"رافان" يحب دوما أن يصيب أكثر من عصفورين بأقل من حجر واحد. ولو علم شدة عذابك وضياعك إن فقدت "وعدا"، إذن لسارع إلى إعمال حيلته لأجل ذلك. ولكن رياح الأقدار حركت أشرعته بحسب ما ترتضيه وتشتهيه. و"وعد" لم ترد أن تظلمك أو أن تحكم عليك دون سماع دفاعك وتتحقق من مزاعم "محمد" لديها. ولعلمها باشتغال "وجد" لديكم، فقد كانت تعلم مقر المجموعة، فقصدت مقرها مرتعشة وجلة من أن يصدق ما جاءها عنك، فإذا إمبراطوريتكم كقدر اقتيدت إليه مجبرة. خطواتها المضطربة تدنو من حارس مرآب السيارات التابع لأمنكم. تسأله متلعثمة:
- من فضلك. أردت السؤال عن "قاسم سعدون".
ابتسم ابتسامة عريضة ذات معنى بعيد.
- "قاسم سعدون"؟ لايوجد لدينا هنا إلا السي "قاسم الشرقي" ابن السي "ابراهيم الشرقي" صاحب كل ما ترينه هنا، وما لاترينه أيضا، و"قاسم بركات" أيضا وهو رجل قريب من التقاعد.
عقد لسانها وشل عن الحركة، وأدرك الحارس ما هي عليه فأضاف ينكأ جرحها.
- على كل حال، لست الوحيدة التي تسأل عنه.
أولئك الموظفون الصغار الذين لا تنتبهون لهم عادة، كثيرا ما يملكون الحقيقة. وحقيقتك رجت عالمكما، وهدّت أركانه فإذا هو هشيم بعضه فوق بعض. وعادت متهالكة متثاقلة إلى سلا المغبونة الجاثية عند أقدام الرباط العاتية، تنوء بهموم لاطاقة لقلبها الهش على حملها. تبكي غدرك وخداعك، وتحترق احتراق شموع المواكب ليلة المولد النبوي الشريف. شمعة وحيدة في عالم مظلم تحترق في صمت تنير ما حولها. المسكينة. كانت كما قالت ل"محمد" يومها لا تملك إلا قلبا واحدا، ولقد أوقفته على حبك فإذا نبضه اسمك. لقلبها باب واحد، لم يدخله أحد قبلك، ولن يفعل بعدك. ولباب قلبها مفتاح وحيد وهو بيدك.
أتعيش بعدك بلا قلب؟ كيف ستتذوق الأشياء الجميلة بدونه؟ ما أقساك!
أين كنت أنت وسط كل هذا؟
ما حدث لك بعد ذلك يدل على صدق مشاعرك نحوها، ويؤشرعلى طيش الشباب وحماقته. ما بعد العصر كان زلزالك الذي رجّ أركان كيانك. لم تدر إلا ورجلاك تقودانك نحو الوادي رغم أنك كنت محتاجا لأن تمشي بضع خطوات في سلا حتى تعرف كيف يفكر هؤلاء الناس الذين أقرفتك رؤيتهم، كما اشمأز قلبك من كل المدينة، وبدوا لك كما الأساطير المنسوجة حول مدينتهم، قبرهم. ومازالت كلمات أغنية تصك سمعك كأنها تعنيك مباشرة "احضي راسك ليفوزوا بك القمان.. يا فلان"
وكنت غضبانا حد الثمالة حتى أنك نسيت سيارتك هنالك.
وإذا أنت أمام الفلاّكة. وشيء للوادي الذي يفصل الرباط عن سلا أن يكون جامعهم حوله، فكان العمل الوحيد الذي يشترك فيه أبناء العدوتين، وكأنهم يقتسمون حدود المنفعة من ملكية مشتركة. ويشتركون أيضا في ملامح حياتهم اشتراكهم في مصدر الرزق الذي كان أيضا مثار نزاع وخصام. وعرفت الخصامات بينهم بالخفة حتى إنهم ليتنازعون صباحا ويسأل بعضهم بعضا عن صاحب الدور في ملء قاربه بعد الظهر. ويناديك الفلاّك بصوته الأبح، ويستقبلك بوجهه المدبوغ وعينيه الغائبتين، وشبه ابتسامة تغضن خديه الذاويين. نعلاه المنقوعان الرخوان يصدران همس أنين شجي.
ما أسرع ما تجد نفسك في الضفة الأخرى! أكانتا حقا منفصلتين ومتقاربتين بتلك الصورة الغريبة؟ كأنهما عشيقان قريبان رغم ما قد يبدو حاجزا بينهما. كانا متلاصقين في أعماقهما.
