أرى "آمال" ترقبكما في ركنها القصي تعض أناملها تميزا وغيظا، تستعر كأنها مرجل تغلي غيرة وحنقا وهي التي أزجت شهورا طوال تحاول التقرب منك. ولعلك أحسست ذلك منها، كما أحسست شيئا كان يبعدك عنها رغم الجمال الآسر واستعدادها لتمنحك جسدها إن أردت. لم تكن تدع مكانا ترتاده إلا لحقت بك، تقتقي أخبارك، تعدد أنفاسك، تحاول حبسها وتشديد الخناق عليك.
لا تسمع بحفلة دعيت لها أو سهرة تسهرها إلا تراها متأنقة متصنعة لطفا ورقة تخفي بهما حدة طبعها وسوء طويتها. تغازل نفسها دوما رغبة مكبوتة لتلتفت إليها، وتهتم بها. لكنك وككل الرجال لا تحب المرأة السهلة، اليسيرة المنال. كم تعبت في سبيل ذلك. وبدا الامر وشيكا دنيا منها في الأيام الأخيرة، إذ بدأت تلاحظ أنك تلاطفها بكلمات عذبة، وتحاورها بنظرات إعجاب. بيد أن "وعدا" اندرأت عليها ككابوس خزي، تخنق آمالها وتعصف بسالف جهودها. همست صاحبتها في أذنها تضغط كل كلماتها:
- ألم أقل لك إنه حصن حصين؟
- إن كان حصنا حصينا فأنا خير من يقتحم الثغور المحصنة. أقسم لكما أنه لن يكون لغيري.
عادت تهمس مرتابة، ساخرة:
- أشك في ذلك، وأرى الأمر عصيا عليك. أما علمت أنهم يلقبونه بالنحلة لسرعة تنقله من زهرة إلى أخرى. لقد طار بعيدا عنك ولما يحط.
قالت عازمة:
- ولأنه لما يحط بعد فلن يكون لسواي. لقد أقسمت لكما بذلك، وإني مستعدة لأراهنكما.
قالت الثالثة متزلفة:
- ولأني أعرفك جيدا فأنا خارج الرهان لثقتي بدهائك، وسعة حيلتك على استمالة الرجال وإسقاطهم في حبائل الجنون بك. لقد كنت شاهدة على سقوط زينة الشباب. منير الغازي، محمود التلمساني..,..,..
اتسعت ابتسامة "ليلى":
- أراهنك. وسأكسب الرهان عزيزتي "آمال".
أحنت "آمال" رأسها تشجعها على المزيد فأضافت:
- إذن أمنحك شهرا واحدا لتوقعيه، وليعترف لك أمامنا بالحب وإلا فستخسرين خاتما نفيسا، عزيزا عليك، قريبا إلى قلبك.
تساءلت مندهشة.
- ماذا تعنين؟
- خاتم الماس الذي أرغمت الشاب المسكين أن يهاديك به بعدما رأيته عند أمه وأعجبك.
- اللعينة، الحقودة تذكرينه رغم أني لم أضعه إلا مرات قليلة جدا.
عادت تذكرها بموضوع الرهان.
- انفعالك دليل خوفك من الخسارة. انسحبي صاغرة إن أردت، و...
قاطعتها محتدة وهي تصر على أسنانها حنقا وتميزا.
- بل إني باقية على أمر الرهان هذا لثقتي أنه ككل شيء أريده يخضع لي ويصير في قبضتي.
وأذكرك بأنه في حال فوزي، وهو أمر مؤكد، سأربح خاتم أمك الماسي أيضا. على أن يكون ذلك في شهرين. فما قولك؟
صاحت مندهشة هي الأخرى:
- خاتم أمي الماسي؟ مستحيل إنها لن ترضى.
- إن كانت لن ترضى فلا تعلميها، ورتبي إضاعته وسنحفظ الأمر سرا بيننا كما حفظنا أسرارا كثيرة أخرى. هه؟
فكرت قليلا متمهلة، تقلب الأمر على كل جوانبه.
