الوجه الثامن عشر

23 0 00

كنت لي قبل تلك الليلة، وخلالها، وجها في صورة، واسما تردد كثيرا على مسامعي، وإذا بك بعد كل الذي سمعته، تصير أصل آمالي المنسية، وأحلامي المرجأة. كنت قريبا مني، دنيا من عيني، قبل أن يصيبك ما أصابكم، وإذا بي أدرك أن علي أن آمل في رؤيتك بعيدا عن الرباط. وكان ليلي قد ألقى بي إلى تاونات عشقي الدائم، ومشواري الأخير، ومحطتي النهائية. كانت البداية، ولا أرى غيرها خاتمة. ولما أسفر عني الصباح، وكنت قد غفوت قليلا، استفقت ونامت جراحي، أو أخذت سنة غفلة، وخرجت إلى ابنتي بقراري، فما كان منهما إلا الإذعان والموافقة بل لمست أيضا في طيات كلمات موافقتهما حماسة، وحنينا لأرض، انتقل حبها إليهما بالوراثة، ومن شدة حديثي عنها. لملمنا خفيف متاعنا، وحزمت قلبي في حقيبة سفري الصغيرة وقصدنا محطة القطار، بخطواتنا المبعثرة. صعب جدا أن أجد وصفا لحالتي هناك. لكأن نفسي انشطرت، وقد شق ضفتيها واد عميق فصل شعورين متناقضين، فرحة للقاء، وألم لوداع. كنت جذلى، أكاد أرقص طربا لمعاودة السير تحت سماء تاونات، بيد أن شعور الخيبة والإنكسار لازمني لفراقي سلا، التي لم أنظر لها يوما كشيء مني، أو حسبتني شيئا منها، بل عددتها محطة أخرى، طال مكوثي بها. لم أشعر نحوها يوما بشيء ظاهر، كانت منفاي الإختياري، أنأى به عن الجور، وأدنو به من قطع من داخلي، لكني اليوم، وأنا واقفة على عتبات أبوابها، عازمة على الرحيل عنها، يمتطيني شعور جديد علي ناحيتها، وعاودني شعوري القديم عند مغادرتي تاونات، الإحساس نفسه بالإغتراب، ولكن طريقة إحساسه في المرتين تختلف مع أن مذاقهما واحد.

أكانت سلا وجها آخر لتاونات؟

كانت تاونات من أنجبني، ولما تقطع حبل سرتي إلى اليوم، وظل ممدودا بيننا، موصولا رغم السنين والمسافات. وصارت سلا، حاضنتي، وهي التي تبنت غربتي، وأحزاني، وأدخلتني مدرسة المواساة، ومازالت تلقنني من دروسها. صعب جدا أن أجمع بين الأمين، إلا في قلبي. خرجت من سلا آسفة، وهي متربعة بداخلي، تسكنني كما أسكنها بوجوهها وأسوارها، بشاطئها وتاريخها، بدورها وأنينها، بذاكرتي داخلها وسني عمري التي قضيتها هنالك. كانت سلا وتاونات، وجهين لعشق واحد.

كنت كمن تأكد لديه يقينا عدم العودة إلى مكان نسج معه خيوط المودة والمحبة. وكنت كمن سيودع عالما إلى عالم آخر. أحتضر، أرقب موتي بعين، وأتطلع إلى شريط ما عشت في هذه المدينة بعين أخرى. يمرق أمامي، كالقطار الذي انتظره مسرعا، يخلفه الهدير، وكأن طائري أتاني في لحظة الصحو وحلق بي ذارعا أيامي ومعطلا آلة الزمن، وساعاته، تاركني جسدا إلى جانب ابنتي المنشغلتين معي عن تيهي بلهفة اللقاء، وبعض الحسرة تطفو على ملامحهما.

وكأن يوم وصولي إلى سلا لأسلو عن همي كان بالأمس فقط. لفرط ما يمر الوقت يوم جبنا أزقتها الخاوية، فتلقفتنا "دردورة" وألقتنا قسوتها، إلى "البتول" الطيبة التي وهبت لي أجمل هدية.

بدران ينيران حلكة أيامي. حافزان آخران لمواصلة الأمل في الحياة. سلا، مدينة العطاء والمواساة، تمنحك ما تريد، وتواسيك ما استطاعت، لكنها تسرق عمرك. "شيء لله سيدي مسعود بن سارة.. فك المسجون يتسارة" في كل خطوة ولي صالح، في كل خطوة أمل ورجاء. أيمسها الجحود مني كما مس غيرها الجحود من أقرب الأقربين إليها؟ لست أدري لمَ ألح علي وجه "محمد"، وقد أرخى لحية هدباء، أضرت بوجهه، إذ لم أتعرفه إلا بعد لأي، كما أضرت بمن حوله. ولست أدري، لمَ ظهر لي وقد أمسك قيثارته، لكنه لأمر ما عجز عن العزف هذه المرة، وهو الذي عهدته ماهرا حذقا، فطفقت أخاطبه أو أحاكمه:

- أوتار قيثارتك، حبل مشنقتك، وأنامل عزفك، خانقتك

صوت أنغامك، صدى طلقة استقرت في صدرك

إنشادك للموت، احتفاء به. تهابه أم تقدسه؟

الخوف والتمجيد لا يسكنان وطنا واحدا.

