلق ومتاهة أدخلتنا إليها سذاجتنا وبراءتنا وثقتنا في خائن طعننا في ظهورنا في غفلة منا.

لم أكن أتوقع جديدا أو أنتظر انجلاء سحائب الأزمة عن سمائنا، وإنما كان هدوئي في هذا الشهر هدوء الخانع الراضي المستسلم لواقع الأمور، أمي جدتكم، وأختي عمتكم، على مثل حالهما دون تقدم أو تغيير. وفي كل مرة أخلو فيها إلى نفسي، كنت أجدني و"وعدا"، إذ أني رغم ما كنت أحسه من نفور ظاهر تجاهها، إلا أن حبها ظل رابضا بقلبي لا يتزحزح، ورغم أني كنت أحمل لها نقمتي وغضبي وحكمي عليها بالخيانة، كما "رافان"، وحاولت وضعها معه في الكفة نفسها، إلا أنني لم أستطع.

تعلمون يا أبنائي، أنه يوجد دوما في آخر نفق العزلة والوحشة، شخص ينتظرنا، ويؤنس وحدتنا ويمسح على جبينها، كانت "وعد" نوري الذي ينتظرني. هكذا كنت أراها، رغم مافعلته بي. وحدث في أعقاب ذلك بقليل شيء مفاجئ، إذ أتتني خالتي في أحد الصباحات، توقظني وتخبرني بأن شابة تسأل عني وأنها تنتظرني خارجا. خرجت إليها وآلاف الهواجس تخترق صباحي، وسؤال يقلقني، من تراه يكون زائري ولا أحد يعلم عنوان عائلة أمي إلا أقرب المقربين لنا؟ وخشيت أن تكون زائرتي الصباحية مبعوثة من "رافان"، وذلك ما تأكد لي فعلا، فالطارقة لم تكن سوى "وجد"، كاتبة والدي. لاشك أنها أضحت الآن كاتبته، وحسبت حدسي قد صدق، وأن "رافان" يقف خلفها لأمر أجهله.

كانت كأنها وقعت على فار من وجه العدالة.

- سيد "قاسم"، لكم عانيت في سبيل العثور عليك.

قلت لها مستخفا:

- وهل أنا شخص مبحوث عنه؟

أجابت، وكأنها تود الإعتذار:

- كلا سيد "قاسم" ليس تماما، ولكن هناك من يطلب رؤيتك.

إذن فهي مبعوثة من "رافان"، هكذا خمنت. قلت لها آمرا، وأنا أصفق الباب في وجهها، وقد انتابتني نوبة غضب شديدة:

- ارحلي عني، فأنا لا أرغب في رؤية أحد.

ودخلت أرغي وأزبد وأنا أفكر جادا في تغيير سكنانا، إذ أني خمنت أن "رافان" بعد أن وصل إلينا هنا فإنه لن يدعنا ننعم بهمنا، دون أن يدبر لنا هوة أخرى يلقينا داخلها، وكأن ما بلغناه وما نعانيه لا يكفيه.

وما زاد في ثقتي بأنه هو من بعثها أنه كان يعلم موقع منزل عائلة أمي، إذ سبق وزار خالتي هناك رفقة "سهد". وجمعت أمري أني لابد أن أدبر مكانا آخر نفر إليه، وأبحث لنفسي عن عمل أعيل منه نفسي وأسرتي المعتلة، ولكني لا أكاد أتقن عملا، إلا إلقاء الأوامر من خلف المكاتب. كان ذلك وقتها تنقيصا من قدراتي، لشدة يأسي واهتزاز مشاعري وسوداوية نظرتي للحياة. نسيت التجربة الكبرى التي اكتسبتها طيلة سنوات عملي إلى جانب جدكم، وهو مدرسة إقتصادية كبرى، إضافة إلى شهادة جامعية قسم فلسفة، تلك الشهادة التي تسببت في غضب والدي علي، وهو من بعثني إلى فرنسا لدراسة الإقتصاد لكني غيرت وجهتي تلك وملت إلى الفلسفة عشقي القديم. قضيت تلك الليلة متقلبا متفكرا، وعادت إلي صورة "وجد"، وزيارتها الصباحية، ولأول مرة منذ عرفتها، وجدت تشابها بينها وبين "وعد"، وقد غفلت عنه لقلة ما كنت أجالس نفسي أو أفرغ لها، أما وقد صار لدي من الوقت، ما أنفق منه كيف أشاء، فقد ألفت أن أفكر بترو كبير، وأعيد كل الصور التي عرفتها، واللحظات التي عشتها والمواقف التي مررت بها. ذلك التشابه أصابني بنوع من الخلط إذ أني وجدت رابطا متينا يصل "رافان" "بوعد"، وهو الأمر الذي ظلت عواطفي تنكره بيد أن عقلي يؤكده صراحة، قد تكون "وعد" أختا "لوجد"، ذلك ما خمنته. وإذا تأكد ذلك فإنها لابد مشتركة في هذه المؤامرة، التي أعدها، وأخرجها "رافان".