- أقبل. لكن كما قلت شهر واحد فقط.
- شهران.
تدخلت "نعمى" موفقة بين عنادهما وتطرف طباعهما.
- لنجعله شهرا ونصف شهر، والبدء من الغد.
مدت "آمال" يدها إلى "ليلى" وهي تقول:
- موافقة.
صافحتها "ليلى" مظهرة ضيقا وحرجا، إذ أن غيرتها البادية من "آمال" أوقعتها في رهان تعلم أنها بسدارتها وبخلالها العابثة لن تستنكف في فعل أي شيء للظفر به، وبخاتم أمها الماسي الذي أبدت إعجابا به في أحد الحفلات. بيد أن عزاءها في كل ذلك كنت أنت ذاتك، فقد انتبهت إليك فجاة فإذا أنت هائم في تينك العينين، ظمآن لنظرة منهما رغم ارتوائك منهما. وإذا أنت نائم في فراش عينيها، تلتحف بأهدابهما. ليلك سوادهما، وأحلامك بريقهما.
لم يكن تباغض الفتاتين بالأمر الخفي، "فليلى" التي تغار من جمال "آمال" الآسر وذكائها الحاد، كانت سببا كما تحب أن تذكرها دوما في الإرتقاء بها إلى هذا العالم العلوي البراق، عالمكم. وفتحت الباب أمامها للتعرف على قشدة المجتمع وأريجه، إذ أنها تنحدر من أسرة متواضعة. وكانتا زميلتين و"نعمى"، فصرن رفيقات سهرات. ثم إنها شرعت توظف جمالا ظاهريا، وتعمل دهاء أسود. فأخذت توقع ببعض المراهقين الميسورين، وطفقت تقايض مشاعرهم وصحبتها بالعطايا والهدايا. كان شرعها المال، ومبدأها الأوحد في الحياة الابتعاد ما أمكنها عنه فقر رتعت في أحضانه. تربت في كنفه حتى غدت ابنته المتمردة العاقة. لا تقل ألا فائدة ترجى من نقل حقيقة من تكون؟ بل معرفتك بكل ذلك الآن يساعدك على هضم ما حدث معك. سييسرعليك فهم أمور أخرى كثيرة.
واستفقت باكرا ذاك الصباح على غير عادتك. بل إنك لم تنم ليلتك السابقة إلا غرارا. قضيتها متقلبا بين الأماني المرجوة والآمال المنتظرة، إذ كنت كالمشاهد لمسرحية رومانسية تلتقط مشاهدها التي تثيرك. وإثر كل فصل تسدل الستارة فتغفو ولا تستفيق إلا على ناي "كافيسيوس" أو قيثارة "أرستوكليز" والممثلون فوق خشبة حلمك العذب اللذيذ، كانت حركاتهم كفراشات بديعة الشكل والرقص.
أكنت نائما حقا؟ أم أنك كنت في مكان بين النوم واليقظة، بين الحلم والحقيقة، بين الحياة والموت؟ أم أن وجه الممثلة الفردوسي المعتق من سجون حكايا التيه يدعوك في إصرار فما استطعت رده، واستوطن مملكة خشبة حلمك المنفلت من مرايا الزمن اللزج؟
أكان حلما أم أنه حياة أخرى عشتها وتجتر تفاصيلها المتشابهة مع تفاصيل حفلة ليلتك السابقة؟
يداك الممسكتان على مقود سيارتك الجلدي تقودانك إلى وجهة غير معلومة. لم تبال أنت بذلك بقدر ما ركنت إلى أغنية لا تتفق وهدوء صبيحتك تلك.
- آه من قيدك أدمى معصمي!