عديدات هن الأمهات اللائي مسهن جحود الأبناء، وانصرافهم عن أحضانهن، وقطع حبل سرتهم بأسنانهم حنقا وغضبا، طيشا وعقوقا. طريقة الجحود تختلف، بيد أن نتائجه واحدة. جحود الأبناء يحرق حقولا أمضت الأم أوقاتا طويلة في حرثها وتبذيرها، ويقضي على مساحة هامة في قلب الأم ولو تصفح. والصفح وردة بلا أشواك. لقائي مع "إبراهيم"، أعادني إلى الجحود، تزرع أرضا بورا بعدما تفني زهرة عمرك في إصلاحها، وبعد جهودك تلك كلها، يأتي غيرك ليستولي عليها، أو تصيبها حرائق لا تعرف لنشوبها سببا.

أأكون جاحدة مع سلا، وقد منحتني ما منحتني، وأنا من دخلتها وابني قفرا، وصحراء جرداء، لا واحة تخضرها؟ أأكون جاحدة معها، إذ قررت الخروج منها؟ ألم أكن كذلك مع تاونات من قبل، وقد تركتها خلفي كل هذه السنين؟ ولكن في كلا الخروجين، أكون مكرهة. ضعيفة أنا أمام الأقدار، وقشة أمام سيولها الجارفة، تلقيني من مكان إلى مكان آخر، دون رغبتي، ولكن ذلك يزيد من تشبثي بأماكن مغادرتي. أكذاك يكون الجحود؟ قطعا لا.

أو لم يكن "إبراهيم" مثلي، ضعيفا؟ ربما.

كان قدوم القطار، حكما في فض النزاع الذي نشب فجأة بيني وبين نفسي. حاكمت في المحطة شاردة من حاكمت، ممن أعرف، حتى إذا انتهيت من الجميع، فرغت لنفسي وطفقت أحاكم أخطاءها، وأدنتها، ونفذت حكمي الفوري عليها، وأدخلتها زنزانتها.

في مقصورة لم أذكر وجوه من ضمت معي إلى جانب إبنتي، كنت غائبة تماما، سابحة في بحر لجي مسجر الأمواج، هاذر الصوت. وألفيت طائري، يسيح فوق رأسي، وتمنيت لو أن الذاكرة، تخف أوجاعها، وتضعف حدتها قليلا حتى لا تجره إليها، وتقذفه في إهمال إلى الأمام، عله يطلعني على ما قد يأتي، ولكن عبثا ما تمنيت، إذا أدركت في قراري أني في قمة هذياني، وأنه لا يستطيع ذلك أبدا، إنما تواجده ينبع من التقهقر إلى ما مضى.

يا لضعفي!

وإذا القطار يطوي المسافات طي السجل للكتاب أعيد قراءته من بدايته. رأيت نفسي أحال على كلمات ماضي عينها، خطوط زمن الرحيل نفسها تطالعني مجددا، وإذا أنا منشغلة عن المسافات التي تقربني من عشي، بهواجسي التي تلاحقني وتعيدني إليه بطريقة أخرى. فاس أيضا محطة من محطات حياتي، وكما كانت بداية مشوار غربتي، أراها الآن بداية النهاية، وهي التي اعتبرتها يوما مستهل انطلاقي. وخرجنا من محطة القطار وتقتادنا سيارة أجرة صغيرة إلى "أبي الجنود" محطتنا الأخيرة حيث سنستقل حافلتنا الأخيرة. فاس، ظلت دوما بداخلي، وإحساس متناقض جهتها كان دوما يخالجني كذاك الذي يجمعني والرباط. مزيج من الرهبة والرغبة، أحبهما بقدر ما أحترمهما، وأخشاهما بمقدار ما أتطلع إليهما. كنت كالغريبة في فاس. لفرط ما تغيرت المدينة، التي أصرت على سجن ماضيها داخل أسوارها، وانطلقت بناياتها السامقة تعلن عن ردائها الجديد. لماذا نصر على إخفاء عتيقنا أمام الآخر، ونعلن جدتنا أمامه؟

لكن أليست تلك الأسوار جزءا من عراقتنا؟ لم أكن غريبة تماما في فاس "المولى ادريس"، فقد طالعني جبل زلاغ يذكرني بأني على عتبات جبال العز والأنفة. كان حنيني يسوقني إلى تاونات يسابق الحافلة التي غبت مجددا داخلها، بيد أن وجوه الجبليين وملابسهم وزعيقهم رافقني في غيبوبتي، ولا أخفيك يا بني سرا، إذا قلت لك، إني ما إن صعدت وابنتي الحافلة، حتى أحسستني فعلا بتاونات. لقد شممنا رائحتها، وأنا لما أصلها، فطفقت أصابعي تعبث بملاءتي الجبلية التي ما كانت لتفارقني في مشاوري الهامة. ذاكرتي الغائبة تجتر للمرة المليون منظر خروجي وابني "عمر"، وحجب الليل تدثرنا. كنت أتمنى أن أعود يوما، مرفوعة الرأس، مستعيدة خطواتي الواثقة كما كنت، وقد انقشعت شمس الحقيقة في سمائنا، بيد أني لم أرغب أن أعود مجبرة، متخفية في أحزاني، وأسرار تنوء بها كتفاي، ومستقرة خلف أمل كبير، أعجز فعلا أن أقدر إن كان يستحق الإيمان، أم هو سراب آخر، يلقي بي إلى ضفة الإنتظار ويحيلني إلى وهاد اليأس.