كل الدلائل كانت تدين "وعدا" في نظري، فهي أخفت عني قرابتها من "وجد"، كما أخفت عني علاقتها المشينة المستمرة مع ذلك الفتى الذي وجدته وإياها في "الموعد" السلاوي في حميمية. الخائنة الملعونة. هكذا صرت ألقبها.

كانت كل هذه الأفكار تتلاطم برأسي وأنا في فراشي، وقد لعنت سخفي وغبائي لأني وثقت بعواطفي ومشاعري. أسفر عني الصباح، وأنا بعد في حيرتي وعتابي لنفسي. وأخذتني غفوة لم أصحو منها إلا على صوت خالتي توقظني، وهي تخبرني مستغربة بأن فتاة أخرى تنتظرني خارجا. ارتديت ملابسي وبقايا صور الأمس تمور بداخلي، وقد علمت ألا راحة لنا بعد اليوم في هذا البيت، وقد وصلت مبعوثة "رافان" الثانية، بعد الكاتبة "وجد"، على من الدور اليوم؟

أتراها "وعد" الشريكة الأخرى "لرافان" المحتال؟

أحدث ذكرها في نفسي زلزالا قويا. كنت أحمل لها شعورين متناقضين، حب ساكن بقلبي لايتزحزح رغم أني كنت في شبه يقين من أنها متآمرة ضدي، وذاك سبب احتقاري لها. وجرت الرياح بسفني إلى مرافئ تخميني، إذ كانت هي من تنتظرني لدى الباب، بفستانها القاني الذي كان آخر ما رأيتها تضعه في مقهى "الموعد" يوم الخيانة العظمى.

أكانت متعمدة أن تضعه ذاك اليوم إمعانا في تعذيبي، ولتذكرني بذلك اليوم المشهود؟ قابلتها مبديا تبرمي وتضايقي، واضطررت أن أظهر ذلك لها، وجاهدت لأجل ذلك إذ أني أحسست خفقات قلبي تتواتر مسرعة.

- صباح الخير، "قاسم".

أيمكن أن يكون هذا الصوت الملائكي وذاك الوجه البرئ لمخادعة كبيرة "كوعد". قررت أن أتمادى في إظهار نفوري فتجاهلت تحيتها الرقيقة، وقلت بجفاء واضح:

- ماذا تريدين؟

كانت خجلى، وخرج صوتها مبحوحا:

- محادثتك على انفراد، إذا لم تمانع.

كيف أقاوم رغبة الإنفراد بها والإستماع لها، ولو أني أحمل لها ما يحمل العدو لعدوه؟

- لماذا؟

- مسألة هامة. قضية حياة أو موت، وأمانة أسلمها لك من قريب.

فكرت بأن القريب لا يمكن أن يكون إلا "رافان" الملعون.

- تقصدين "رافان".

تساءلت مستغربة،

- "رافان" ؟ لا أعرف أحدا بهذا الإسم.

هاجمتها، وقد أنكرت فعلا أن تتمادى في التلاعب بي وبمشاعري.

- لا تعرفينه، ولا تعرفين "وجدا" ؟ فكيف عرفت أين أقطن إذن؟

قالت والأسى يقطر من صوتها، وقد أحست أني أدينها بجرم لا تعلم عنه شيئا.

