ازداد اتساع عينيها وهي تنصت له، وهالها تسارع الأحداث وتلاحقها، ولم تدر ما تصنع حيال نظرته الجريئة إلا أن حاولت الفرار بنظراتها فإذا هي تقع على حوض أكواريوم زين بهو المقهى. شدت لمطاردة سمكة سوداء عنيفة لأخرى جميلة اللون صغيرة الحجم. تفر بكل ما أوتيت من قوة وشجاعة. فوجئت بيده تمسك يدها بحرارة كالمستجير بها ثم قال بتأثر.
- لست كما أبدو للجميع. إني أعذب يا "وجد".
شيء أن تكونا أنتما في نفس الوقت في مقهى "الموعد" قبالة بلدية سلا. كان النادل يضع ل"وعد" عصير البرتقال حينما همست مهينمة.
- شكرا.
أتذكر ما قلته لها ساعتذاك؟
- أنا من المجدودين لتقومي بكل هذه المغامرة لأجلي.
خضبت حمرة الخجل وجنتيها، فأضفت:
- هل توقعت رؤيتي بهذه السرعة؟
كان صوتها نغما يهز روحك طربا.
- لست أدري، لكني مسرورة لذلك..
أخذت تكشف لها حقيقة ما تحمل.
- لقد كنت بطلة أحلام ليلتي. منذ فارقتك بالأمس وأنا أتمنى أن أعاود لقاءك، وأنت؟
بدا كأن الدمع سينفرط من عينيه، وأخذت تنظر حولها بانفعال مكبوت، تبحث عن ملاذ، فإذا هو دوما الأكواريوم حيث السمكة الشرسة ماتزال تتعقب السمكة الفريسة بلا كلل. كانت تخشى فعلا أن يكونا عرضة لعيون الآخرين المستطلعة في فضول، فقالت مواسية:
- تمالك نفسك سيد "رافان". ماذا سيقول الناس؟
ثم استلت يدها برفق منه أو حاولت، إذ عاود إمساكها بقوة وضراعة.
- "وجد"، أنا أحبك.
صكت الكلمة أذنيها، قالها هكذا دون تقديم، أو سابق إخطار. لم تظهر عليه أعراض تلك الكلمة كي ينطقها وتصدقها. لم يبد تقربا منها إلا في الأيام الأخيرة. أتراه فعلا كان يعيش فراغا عاطفيا مثلها؟ لقد كان لتوه يريد البكاء، يستجدي عطفا وذلك ما نجح فيه فعلا، أو كاد.
سؤالك المباشر ذاك، أتاها من حيث لم تتوقعه. وبدت الأشياء تركض مسرعة بينكما. لم تكن من جنس كائنات الليل التي تخبرها، يتصنعن دلالا يفقدها أنوثتها. كانت مبتدئة في دور الحبيبة، فطري كل شيء لديها. لم تحاول أن تخفي ما تحس به اتجاهك. أخذت تتفحص عينيك وهي تهز رأسها علامة الإيجاب.
وسحبت يدها بقوة وهي تتمالك غضبا رغما عنها بنبرة صوتها وهي تقول:
- لقد كنت أعلم ما تخطط له. فثق بأنك أخطأت حساباتك هذه المرة سيد "رافان". لست كما تعتقد ثم إنك متزوج...
قاطعها متأثرا:
- وتلك مصيبتي...
قاطعته بدورها محتدة:
- لا شأن لي بحياتك الشخصية. جئنا لنتحدث عن العمل، إذا عاودت الكرة معي سيد "رافان" سأضطر إلى الإعتذارعن سفر أكادير، وليقع ما يقع.
وهبت من مقعدها تاركة كلماتها الأخيرة تائهة بينهما.
- لا يمكنني إيذاءك. ثقي بي.
وتخرج غاضبة، مسرعة وتلقى نظرة أخيرة على الأكواريوم، فإذا الفريسة مواصلة فرارها في عناد واستبسال وقد نالها التعب أمام إصرار الشرسة. أتستمر هكذا في الفرار إلى ما لا نهاية؟ أشك في ذلك حقا.
سماء الحبور تظلل رأسيكما. جميل جدا أن تدرك أن قلبا آخر ينبض بإسمك في كل آن وحين، والأجمل أن تصادف روحا أخرى، تكتشف أنك تعرف تضاريسها خير معرفة دون أن تطأ أراضيها. أكنتما في لقائكما ذاك تحتاجان إلى كلام؟ قطعا لا، وذاك ما أدركتماه، فإذا نظراتكما تتحدث عنكما، وتخرس لسانيكما. قصرت الكلمات أن تسمو لعاطفتكما وشعوركما. كان كل شيء استثناء في ذاك المساء السلاوي، العذب في كل تفاصيله. "بركاتك سيدي لحسن العايدي". كان الحب انتصارك الأول، وانتصارك الأهم في يومك المشهود ذاك.