انتهى بك شرودك وأغنيتك إلى البحر. الأطلسي يمد ذراعه يحضن الغرب المغربي كله. وتلج برفق إلى حي الأوادية الحالم، المسترخي في ذاك الصباح الفاتر. أخذت تتحسس دور الحي بطرفك المستكشف فإذا هو كامرأة قادمة من عوالم سحيقة الأثر ملتفة بالأبيض والأزرق، ترقب الزمن بعين متحدية تقلباته وجوره. امرأة رومانية جددت ملامحها فصارت حصنا مرابطيا منيعا ومنطلقا للجيوش الجهادية. توقف سيارتك في الطلع المطل على البحر. تترجل وتزيح عنك فتورها، لتستقبل برودة خارجية وملوحة مياهه تداعب خياشمك. نذهب دوما للبحر بحثا عن شيء فقدناه. لفرط ما تطوي أحشاءه من أسرار وكنوز. ما أضعت أنت؟ أتراه هناك في قعره ينتظر وصول يدك لتمسك به ظافرا؟
وتنتقل إلى الجانب الأيمن. تطل من هنالك كما تطل الرباط على سلا. وجعلت ترقب المباني السلاوية الملفحة في صبيحتها الخريفية تلك. بدا وجه سلا يشبه وجه بطلة مسرحية أحلامك أو أن وجهها هو من يشبه المدينة. بينهما ملامح غامضة غير مكتشفة وأخرى معلنة. لا تقل لي بأنك نسيت ما فكرت به في تلك اللحظة. لقد تصورت الرباط حياة وسلا قبرا برزخهما الرقراق كصراط بين الجنة والنار. قبر كبير حوى فيما حوى أضرحة أولياء الله الصالحين. "بركاتك سيدي اليابوري".
تساءلت لحظتها وكأنك تستفيق من فورك من لحظة تخدير سلبتك عقالك.
- ما الذي أتى بي إلى هنا؟
وإذا بك تدرك أنك لم تكن وحيدا هنالك.
رأيت عاشقين تشابكت أصابع يديهما، وأنصهرا في منظر آسر، غير آبهين يرقبان بزوغ الشمس. كأنهما يتممان احتفال ليلتهما التي لا تنتهي إلا برؤية الشمس. أو أنهما يمارسان طقسا من طقوس الحب الذي لا تنتهي فصوله إلا بمباركة الشمس.
ما أحلى الحب الذي يحتفي بميلاد الأشياء، ويتجاوز لذة الفراش إلى لذة أسمى وفضاء أرحب!
أكنت على موعد مع هذه العاطفة التي تصادفك أول مرة في حياتك الحالية؟ لطالما أبحرت دون وجهة معلومة. والليلة الماضية أرسى قاربك في ساحل "وعد" الهادئ. ستطأ جزيرتها وستتلف شراعك حتى لا تبرحها أبدا. الأشياء من حولنا على بساطتها عادة ما تمنحنا علامات نهتدي بها في سبلنا، والآن وقد بلغت ما بلغت، قد تعي أمورا أكثر. لقد حضرك يومك للقاء "وعد"، الذي تمنيت أن ترسم معها لوحة العشق العذب بألوان زاهية تبعث في قلبيكما بهجة النبض. كحال عاشقي الصباح. ولأمر كنت تجهله ومازلت، كان يومك الذي استبق ليلة لقائكما مميزا تميز ما أحسسته عند وبعد رؤيتها والحديث إليها ذاك الحديث الخاطف. أزجيته على سحابة ارتقت بك إلى عالم علوي لم تطأه قبلا. لم تكن أنت كما تعرفك، أو كما يعرفك الآخرون. لم تكن غضوبا لأتفه الأسباب، ولم تشاكس "رافان" زوج أختك على عادتك الصباحية في اجتماع مجلس إدارة المجموعة. سياقتك ذلك اليوم لم تكن جنونية. هل كنت تحافظ على حياتك حتى تراها أو لأجلها، كأنك أدركت في أعماقك أنك لم تكن تعتني بك وحدك؟ ربما.
