الوجه الخامس عشر

21 0 00

كان ذلك لقائي بابني "إبراهيم" الذي أسمع صوته والذي ما ندمت عليه بعد ذلك قط. ولإن ضرني فعله، إلا أني احتفظت بصورته القديمة في تاونات، ذكرى عذبة جميلة. وظل كذلك بداخلي بخفته ومرحه، ومقالبه الكثيرة التي يسيء بها لغيره، ولنفسه أيضا فيس غالب الأحيان.

وعدت أدراجي منكسة الأعلام، مهيضة الجناح، ثقيلة الكتفين والخطوات، منكسرة النفس، تمشي الخيبة والحسرة جواري، وتحاولان مواساتي في مصابي بيد أني ما لبث أن عدت للبيت، وهدأت نفسي قليلا حتى غفرت له كل ذلك، ورحت أنقب له عن أعذار دفعته لفعل ذلك معي، وسامحه قلب أمه الذي ما كف عن حبه رغم جفاء معاملته وقسوته بل وصل الأمر بي إلى شيء أعظم. فقد رحت أزوره كلما استبد بي الشوق وأحرص على الإختفاء حتى لا أغيظه، وترشف نفسي من طلته، وتطور بي الأمر حتى أضحت زياراتي بمثابة حج أو إعتمار أسبوعي. ولم تلحظ البنتان شيئا من ذلك إذ انغمست كل واحدة منهما في شأنها. "وجد" في مشاكل عملها بينما كانت "وعد" تتعرف على الحب إلى جانبك، وصار الخروج إلى الرباط ديدني وأنا التي مكثت في سلا أكثر من ثلاثة وعشرين سنة دون أن أبرحها. هي ذي خطواتي تتعود عبور الجسر المفضي إليها مرة على الأقل في الأسبوع. وحدث معي شيء لست أدري إن كان من تصاريف القدر أم هي عبثية الأشياء التي تصادفنا دون معنى ولا تحتاج إلى تفسير، إذ وبينما كنت أشق طريقي من حسان متجهة إلى مقر المجموعة ذات صباح، إذا ملاءتي الجبلية تثير نظرات رجلين جعلا يحدقان بي، واستشعرت نظراتهما لكني لم أجرؤ على التحقق منهما.

من يكونان؟ ضايقني منهما إصرار نظراتهما، ورمقتهما بطرف خفي، فإذا أحدهما في مثل سني، بجلباب صوفي زعفراني اللون، وبعمامة عظيمة تغطي رأسه الصغيرة المتراخية إلى الخلف، وقد سترت لحيته البيضاء الخفيفة ذقنه المربع. كان شبه باسم، وعيناه مقلصتان كآسيوي مرح. لمحت كل هذا بنظرة خاطفة، كما لمحته يقول شيئا للشاب الواقف إلى جانبه. كانت ملامحه أليفة لي كما بدت ملامحي له.

نحن يابني، أبناء البدو نملك ذاكرة لا تنمحي أبدا. ترسخ الصورة داخلها أبدا. تعرفني الرجل وتعرفته، رغم تلك السنين التي تفعل فعلها في صورنا وأحوالنا وذاكراتنا. لقد كان ابن قبيلتي. هو ابن عمي "محمد"، فقيه القبيلة. دنوت منهما مهلة الوجه، هاشة لهما. وسلما علي بكثير من الود الجلي. أخبرني أنه جاء مع ابنه الجندي الذي قدمه لي، ويحمل اسم أبيه أيضا، إلى مستشفى محمد الخامس العسكري. السن يا بني، رفيق العجز والمرض. وبعد حديثنا القصير عن الحال والصحة، سألت ابن عمي "محمد":

- ما تراها أحوال القبيلة بعدنا؟

تنهد بعمق فيه أسى:

- ماذا أقول لك "أعيشة" ؟ البلاد هي البلاد، لكن الناس من يتغيرون. بين راحل منها وقادم إليها، الحال كما تركته، وربما أسوأ.

واسترسل دونما حاجة إلى مزيد استفسار مني:

- تزوج "علي" من تلك أعوذ بالله -يقصد الفاجرة- التي أضحت سيرة ابنتها على كل الألسن بعدما غادرت في أثركم إلى فاس، وعادت بابن لم نعلم له أبا. كان يشبهها في كل شيء، ويرطن مثلها. وله اسم لا أقوى على نطقه "رهان" أو "كهان" كاسم أمه "يلان" -يقصد "ليليان"-.

قلت بألم..

- حسرة على القبيلة وأهلها.

فقال والحنين يقطر من صوته:

- ألا تعودون؟

قلت هامسة..

- ربما، ربما نعود.