أكان الرباط أميرا أحب سلا الفقيرة ابنة الصياد، وحال بينهما الوشاة بإيعاز من حاقد سخر ضدهما ساحرة عجوز، ألقت عليهما عملها الشيطاني الأسود، فإذا هما منفصلان إلى الأبد بفعل سحرها الرقراق الخالد؟
وتخترق شاردا فضاء حانة حقيرة من ثلاثة طوابق، وكأنها منازل لمرتاديها، فلا اختلاف في حقارة طوابقها الثلاثة، ولكن دركات الحقارة والوضاعة والدناءة تختلف.
طابقها السفلي أشد حلكة ومقتا ورعبا، يليه العلوي ثم الأوسط الذي يستقبلك مباشرة لدى الباب. وكان من استقبلك أول عهدك بحانة "طاهيتي" عجوز مطلية الوجه، بابتسامة بدينة خلف المشرب، واضعة كأسا أمامك، تحثك بإغراء بائد على مقاومة التردد. كم هي مرة علقمية كأسك الأولى، ولكن ألا يصير بعدها السائل نقيعا عذبا يخطف لبك ويقودك لاكتشاف الطابق العلوي منتشيا ثم ترتقي إلى السفلي ثملا؟
كم يحلو للندماء أن يتلذذوا بحكايا إخفاقاتهم؟ وكم من حكاية تلتقي اشتباها بتلك التي ربطتك و"وعد" ذات ليلة؟
- لا ثقة بالنساء يا ولدي، خذها نصيحة من مجرب.
رماك بها أحد المجربين في فن المجون، نفذ إلى أعماقك وعلم ما تكابد في صمت.
- المرأة شر كلها.
يلقي بها آخر، فتعالجه العجوز وتلكزه مجيبة:
- وشر ما فيها أنه لابد منها.
يندفع وهويضيف غاضبا مستعرا:
- أنت شر كلك ولا أحد بحاجتك غير السكارى. آلقح...
ونشبت معركة صغيرة بينهما، حصيلتها كدمة في عينه اليسرى، ورضوض جراء إلقائه خارج الحانة. سيئة هي الحانات التي تضع ساعات على معاصمها. لفرط ما يمر الوقت هنا. وعند منتصف الليل تخرج مع الزبائن الرسميين فتكسب معهم رسمية منشودة بعد أن غدا ذلك حالك كل ليلة. ولم تعد لسلا إلا يوما واحدا استرجعت فيه سيارتك، وظننت أنك نسيت "وعدا" ابنة سلا.
ما أغباك! عذرا. ذهبت إلى الحانة واعتصمت بصخبها بحثا عن الهدوء والصمت للتفكير فيما آلت إليه أوضاعك. مسكين أنت. وغصت في أعماق الفوضى تبغي تنظيم أفكارك. وبينما كنت تود طمس معالم سلا وابنتها معها من ذاكرتك تجد ثمَّ قلوبا مكلومة، فنكأت جراحهم وأوغرت جرحك.
صاح قلب دام:
- أشك دوما أن النساء ما وجدن إلا لتنغيص حياة الرجال.
وإذا بمتفلسف واثق:
- المرأة زهرة جميلة الشكل، والأجمل أن تنظر إليها. تخفي أشواكا غير ظاهرة، تباغتك متى دنوت منها وحاولت لمسها. تلك هي المشكلة. تغويك إليها وتشقيك إذ قربتها.
ويتفكه آخر:
- زوجتي عجوز كساقيتنا هاته. كنت أحار ماعساني أقول لها فرارا من مضاجعتها. تتدحرج الأعذار أمامي، وتسقط على رأسي من عل دون أن يوقفني أحدها أو يفتنني. وفجأة ينتصب أمامي طيف عذر ساخر، ويخرج صوتي كالمستحيي.
- معذرة سيدتي، إنها العادة الشهرية.
ويغرق المكان في ضحك محموم مبالغ فيه أحيانا. بعض الأفواه تشرع من ضحك أفواه أخرى.
ويقفز صوت من فم مهشم.
- زوجتي، عدوي الدائم. أفر قدر استطاعتي من البيت الذي صار حلبة صراع لاتحكمها أحكام ولاتضبطها قوانين. لانتفق حتى على أبسط الأشياء. تصوروا معي أنها حين وضعت إبننا البكر، كنت أريده أن يحمل اسم والدي "محمد"، بينما أصرت الملعونة على اسم آخر "علي"، ولست أدري من أين أتت لي به؟ المهم أنه وبعد طول صراع، وأخذ ورد، ولكم ورفس رسينا بتواطؤ على "محمد علي"، فأناديه "محمدا"، وتناديه "عليا"، بينما تذكرنا شهادة ميلاده اسمه الكامل، وأدركنا متأخرين أنه كاسم أشهر ملاكمي التاريخ، واحترفنا الملاكمة بعد ذلك نحن أيضا، وأنتم ترون نتيجة ذلك، فمي الذي أسقطت كل أسنانه.
