وانتظرت عسى أن يراوحه مرضه فجأة..كما داهمه فجأة..بيد أن شيئا من ذلك لم يحدث..خمس سنوات كبرت الفتيات خلالها قليلا..وأضحت كل واحدة تحاول مساعدتي في العناية بأبيهما إلى أن خبت جذوة الحياة داخله..ولحقت روحه بروح من سبقوه ممن أحبهم وأحبوه..بعدما تمطط ألمه وألمنا معه طيلة فترة مرضه.
" عيشة " يا بني خبرت الموت جيدا..صاحبته وصادقته وحاربته حتى لم يعد يهيبها أو يفزعها..كانت تنتظره وتعلمه قريبا يترصد من تحب في زوايا الحياة وأركانها. لكنه مع "عمر" عذبها كثيرا وأرهقها طويلا وأراها وجها آخر من وجوه تجلياته..لم يكن مباشرا وصريحا كما تعودته ولا جسورا شجاعا كما عهدته..أو عابثا كما علمها وإنما أضحى يسلك معها سبل الإلتواء..والجبن في حركته.
لقد أغاضها..تصرفه مع عمك..داعبنا وقتا طويلا بمكر..وساكنه سنين ألمه الخمسة..وقدم لنفسه طويلا..حتى ألفت سماع صوته ومحادثته..ورؤية وجهه البغيض على قلبها..وتركنا "عمر".
أكان داعي الدم الذي جمعك و"وعد"..بعد أن جرف إلى إمبراطوريتكم "وجدا" دون علم منها ودون إدراك منكم؟ حتى أنا لم أكن مطلعة على ذلك الأمر..وإنما صادفته عن طريق صورة..كانت صورة هزت كياني..وزلزلت نفسي زلزالا قويا عنيفا. لفرط ما نبذر جهودنا للبحث عن شيء أضعناه..أو عزيز افتقدناه..وهو أقرب إلينا من أنوفنا حتى لا نكاد نتبين وجوده..أو نبصره.
يومها أتتنا "وجد"..العاملة وقتها في إحدى الشركات الكبرى..وقد أضحت معيلنا أيضا..وإيجار الدكان الذي عوض المقهى التي رحلت كما رحل أصحابها. كانت الفرحة متلألئة على وجهها الفيروزي..إثر نجاحاتها في عملها..وفي ذلك اليوم قدمت إلينا تحمل صورة التقطت لها مع رؤسائها في إحدى الإحتفالات. وكنت بينهم لكن الذي شدني أكثر..وجعلني أتطلع متفرسة فيه..وجه قريب مني بل هو جزء من ملامح حياتي السابقة قبل أربع وثلاثين سنة..انقضت.
كانت وفاة "عمر"..قد جعلت تعلقي بابنتيه قويا شديدا..ومع مضي الأعوام..بدأ أملي في العثور على "إبراهيم"..يتقلص ويتضاءل فإذا بتلك الذؤابة تشع من جديد..وإذا بها ترسل ضياها كابيا إلى نفسي تدغدغ مشاعر أم فقدت ابنها.
أتتيه أم عن ابنها ولو كان على صورة؟
كان وجهه يجرني إليه..حتى إني لم أنتبه لوجوه من حوله..وكان علي أن أجلد..وأتماسك حتى لا أظهر شيئا ينغص على ابنتي حياتهما..الهادئة..فقلت لها وعيني مركزة على وجهه:
- أهذا يكون مديرك حبيبتي؟
وأشرت إليه..فقالت ببراءة:
- أيبدو عليه ذلك إلى هذا الحد؟
أضفت دون اهتمام لما تقول:
- واسمه كما قلت "إبراهيم"..
أجابت مستغربة نبرتي:
- نعم جدتي..إنه السيد "إبراهيم الشركي"..الإمبراطور.
- الإمبراطور؟
لم أضف شيئا..إذ أخذت كفايتي..وحنيني..والصورة ترتعش في يدي..ولا أحست أنهما غفلتا عن اضطرابي الجلي..وأنا أنسحب إلى حجرتي..أغالب الدمع..الذي انهمر من بعد وبلل خدي. ورغم محاولة إخفاء تأثري الشديد..ورغم مقاومة الدمع الذي تسلل من عيني فقد لحقتا بي تستفسران سبب هذا الذي طرأ علي لحظة رؤية الصورة..فجعلت أرقب الصورة مجددا..وأنظر إلى وجد التي وقفت في الخلف ولم يظهر منها إلا وجهها..ومع ذلك كانت سعيدة بالصورة سعادتها بنجاحات عملها الأولى..فقلت مدارية:
- لقد كبرتما حبيبتي..تذكرت أباكما..من ذا يقول أنه غاب عنا منذ ثلاثة عشر سنة وتذكرت أمكما التي عمر رحيلها..من عمرك يا "وعد"..وتذكرت جديكما..