واستمر حجي ذاك مدة إلى أن استقر ناظري على الرجل ذي الملامح المألوفة لدي، وعلمت اسمه من تحية صباحية ألقاها عليه حارس أمن المجموعة، ونطق اسمه الذي أتاني إلى أذني قريبا كإسم آخر غريب عاش معنا ليال طويلة وسبب لنا عذابات كثيرة، "ليليان". وعند المقارنة بينهما أدركت لم جعلت ملامحه تبدو لي مألوفة أول مرة أبصرته خلالها. كان يشبهها، ابنة الفاجرة. وتذكرت حينها كلام ابن عمي "محمد" وهنا ابتدأ عنائي، وألمي. من يكون "رافان" في مجموعة "إبراهيم"؟ لقد كان يبدو نافذا داخلها، كما اتضح من هالة الإحترام التي يعامله بها الحارس الذي يحييه في شبه انحناءة مقدسة لا يمنحها إلا "لإبراهيم".

وتأكدت من يكون فعلا حين عدت للصورة التي كانت سببا في تعرفي على ابني، ووجدته داخلها واقفا بينكما، واستدرجت "وجد" متحايلة، فقالت والحمرة تخضّب وجنتيها، لم ألحظها ساعتها لانشغالي بأمره أكثر وقد حسبت المسكينة أني صرت مطلعة على أمر تحرشه بها. الفاجر المحتال.

- إنه زوج ابنة الإمبراطور.

حينها أدركت أن الثعبان ابن الحية، قد تغلغل وسطكم بشكل فظيع. ألا ترى أن حكايانا يا بني موصولة بخيط واحد؟ لم أعرف لمَ لم ينتبه "إبراهيم" له، لملامحه، ولرطانته في كلامه، ولتعسر نطق بعض حروف كلماته؟

أم أنه لم يعد يملك عيون أهل قبيلته، وانمحت ذاكرته القديمة كلها حتى إنه لم ينتبه للقب "وجد" الذي كان فيما مضى لقبه هو. لعله كان محقا. لم يكن ابني، رغم أنه "إبراهيم" نفسه. مات ابني منذ خرج متسللا من قبيلتنا فارا من موت محدق به، وماتت روحه القديمة، وأنجبت الأيام "إبراهيما" آخر، صار برا بها، خاضعاً لها. ولكن ما الفعل وهو يذكرني "بإبراهيمي" الأول؟

"رافان" إذن ابن "ليليان" التي خرجت في إثرنا متسللة أيضا كأنها تتعقبنا مخلفة وراءها أمها الفاجرة، تأكل من خير أرضنا، وتجني من يانع ثمرها. لم تذهب أبعد من فاس، ولم يمض عليهما وقت طويل حتى بان انتفاخ بطنها على شاكلة أمها من شخص غير معلوم. قالوا إنها طارحت رجالا كثيرين، وأن الإبن كان لسائح ألماني، عاد إلى بلاده. وقالوا إن ابنها ذاك أخذ عن كل من ضاجعت صفة. وقالوا... وما أكثر ما قالوا، وترددت أصداؤه في القبيلة. لقد أتى إذن كما أتت أمه، مجهول الأب. وربته ما بين فاس والقبيلة. وزرعت في نفسه بذرة الكره والبغض، وبعد أن تعقبت خطواتنا وأضلتها. لم تخطئ "إبراهيم" وقد أمسى مشهورا، وتعرفت على صورته في التلفاز، وبعد ذلك في الجرائد. وأرت ابنها عدوه الأزلي. لمثل ذاك اليوم أعدته، ولأجل تلك الغاية ربته. هكذا تسرب إليكم، يطوي الإنتقام في نيته، وكان صبورا. ألا ترى كم أنفق من وقت بين التزلف والحيلة والإجتهاد والمكيدة للوصول إليكم أخيرا، وأمه من خلفه تهمس في أذنيه، أن اصبر وتجلد، ستصل غايتك إن اجتهدت أكثر؟

ووصل المجموعة في فتح مظفر وحاز نصرا لم يخله يأتيه عدوا. "سهد" رأته وأغرمت به، وما عدها إلا جسرا تنقله إلى ضفته المنشودة ليكون في خندق أعدائه. ودخل بيتكم، كما دخل مجموعتكم من قبل. وصار محسوبا على "آل الشرقي".

كان ذاك مساره الذي أفزعني سماعه، ومعرفة جزئه الأكبر من ابن عمي "محمد" في مستشفاه عندما كنت أزوره، أما حزؤه الآخر فكان من "وجد".