أترى الآن يا بني، كم يفضحني عجزي وأفضحه؟ عاجزة مرة أخرى أنا عن وصف حالتي، والحافلة تدنو متهالكة من "امتيوة" المنتظرة. اقشعر بدني، وأحسست نبضي يرتفع، حتى إني حسبت أن كل من في الحافلة سمعوا خفقات قلبي، وأحسوا الدماء تتجمد في شراييني، وريقي يتحلب في فمي، وأبصروا اصفرار لون وجهي، وارتداد أطرافي ولم أعد ألمح أمامي إلا أيامي الماضيات تسرع نحوي والدموع تبلل عينيها فرحة بمعاودة اللقاء. أحسست سماءنا الخفيضة دنية مني، وأرضنا الندية ثراها يرحب لمقدمنا، وخلت شجيرات التين والزيتون تبتسم في وجوهنا، وحسبت الزمان بتواطؤ قل نظيره وبجود لم أعهده منه، يتوقف ويدع لي حيزا أشبع لهفي، وأروي شوقي من عشقي الدائم، "امتيوة".

أما بنتاي فقد أحسستهما يقفان بين شعور السائح المستكشف، وإحساس الإبن الضال الذي يعود بعد طول غيبة. استشعرت الثاني يغالب الأول ويصرعه، خاصة ونحن ندخل دار زوجي –جدهما- المهجورة.

دخلت هاهنا دخولي الأول عروسا شابة، أحمل عشقا لرجل كان الإخلاص شارع مدينة بنيناها واستوطنا دورها، وعبرنا بعد ذلك سالمين رغم العثرات، وذي أنا أعاود دخولها عجوزا بالكاد تبصر، بالكاد تمشي، بالكاد تتكلم، جسدها وكر فرت إليه الأمراض، ونفسها حضن العلات والخيبات، بيد أنها تملك ذاكرة من فولاذ لم تمسسها تعرية الزمن وعوامله، ولا تكاد تفوت دقيقة من دقائق ما رأت وعاشت إلا وتستحضرها كاملة، غير منقوصة.

التغيير حاصل هنا أيضاً وأياديه مست بعض الدور بيد أن مسيرته أبطأ، ودار جدك المهجورة تجنبت مروره، وتفادت أياديه العاتية الطولى بمرونة في غير اهتمام.

بعض من أيامي هاهنا على قلتها ترثي رحيلي، وتبكي على بعضي المتبقي في الشتات. ولإن عدت دار جدك دوحا في سالف العهد فقد غدت قفرا، وأثرا غابرا لمن مروا منها.

لكم قضيت من ليال طوال أتصور، وأعيد تصور تفاصيل عودتي، ودخولي هنا، بيد أني لم أتصور أن يكون كهذا الذي أعيشه الآن، وكأني عدت ليلا. وكما خرجت من دار أبي –الذي رضي بزواجي وقضى بعد ذلك مباشرة- دون توديع، أعود إلى دار جدك دون ترحيب. مات من مات، وولد من ولد، وكبر من تركته صغيرا، وشاخ من كان في مثل عمري وأقعد المرض من أبقت الحياة في عدادها يتجشأون تباريح السن، ويجأرون ألما على ما مضى.

ما تنتظرني من أمور جسيمة، جعلت تحول بيني وبين ما بدأت أحسه في بدني من بداية العجز، ولو كنت مطمئنة عليكم يا بني، لأسلمت نفسي للمرض راضية، ولاستكنت خانعة للموت، لكني مازلت أقاوم عل كلماتي هاته تصلك، وتكن مخرجنا مما نحن فيه. خطواتي إلى دار جدك، رغم تلعثمها، كانت حافظة لمسارها، بطيئة، كأنها مشي المآتم، وحقيبتي التي تحمل قلبي، كأنها نعشي. تذكرت يوم حفرت قبر جدك وحملت نعشه وحيدة، في ليلة ماطرة، والأعين ترقبني خلسة. الأعين نفسها أحسستها ترقبني. قدر لي أن أمشي الجنازات وحيدة، دون أشياع.

أما "وعد" و"وجد"، فلحظت في عينيهما التبرم والتراجع إزاء البيت العتيق المتداعي، وكأنهما استخسرتا على نفسيهما الإقامة هاهنا. لا تخشيا شيئا حبيبتي، سنعيد إلى البيت وهجه، وسنضيء شموعه، بفعل عزائمكما.