- وجد أختي ولا أرى ضرا في ذلك وهي من دلتني على عنوانك، أما صاحب الإسم الأول فأنا لا أعرفه، أقنعتني بضرورة المجيء إليك بعدما تعذر عليها الحديث إليك، رغم أني لم أكن أرغب بذلك.

- إذن فاعلمي أني أيضا لاأريد رؤيتك أو محادتثك وقد بدا لي مكرك وخداعك.

كان غضبي هنالك قد بلغ مداه، فأعدت الكرة معها كما فعلت مع أختها من قبل، بأن صفقت الباب بقوة في وجهها. رغما عني فعلت ذلك، وكأن الخوف من فقدانها أبدا حرك داخلي مشاعر الندم، فأنا بحاجة أن أراها، ولو فعلت ما فعلته معي. خاطبت نفسي أدافع عنها، ومن يدري فلعلها آتية لتعترف بأخطائها معي وتود التوبة والتكفيرعنها؟ وبسرعة اندفعت إلى الباب أعاود فتحه لألحق بها علي أجدها عند ناصية زقاقنا، بيد أن مفاجأتي كانت كبيرة، وأنا أجدها واقفة ثابتة بمكانها، وقد غطت دموع ثقيلة عينيها الصغيرتين. جمدت بمكاني وأنا أحملق بها، ثم صدقت حدسي، وأن تلك الدموع كانت جراء ندمها وطلبها الضمني الصفح والعفو. خلصت إلى ذلك وأنا بعد واقف كأنني مشلول الأطراف. ثم قررت أن أحتفظ ببعض قسوتي حتى أعلم حقيقة ما تود قوله، والأسباب الحقيقية الكامنة خلف زيارتها.

- أراك، لازلت تقفين هنا، فماذا تريدين؟

ردت بصوتها الممزوج بانكسارها وذلها كوقفتها أمام باب البيت.

- أريدك أن تسمعني بعض الوقت.

كان كل ذلك يؤشر لما هداني إليه تفكيري، فقلت بثقة:

- لنبحث عن مكان نستطيع التحدث فيه.

ومشينا متحاذيين معتصمين بالصمت، من حي الطالعة حتى البطحاء، وهي تجفف دموعها بمنديل أخرجته من حقيبة يدها الصغيرة. همست لسائق سيارة الأجرة التي ركبناها.

- مقهى "النوبليس" من فضلك.

وجلسنا متقابلين، حيث طلبت قهوة سوداء لي، ولما لحظت شرودها وصمتها، قلت وأنا أنظر إليها في شبه اتهام.

- عصير ليمون، أم أنك غيرت مشروبك؟

تجاهلت نبرتي ونظرتي بأن هزت رأسها نفيا، :ثم قالت بالصوت المختنق نفسه

- أرجوك، ألا تكن قاسيا معي أكثر، ولتؤجل حكمك الظالم حتى تكتشف الحقيقة كاملة.

- ماذا تقصدين؟

- أحمل لك دعوة من شخص يرغب في رؤيتك، لإطلاعك على أشياء تخصك. أما عن علاقتي بك، فثق أني لا أحب أحدا سواك، ولست أعلم ما تلومني من أجله، رغم أنك من تلاعب بي وبمشاعري الصادقة نحوك.

كنت مركزا على الشطر الأهم بالنسبة لي، علاقتي بها.

- تقصدين أنني من خان وتآمر، وأتى يطلب العفو والصفح.

قالت بتحد، كأنها لم تعد تطق صبرا على هجومي:

- لست أطلب صفحك لأني لم أذنب في حقك، بل أنت من تلاعب وكذب إذا ادعيت أنك تحبني بينما كنت تخدعني وتمضي وقتك بي، وغبت عني بعدما تأكدت أني علمت حقيقتك وحقيقة كذبك.

تساءلت بحنق:

- تسمين تلك الكذبة الصغيرة التي أجبرت عليها حتى لا أضيعك وأنا لما أتعرفك بعد، وتتحدثين عن غيابي وكأنك لا تدركين أني فعلت ذلك حين علمت بأمر خيانتك.