انتبهت مجددا إلى سلا بملامحها الناعسة، فتذكرت أن "وعدا" تسكن إحدى تلك الدور، المرعية ببركات أضرحة أبنائها الصالحين الذين غيبهم ثراها ومازالت أرواحهم الطاهرة تحرس مفارطها. ولعل سحر بنت سلا وبركات أجدادها من خدروا عقلك وأتوا بك هائما على وجهك في مثل تلك الساعة وحيدا هناك. "بركاتك سيدي عبد الله بن حسون". كانت ابنة سلا فيروزة تسكن المدينة تنتظر يدك. فما تراك فاعل؟ أتراك كنت وحيدا؟ كان العاشقان أمامك يتحركان عائدين بعد أن باركتهما خصلات شمس صباحية متثائبة. تبينت في فضول غير مسبوق ملامح وجه الشاب فإذا هو أنت، أو بطل مسرحية أحلامك التي حضرها الملك "أنتيجون" في مقصورته الملكية، يصحبه "زينون" و"كليانتس" وبعض الرواقيين الذين كان يعتز بصحبتهم. وإذا أنت مشدوه، مشدود بخيوط سحرية إلى الشاب. نعم لقد كنت أنت صحبة... حاولت دون جدوى. حالت ذراعه، أوذراعك التي تطوقها من أن تتعرفها وحال شيء آخر دون استمرار ذلك كله. فقد انطفأ المشهد كله أمامك، وكأن ستارة سوداء أتت لتنهي فصول مسرحية أخرى، فإذا السديم يغلف ما حولك. فجعلت تتحسس صوت تنفسك المبعثر. لزمك بعض الوقت لتدرك أنك كنت تحلم. أوَ كان حلمك جسدا لروح حلم آخر بعثت فيه حرارة حياة أصحابه، فإذا هم يتحركون بين ناظريك، وتستشعر أحاسيسهم المتباينة؟
وتتلمس يدك زر الإنارة من على سريرك، وتفتح عينيك فإذا هي الرابعة صباحا. ماذا؟ شهقت من أعماقك: أكل هذه الأحلام عشتها في أقل من نصف ساعة إذ أنك لم تدخل فراشك إلا حوالي الثالثة والنصف؟ ألأجل كثافة كل تلك الاحداث أحسست إرهاقا داخليا عاصفا؟
أسئلة كثيرة انتصبت أمامك تحتاج إلى إجابات لا تملكها (...)
ومن تكون الفتاة التي كانت معك؟ أهي "وعد" أم "آمال" ؟ فلقد شق عليك أن تميزهما وأدركت تشابههما طولا وقدا و انسيابية الشعر الفاحم. كل شيء غريب في يومك ذاك حتى نومك وأحلامك. وصوتي الآن آتيك ليذكرك بما قلته ساعتها وما فكرت به.
لقد حاولت إبعاد أمرها عن ناصيتك. تعللت أن رؤيتها مرة واحدة، أحدثت أعطاباً في طبيعة يومك، وحتى نومك لم يسلم. ثم إنك لا تتشبت بالفتيات. لذلك لقبت في ردهات الصالونات التي كنت مدمنا على ارتيادها بالنحلة. زد على ذلك منطقك الغريب في تعريف المرأة. كنت تشبهها في لحظات سخريتك الدائمة بالبحر. تحبها كما تحبه. ولإن كنت تعشق فيه هدوءه وصفاءه، فقد كنت تكره صخب أمواجه وزبدها. ولإن كنت تستعذب زرقة مائه. فقد كنت توشك على الغثيان قرفا من تصور أمر ملوحته. ثم إن البداية بينكما لم تكن مشجعة فهي كما بدا لك محافظة جدا. وابتدرت اللقاء الأول على قصره، بكذبة كبيرة. أنكرت من تكون فعلا، وكأن الغنى والثراء معرة؟ أية فتاة كانت لتفعل ذلك بقلبك المسكين وتسحبك باكرا من فراشك الوثير إلى هذا الطلع البارد، تطل منه على دور سلا النائمة؟
تريد المزيد، فصبرا وشغل الشريط الثاني.
(يتبع)