ركضت بعد علمي بكل ذلك أبحث عن أبيك لأطلعه على أمر "رافان"، بيد أني تأخرت في الوصول، إذ وبعد طول انتظار، لم يظهر في موعده الذي ألفته يقدم خلاله. وقدم "رافان" وحده هذه المرة، ولم تحضر حتى أنت. كنت تعيش خيبة الحب في حانة " طاهيتي " الحقيرة، ولياليك التي لا تنهيها إلا سكرانا معربدا. وكان أبوك يعيش وهم حب مع "آمال" التي هي في مثل سن "سهد" ابنته، وهي التي جعلته جسرها إلى ضفة الثراء الذي كانت تحلم به حياتها كلها، متواطئة مع "رافان" لتنتقم منك. لم أجد أحدا يمكنني إعلامه بما يجري، ولم يكن هناك من أحد يمكنني الوثوق به غير "وجد" التي انهارت بعدما علمت الحكاية كاملة مني، وأدركت أن رئيسها عمها، فطفقت تروي لي ما حدث لها مع "رافان"، وكيف نجح في تسخيرها لأغراضه الدنيئة؟

كانت "وجد" طموحة جدا. ذكرتني "بابراهيم" الذي فقدته، ولم يكن بوسعي أن أخسرها كما خسرته.

أيقدر لي دائما أن أضيع أحد أبنائي؟ واستعدتها نادمة على ما فعلت. كان قلبي ينذرني باقتراب الكوارث منا، إذ لم يكد يمضي وقت طويل، حتى وجد الناس موضوعا لأحاديثهم اللامنقطعة، بعد أن أمدتهم صحافة الفضائح بمادة جعلوا يضيفون إليها ويحذفون، كما شاءت أهواؤهم بتشف فيمن يسقط من عل. موت "إبراهيم" وعشيقته الشابة في وكر عشقهما المزعوم، كان الحدث الذي تناقلته الألسن ورجّ أركان بيتكم، وأفقد أمك حياتها أو جل حياتها. وأتى بعد ذلك موت "محمد مبروك"، عقبة "رافان" الوحيدة، الذي دهسته سيارة مجهولة الأرقام. وظهر "رافان" بعد ذلك، بحججه ووثائقه، وطردكم شر طردة، حتى من فيلا باب ازعير التي أضحت إقامة "ليليان". وطلق أختك التي صدمت بحقيقته، وبوجهه الذي كان يربض خلف قناع الحيلة. عدته محبا فإذا هو متلاعب، لا يحب إلا نفسه، ولا يحمل إلا الكره. كنت ياقنا في داخلك من أن حجج "رافان"، واهية، باطلة وأن وثائقه هي الزيف، غيرأنك لم تملك فعل شيء، فخرجت بأمك وأختك صاغرا مهزوما، وقد عدت لتوك من رحلة الضياع التي رميت نفسك فوق مطاياها. ما أغاضني حقا منك، سلبيتك المفرطة أمام تسارع الأحداث أمامك. لم أكن أريدك أن تخطأ أخطائي الماضية نفسها. ألا ترى كم خسرنا جراء فرارنا الدائم؟ صرت تعلم يا بني الداء، ودواؤه المواجهة إن أردت استعادة حقك الذي أخذ منك بالغصب والحيلة. لذلك دعوتك إلى هنا، تاونات البدايات. أرضك وموطنك، لأصل لك الحاضر بالماضي حتى تستطيع رؤية المستقبل.

أعلمتك حكايتي وجدك، وحكاية والدك وعمك. فاعلم يا بني أن ما دعاني إلى نقل كلامي إلى هذه الشرائط خوفي من الموت، صديقي القديم الذي بدأت أراه حولي، وحتى لا أضيع عليك التعرف على قطع من ماضيك. كما صرت ياقنا من حبي لك ولأختك ولأمك كما كنت على الدوام لأبيك من قبل. فاتعض بحكايتنا يا بني وانصت لما سأقوله لك لأنه خلاصة عمر. أمر ظل يشغلني، ويملك جل تفكيري. ما الذي يدفعهم إلى التشبث بأرضنا التي عدوها ملكا لهم، حتى إن "رافان" و"ليليان" دأبا على زيارتها بانتظام، وهو الشيء الذي لم يفعله "إبراهيم" من قبل، ولا فكر فيه قط، ولو بحثا عن أمه وأخيه بعدما أضحى نافذا، ذا جاه وسطوة. ما بال أرضنا نراها قفرا ويرونها جنة خضراء؟

ولمَ نغادرها ولا نكاد نعود إليها، بينما إذا استقروا فيها، واستوطنوها لا يتزحزحون عنها فتيلا، حتى إن ماتوا تمرغوا بحب تحت ثراها؟

ذاك أمر ظل يعذبني طول تلك الفترة، وجعلت الأسئلة تسقط علي من حيث لا أدري.

هل العيب فينا أم هو في عشقهم الجنوني لأرض لم تكن يوما لهم، أم أن هذه الأرض تقابل صدا أكبر منه، كامرأتك تتمنع عليك وترغب في وصال الغريب؟