رفعت صوتها لأول مرة منذ التقينا، وقد بدا عليها الغضب.

- منذ رأيتك وأنت لا تتحدث إلا عن الخيانة، تتهمني ذلك الإتهام السافر مع رجل لاأذكر حتى اسمه؟

قلت محاولا تهدئة الوضع. أزعجني أن نثير فضول الجالسين حولنا.

- أنت تخلطين الأمور هنا. لعلك لا تعلمين أني رأيتك رفقة ذاك الفتى الذي كان معك يوم التقينا أول مرة في مدرستك، تذكرين أننا في ذلك اليوم كنا متواعدين على اللقاء. وحتى أؤكد لك الأمر وأزيد في تذكيرك به، كنت يومها ترتدين ثوبك هذا، والأنكى من ذلك كله، أنكما كنتما تجلسان في طاولتنا، وكان يمسك يدك في مشهد غرام لم أظفر به معك طيلة فترة تعارفنا.

أفرجت شفتاها عن ابتسامة لم أستطع قراءة ما وراءها.

- أبله. أنت أغبى من قابلت في حياتي. لو كان بيني وبينه شيء مريب كما تعتقد، لبحثنا عن مكان آخر لا تستطيع أن تصله، لاأن آتي به قبل موعد لقائي بك هناك بقليل بعدما ألح في التحدث إلي على انفراد. غبي أنت فعلا. كنت أود أن أعرفك عليه. تشك بمن كنت أعتبره أخا قبل موته، وهو الذي يقطن بجانب منزلنا، ويدرس في فصلي نفسه ويجلس معي في الطاولة ذاتها، بعد ذلك لاأجد مكانا أبادله الحب فيه غير تلك المقهى وتلك الطاولة.

فاعلم أنك تسرعت كثيرا في حكمك علي، ورغم ذلك فإني لن أحاول الدفاع عن نفسي لأنك لو ظننت أني كنت أخدعك مع "محمد"، وكان ذلك سبب هجرك لي، فستبرهن بأنك غبي حقا، ولاتستحق كل هذا الذي أحمله لك، بيد أني لم أحضر إلى هنا لأدافع عن نفسي أو أن أطلب عفوك، لأنه لو أن بقلبك ذرة حياة واحدة، فسيرشدك إلى أن حبي لك أكبر من اتهامك. فلأدع كل ذلك للأيام علها تنصفني أمام حكمك المتسرع. واعلم أني سامحت كذبك علي، وتلاعبك بي لأني حقيقة أحبك، ولم أكف عن حبك منذ رأيتك، بل قبل أن أراك.

قذفت كل هاته الكلمات بوجهي طلقة واحدة. أربكتني وزاد من ربكتي إحساسي بصدق كلماتها ولما لحظت ذلك مني، أضافت:

- هناك كما قلت لك شخص يلح في طلبك، وعلينا أن نعجل إليه حالا، إذ لاوقت نملكه، تساءلت وقد عادت إلي مخاوفي الأولى:

- من يكون، وماذا يريد مني؟

قالت وهي تستعد للقيام :

- ثق بي، ولو مرة واحدة، ولا تكن سيء الظن. لاأستطيع أن أخبرك شيئا الآن، لكن الأمر غاية في الأهمية والخطورة، فلتقم إذن فلاوقت أمامنا.

كنت أمام امتحان عسير. "وعد" أمامي التي أحمل لها كل الحب، وهواجسي ومخاوفي من أن تتحقق شكوكي.

ولما لم يكن لي شيء آخر أخسره، إذ لم يعد لي غير حبي لها فلأراهن عليه. قررت أن أركب المركب معها، ولتقدني أين تشاء. قلت وقد أعلنت موافقتي :

- إلى أين تريدينني أن أصحبك؟

كنت أتوقعها ستقول لي، سلا أو الرباط، أو أي مكان آخر هناك في فاس بيد أن جوابها فاجأني فعلا حين قالت مبتسمة، وقد سرت لثقتي بها.

- تاونات.