- حدثني قليلا عن نفسك.
كان سؤالها يطربك، وإن أفاق عليك لعنة كذبتك. تناسيتها وقلت بمرح طفولي بريء.
- إسمي "قاسم"...
قاطعتك وهي تضحك أيضا بعمق.
- "قاسم سعدون"، موظف بشركة. قلت لك حدثني قليلا عن نفسك، ولم أقل أعد علىّ ما قلته بالأمس.
طالعك شبح الأمس مرة أخرى، ورطته، كذبته. لعنت في سرك الكذب ومخترعه وداعيه، وغناك الذي ألقى بك إلى هذه الحافة المدمرة، وفقرها الذي أحرجها أن تصادق غنيا لما تحمل في نفسها عليهم، من أنهم متلاعبون. شبح قد يعصف بهذا الجنين الآخذ في التشكل.
لعلك الآن تذكر جبنك لحظتها. كنت تود مصارحتها لكنك جبنت وخشيت ردة فعلها. وما يدريك؟ فلو صارحتها ساعتها لعظمت في نظرها أكثر، لكنك لست الملام. وإذا بك تخطو خطوات أخرى في مستنقع كذبك، سيشق عليك الخروج منه فيما بعد.
- عائلتي من مدينة فاس.
- ألا تقطن معها هنا؟
- بلى، ولكننا أتينا من فاس.
- "بركاتك مولاي ادريس"، وأين تقطنون بالرباط؟
وشرعت تفكر قبل أن تنطق كقاض شيء أن يحكم على ذي صلة بالإعدام أو المؤبد.
- العكاري.
أترى الآن أن الكذب على صغره، يجر ما هو أكبر منه فالأكبر، مع كل ورطة تحاول الخروج منها إلى وقت لا تستطيع معه هزم الغول الذي صنعته بيدك، أو على الأصح بلسانك.
سماؤكما صافية لا غيم فيها يحجب شمسها إلا هذه الكذبة التي تهددها. تزدرد ريقك، ويصل صوتك إلى أذنيها مرتجفا، كأنك تبوح خيانة باسم عضو سري في حركة ثورية للمخبرين لا باسم الحي المفترض لسكنى "آل سعدون". خشيت أن تكون قد أدركت اضطرابك، ولكنها، المسكينة تراك ملكا منزلا لتوك لتقيم سعادتها على الأرض.
لفرط ما تمر الأوقات السعيدة التي نتمنى خلودها. رفعت رأسها إلى الساعة الحائطية فأجفلت من مكانها إذ كان عقربها الصغير يحاذي السادسة وكبيرها شارد بين العاشرة والحادية عشر.
- متى أراك؟
قلت متلهفا، كأنك وقعت على جوهرة تخشى ضياعها من بين يديك.
- غدا لا يمكن. الجمعة الساعة الرابعة إذا أردت.
- لن أعيش الغد إذا لم أرك فيه. لكن لا بأس بالجمعة. أين نلتقي؟
- هنا إذا أردت.
همست جذلا.
- نعم، هنا.
صعبة لحظة الفراق ساعة أول لقاء. مخاض عسير ستعرفان بعده إن كان الوليد المرتقب سيعيش أم الموت مآله. لكم تمنيتما أن تسمعا صراخه يوما، إذ ما أتعسكما بدونه. تصافحتما طويلا. تذكر الآن أيضا أين أوصلتك لمسة من يدها؟ إلى طلعك تراقب بزوغ شمس العشاق تبارك يومكما.
كنت صاحياً وحلمك مستفيق معك. تعيش من خلاله ما كان عصيا على ناظريك قبلا، سعادة غير محدودة كتلك التي تستشعرها "وعد"، إذ أحست قلبها يرقص بين ضلوعها. لقد كنت أنت فارسا كان يعودها كل ليلة. يمسك يدها برفق. يأخذها إلى عوالمه العجيبة. لطالما حلمت بك. تعرفت عليك بالأمس، واليوم فقط اكتملت ملامح فارسها. حلم صغير وبسيط جدا، أخذت تجتره وهي في طريقها آيبة إلى منزلها. كنت رفيقها دون علمك. عائلتك التي تقطن بالعكاري. تصورت أمك حنونا طيبة. أفاضت عليك من مشاعرها، فإذا أنت تشبهها كثيراً. رأت أباك، متقاعدا بعد طول كفاح. وخمنت أن لك إخوة صغارا، أربعة أو خمسة. كبيرهم كنت لتنتقل الأسرة في خطاك من فاس إلى الرباط. تعرفت عليهم أكثر يوم أتيتم لخطبتها. وعندما سئلتْ هل تقبل بك خطيبا ومن بعد زوجا؟ هتفت في أعماقها بكل قوتها، بكل عشقها، نعم. وهزت رأسها أمامكم خجلى تؤكد قبولها.