كنت تنصت لحكاياهم ومجونهم معتصما بصمت قدّ من مملكة الأموات. ماذا كان بوسعك أن تقول؟
- الحب شعور جميل، والخيانة أسوأ ما في المرأة، والضحك على الذقون أحط ما قد يتعرض له إنسان.
ليجيبك خبير في شؤون الخيانة:
- ما استضفت امرأة في فراشي إلا وأقسمت أنها تفعلها لأول مرة، مع أنها وبعد مدة تبكي رجلا خائنا غدر بها إذ قضى منها وطرا.
وكأنك لا تعلم قط أن بعض النساء خائنات، وأن من النساء أمهاتكم وأخواتكم وزوجاتكم وبناتكم، وأن بعض الرجال خونة وإن كان منهم آباؤنا وإخواننا وأزواجنا وأبناؤنا، أم أن الحسنة تخصّ والسيئة تعمّ؟
ويصيبك الندم صباحا وتمسك الربكة مساء. فتصيح:
(أعلم أن صباحي عنوانه الندم، وأعلم أني ضعيف منقاد إليه بيأس، فلمَ لا أعيش ربكتي الحلوة كاملة أو سعادتي المغنمة مطلقة دون أن أسمي الأشياء. ألا توجد في النهاية أشياء بلامسميات؟)
وتجيب معاندا:
(بلى.. إذن فافعل ما شئت وليذهب الجميع إلى الجحيم، واندم على كل شيء صباحا ولكن ليس الآن، وإلا عشت ندمين).
تراك كنت تضاجع أفكارك دون أن توقفك قوانين أو أخلاق وضعناها وتعارفنا عليها خدمة لنا، فإذا هي أغلال في أعناقنا تطوق حركاتنا والسكنات.
كان حبكما وجاقا. ناره وصل وانتظار. آنيته سعادة تغرفان منها أوقاتا أحالتها الأقدار طيفا يظلل أيامها السابقة متى أطلت من نافذة ماضيها القريب، والعبق بشذا نسائمك. ملاذها البحر حيث شهدت ذرات رمله خطوات حبكما الأولى، تغني لك بصوتها الطروب:
" يا موجة غني يا بحر غني كيف اللي سايب محبوب متهني
على البحر نغني".
معك سما حبها للغناء وازددت عشقا للموسيقى بجانبها. لعلك تذكر يوم سألتها إثر تلك الأغنية السلاوية التي برعت في شدّك إليها.
- ماذا تمثل لك الموسيقى؟
- هي عشقي الثاني، أو لنقل إنها وجه حبي الآخر للحياة وللناس.
وانطلقت مسترسلة أنها ترى الأغنية ككائن حي. كأنت وأنا قالت. الكلمات عمودها الفقري، واللحن لحما يكسوها، أما الأداء فروح تحرك هذا الكائن الفني ومعه أرواح من يسمعونه إذا كان جيدا ولم تصبه إعاقة في أحد أطرافه. كانت أصيلة في غنائها مطهرة للأعماق والأسماع، تشفي كل ما يصيبه صوتها بعد أن عمّ التلوث الأسماع والأغنية. كنت هناك في حانة "طاهيتي" الحقيرة التي أدمنتها لأمر أجهله، تتجرع كؤوس الفشل المترعة، وتجتر خيبات وهم الخيانة. وكانت تبكيك في الشاطيء السلاوي. صارت الدموع جزءا من وجهها، فقد بكت المسكينة كثيرا، وناحت طويلا حتى لا تكاد تخلو مسامة من مسام وجهها إلا ونزّت عبرة استقرت بها، واستوطنتها.
كانت "آمال" تعرض عليك جسدها الفتان فوق طبق عاجي، وأهدتك "وعد" روحها كاملة فماذا تفعل وقد ملكتك زمامها وما عاد لها تصريف في أمرها؟ أخذت تناغي البحر وتناجيه مجهشة، وتتمثل صورتك فيه. ثم إنها ارتجلت:
لا تسلني عنهم.. فقدت ذكرهم..
ذات صباح.. بين تلك المحايا.. بين صراخ ونواح
ذات صباح.. مروا من هنا.. لعلهم هناك
فلا تسلني عنهم.. فقد فقدت ذكرهم
ذات ليلة.. والأرض المسكينة.. حزينة
ذات ليلة.. على تلك المقل العليلة.. بلا حيلة.. قتيلة
جفت شرايينها.. عليلة..
تستجدي واردها.. قتيلة..
ذات ليلة..
لعلهم هناك.. أو هنا
واروا أبدانهم.. تحت أحزانهم
فلا تكترث لهم.. فقد أضاعوا فجرهم
وفقدت ذكرهم.. فلا تسلني عنهم.
نضبت عيناها إذ استنفذت عبراتها. تغيرت حياتها كما تبدلت حياة من تحب. سوء فهم منك رماكما إلى ما أنتما عليه الآن، ولو استعلمت لكان خيرا لكما. أيعقل أن تظن أنها و"محمدا" عشيقان؟
(يتبع)