كنت أود أن أضيف..وابني التائه الذي عاد إلي فجأة في صورة..ولكني تماسكت..كنت أحب أن أستطلع الأمر أولا..وقلبي لا يحتاج إلى مزيد تأكد..ولكن حتى أجنبهما متاهات البحث..وعناءاته..وحتى لا أضيع على "وجد" مجهوداتها التي بذلتها لتحقق ذاتها في هذا العمل..وهي كما عرفتها مثابرة طامحة..وإلا فإني سأفقدها هي الأخرى وتعانقنا في حب وحنين. وضمتني حجرتي تلك الليلة..والصورة دوما معي..والأصل بقلبي محفور..منقوش نبشته الأيام لا أعيى من تفرس ملامح "إبراهيم" ابني..في كل آن وحين..فإذا السنون قد ألبسته وقارا..ووزنا..وجاها. وتساءلت والليل يرد صدى سؤالي:
- كيف لم تتعرف "وجد" على عمها..وهو شقيق والدها التوأم؟
لقد كانا..يقتسمان نفس الملامح كما كانا يقتسمان طعامهما وتنفسهما في أحشائي..هما ورقة واحدة..كتبت عليها نفس الكلمات..عند "عمر" تقرأها من فوق إلى تحت بينما عند "إبراهيم" تبدؤها يمينا لتنتهي يسارا.
كان أبوها نحيفا..رقيق العظم..أما "إبراهيم"..فقد كان وافر البنيان..تراها لحظت ذلك وحدثت به نفسها لكنها دفعته عن رأسها..لعدم علمها بأمر توأم والدها..ولأنها كانت تظنه ولد إمبراطورا ؟
لو كانت أم لتعرفته ولو عن طريق صورة..
أيتها الحمائم النائحة على أغصان الروح..أرويها من شدوك..لتنبت لك غصناآخر تنوحين فوقه
أيا عبرة تتلوى وجعا في لحظي
ثبي من خدرك المهجور..وتمردي
واملئي كأسك..واثملي من دمعك
ويممي وجهك شطر الأحبة..فغدا لقيا الأحبة
وغدا لقيا تلك الأفئدة الصلبة
ولتكن صلاتك ترانيم صمت..ولتكن طقس همس أو نسك لمس في محراب العين
علها تعفوعلى كل المطرودين علها تعيد كل الملاعين
أيا سبية الجوى والنوى
ملي غيرك أنيس وسادة
تربعت يوما فوق جرحي..فإذا أنت سلطانة جرحي
سادية كنت..وسادية صرت..تتلذذين بذبحي
أيتها الليالي المنتشية بعذاباتي الغائرة..انمحي من زمني
فاليوم آتيك فجرلم يسبقه ليل..واليوم آتيك نصر..وفخر..وصدر متوج بألف إكليل وإكليل.
كنت جالسة إذن وليلي إلى جواري..أشاوره في أمري..حتى أسفر عني الصباح..والعزم مستقر داخلي على زيارة "ابراهيم" لرؤيته محاذرة..أن أطلع ابنتي عن ذلك.
في ثوبي البلدي..وخطواتي الجبلية..التي أستعيدها مع استعادة الأمل..خرجت متسللة صباحا..في إحدى خرجاتي النادرة..والفرحة تمتزج بالرهبة مما قد سيأتي. لم أضع كثير وقت وجهد في التردد أو البحث عن العنوان..رغم سهادي..وعناء التفكير في الإبن المفقود..ركبتاي ترتعشان وصدري منقبض لأمر أجهله
أيكون الأمر محض تشابه..ووهم كبير..لاح فجأة في سمائنا..ليعيد تقليب ذكرى بعيدة..وينكأ جرحا منسيا.. وينغص علي حياتي؟
أيخذلني قلب أم فقدت ابنها..وقلما فعلها معي؟
كانت المرة الأولى..التي أعبر فيها إلى الرباط..قضيت كل حياتي الجديدة قبل ذلك اليوم في سلا..أدركت حين روكوبي سيارة الأجرة كم أضعت من وقت وجهد في بحثي عن عنوان إمبراطوريتكم والتحايل على "وعد" لتدونه لي.. والكذب عليها عندما سألتني:
- ماذا تريدين أن تصنعي بالعنوان؟
أجبتها معللة:
- قد نحتاجه يوما..من الضروري أن نحتفظ به.
وعندما حاولت طمأنتي..
- لا عليك جدتي..أنا أعرفه.
كان ردي حاسما..
- لا بأس أن نعرف معا أين تعمل أختك يا بنية؟
اقترنت المهام الكبرى التي أنجزها بوجوب التسلل والحذر..خرجت من البيت قبل أن تستفيقا..وعزمت انتحال عذر إذا ما اكتشفتا خروجي المبكر. وأوصلتني سيارة الأجرة بمجرد ذكر اسم إمبراطوريتكم الشهيرة التي أذهلتني..بناية سامقة..أنيقة..بمرآب كبير..وواجهة زجاجية..وحديقة مشارفة..