حدد موعد العرس، وخضبت الأيادي بالحناء. وثوبت النسوة أجمل ما لديهن. وتماهين مع الموسيقى مع دعوات التبريك. وجلست العروس ورأسها أرضا، تحاذر التطلع في الأعين المشرئبة إليها.
قالت لك قبل أسبوع، أنها تعلم أنك مسؤول عن إخوتك، وأنها لن تكون حاجزا بينكم، وأنها ستسكن معك أنى شئت. ارتحت ساعتها من صراع داخلي كنت تعيشه، وقبلتها في جبينها عرفانا، وأخبرتها بأن لك غرفة ستعجبها كثيرا. قالت ضاحكة.
- لا يهمني شيء مادمت معك، حبيبي.
وعدتك أنها ستعامل أمك كأم لا كحماة، وصرت تعلم كل شيء عنها. علمت أنها فقدت أمها بعد ولادتها وأنها لم تر ملامح أمكما. عذبة هي أحلام الصغار. جميل هو حلم "وعد " على بساطته وبدائيته. كان ذلك أقصى أمانيها في الحياة. زوج تحبه، تمنحه قلبها. تدخلا غرفتكما. لحظة طالما يرقبها العريسان ويستعدان لها. توصد الأبواب دونكما. جالسة هي مرتعشة على كثب سريرها، خجلى من لمسة يدك، مع أن كل جوارحها تتمناها وتقول أنت بشوق:
- ما بالك "وعد "، ألا ترين كم صبرنا لنصل إلى هذه القمة؟
هدأت قليلا، وأخذت تقرأ عليها قسم الأزواج الجدد.
- أعدك حبيبتي بالسعادة ما حييت، وبالحب طول عمري. أعدك.
يد توضع على كتفها. لا، لم تكن يدك. يد أخرى امتدت إليها تنتشلها من حلمها وتجرها من لذة عاشت عمرا تحلم بها.
يد طردتها من جنتك. تلتفت وراءها وجلى فزعة، فإذا هي "وجد"، كاتبة والدك وأختها الكبرى. قالت معتذرة:
- أخشى أني أفزعتك، لكني ناديتك أكثر من مرة دون أن ألقى منك ردا.
كيف للمسكينة أن تجيبها وهي سابحة في بحرك؟ كانت تسمع قسمك ووعدك لها. اضطربت وعادت إلى بعض هدوئها.
- كنت عائدة من الخزانة الصبيحية إلى البيت.
تمشيان صامتتين ساهمتين، متحاذيتين، هذه بحبورها، وتلك بانقباضها. لم تكن تدرك أنهما أختان، ولم تلحظ الشبه بينهما. ملامحهما المشتركة لم تكن لتوقظ داخلك ذلك الشعور، فأنت بالكاد تلقي نظرة خاطفة على "وجد" في الشركة، بينما أنت متيم بأختها. كانتا نسختين عن أمهما. عيونهما الدعجاء الصافية. مسحة الحزن الدفين في صوتيهما. شعرهما المخملي كان طويلا منسابا عند "وعد"، ومشذوبا لدى "وجد". اتفقتا ووجه سلا، خمريا كأسوارها العتيقة. شفتاهما كرحيق مختوم، عند هذه كحبقة طيبة ولدى تلك كسوسنة عطرة. كذاك كانتا، حبيبتا قلبي، لا تحملان إلا الأطايب ولا تتفوهان إلا بما يسر الخواطر. تلجان حي الطالعة، حيث قابلهما المسجد الأعظم، ودعوة "عبد اللطيف الصبيحي" ومن ورائه الحناجر مرددة "اللهم يا لطيف ألطف بنا فيما جرت له المقادر، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر" حدث ذلك بعد أن تنبه لمكيدة المستعمر، فأعلنت اللطيف في كل البقاع. وتجدان "محمدا" كأنه ينتظرها هناك، ونظراته المعاتبة لم يحاول أن يخفيها. فطن لمحاولتها توجيه عنايته عنها. وخمن أنها خرجت معك، بل كان شبه ياقن من ذلك.
(يتبع)