أيكون "ابراهيم" حقا مالك كل هذا؟
مكثت غير بعيد عن المدخل..أرقب دخول العاملين وجعلت أتفرس في الوجوه..ولمحت وجه وعد تدخل في سيل دافق..وتساءلت:
- أيعمل كل هؤلاء عند "ابراهيم" حقا؟
لكن أين هو؟ ما باله لا يدخل مع الداخلين؟
كنت ساذبة حقا في تلك الأسئلة إذ لم يملك "ابراهيم" إلا ما رأيت..ولم يعمل لديه فقط سوى أولئك..ولأنه الآمر الناهي فإنه لن يدخل معهم بل سيتأخر قليلا عنهم.
أمر آخر أربكني..أو شخص ألحت علي ملامح وجهه المألوفة في باطن ذاكرتي..ارتبطت بالمكر والحيلة..مرأمامي دون أن يبصرني..كانت ملامحه قريبة دنية من حياة عشتها..وترهقني معاودة تذكرها..كان يشبه أحدا أعرفه..ولا أذكره الآن..أو أني لا أريد أن أذكره. قطع طيف "إبراهيم" حبل تذكري الممدود..فإذا به يمد خطواته اتجاه المدخل..وإذا بي أترك مخبأي وأخرج إليه متلهفة للقياه..وقلبي الذي بشرني بأنه ابني..تتواتر نبضاته..مسرعة..وقد دلني عليه..ولم يخذلني.
- "إبراهيم".
التفت إلي.. وكأنه لم يلحظ تقدمي المباغت نحوه..وأضفت:
- ولدي.."إبراهيم".
ولقد كدت أضمه إلى حضني..ووددت ذلك..لو لم ألحظ نفوره البادي مني..وربكته الجلية..وهو يتساءل.
- ماذا؟
طيلة الليلة الماضية..وأنا أعد لهذا اللقاء..وأتصوره في حضني..ودموع الفرحة تبلل خدي..لكن هذا الموقف لم يخطر أبدا في خاطري.
- ألا تتعرفني..يا وليدي..إنها أنا أمك.."عيشة"..يا بني..أربعة وثلاثون سنة والأمل بداخلي حي لا يموت..كنت أعلم أني سأعاود رؤيتك..ولقد أنفقت و"عمر" أخوك تسعة أعوام..نبحث عنك قبل أن نستقر في سلا.
- ألا تذكرني..يا حبيبي؟
اقترب منا حارس أمن المجموعة في حركة ما بين الهرولة والركض..وظنني إحدى المتسولات..أو صاحبة حاجة عند مديره..الذي سيطرده بسبب تقاعسه وعدم تدخله لإنقاذه مني..وحاول الوقوف بيننا..بيد أن "إبراهيم" أشار له بيده بأن..دعها ومد يده إلى جيبه وأخرج منه..بضع ورقات..وناولينها..دون أن يقول كلمة.
ماذا أقول لك لأصف حالتي وقتها؟ لم أعد أبصر غيرالظلمة التي كحلت عيني..وأخذ الدوار يتلاعب برأسي المفجوعة وتمنيت لو لم ألقه..أو أقابله طيلة حياتي..على أن أفقده بتلك الصورة.
أأكون مجنونة..فاقدة العقل كما أوحت بذلك نظراته التي رشقني بها..خلف نظارتيه السميكتين كسهام تمزقني؟ ولكن هذا الذي يتحرك بداخلي صادق لا يكذب..وهو يقول لي..إن هذا الذي يقف أمامي هو نفسه "إبراهيم" الذي خرج من أحشائي..وأخوه "عمر"..ولإن تغيرت أحواله..وفعلت السنون..ومكانته الجديدة..فعلها..فإنه هو مهما يكن..ظلت يده معلقة في الهواء بيننا..ووريقاته النقدية ملتصقة بها..أحسست بالدماء الساخنة تتصاعد إلى ناصيته..وأنا أضيف:
- لا أريد منك شيئا..يا بني..أريدك أنت.
لم يبال لقولي وهو يعيدها إلى جيبه بحركة عصبية..واستدار يكمل طريقه نحو امبراطوريته مبتعدا عني..وخلاني هنالك مثبتة في مكاني..مشدوهة..بلا حراك أرقبه..والدمع صار جزءا من وجهي. وارتقى بضع درجات..قبل أن يصل إلى باب مجموعة..هنالك..ألتفت إلى وجعل يشخص بي..وقد قرأت خلف نظراته تلك التأثر والحسرة. لقد كان المسكين متحسرا على نفسه..ولست أدري لليوم..داعيه لفعل ذلك معي؟
(يتبع).