كان الطبق بين يديها، ونظراتها تكاد تأكل "عمر" حتى لكأنني فهمت أنها كانت تنوي أن يمتد كرمنا لدعوتها معنا لتختار هديتها بنفسها. الخفيفة الظريفة! لو تجرأنا على ذلك لأفزعت كل من في الطرقات، ولأخليت رعبا منها. ما أوسع طاقة تحملنا ! قالت بصوتها الحنون:
- مساء الخير.. سيدي "عمر".
لم يجبها، وكان التضايق باديا على وجهه، ولم يحاول إخفاءه من طريقة دخولها علينا. لم تكترث له، وقالت موجهة حديثها لي:
- جدتي تقرئك سلامها، وتبعث لك من فضل خيركم يا خالة.
يا لأدبها وحسن تأدبها! جدتها تبعث لي سلامها ورائحتها مازالت تعطر حجرتي، وكأنها تبعث لي سلامها من العمرة! وفي أثناء خروجها ترشق "عمر" بسهام نظراتها في دلال فياض مبتذل. علمتني "جميلة" تلك الحذر في أقصى درجاته، لذلك حين همّ "عمر" أن يعاود فتح باب الحديث معي عن صدق قولي، وعن كيفية علمي بأمره، أشرت إليه بالصمت وأخذت أغير دفة الكلام حتى يغدو عاديا لا يثير أذن متلصص.
ليلي محيطي، ونفسي سفينة تمخره. تحاول البحث عن الضفة الأخرى. الضفة المفقودة! وعندما ألجه مرغمة كرسالة دون عنوان، أبحث عن مرفإ أجعله ضفتي، لكن دون جدوى. تعيدني سفينتي حيث بداية الرحلة. لامستحيل أعترف به. أعاود الكرة في حلمي الإرادي المقبل وأكررها في كل ليلة عبثا. ولكن لا مستحيل أعترف به!
أرفرف جفني وأوصوص عيني في الظلماء أبصر أنفاسه المنتظمة. أمد إليه يداً مرتعشة أحاول أن أوقظه. أهمس له محاذرة أن تلتقط حديثنا أذن ساهرة فتكون نهايتنا.
كان الاضطراب جليا على وجهه. اخترقته عيناي مع همسي له في هدأة الليل وحلكته. ولم يكن سبب اضطرابه تنغيصي لنومه الهادئ، وإنما لما حمله له صوتي من مكيدة "دردورة" والجزار وابنته. ومع حرصي الشديد وحذري الأقصى، لم أضئ الحجرة، وهي قاعدة في الحروب، فالأضواء المنارة عند الليل، أهداف سهلة للقنص من عل. ولم أرد أن أكون وابني هدفين لغارة غير متوقعة.
ومع الغبش الزاحف إلى حجرتنا تنبولا، ومع بوادر يوم جدي، تسللنا خارجين نطارد الظلام الفار منا في جبن ورعونة حذرين من أن نصدر أصواتا تصل أذان الأعداء، إذ الأذن عين الليل، وهي قاعدة عسكرية أخرى، وقد صرت خبيرة عسكرية من حيث لاأدري، كما صرت خبيرة في أمور أخرى كثيرة مع هذه الأسرة الفتاكة.
كنت أعلم أنه لابد مما ليس منه بد، علمي بأن غايتنا الكبرى فك الحصار الذي يطوقنا والإبتعاد قدر استطاعتنا عن هذا الحي الذي خلفناه وراءنا يغط في نومه العميق. وصرت كلما ابتعدت عنه إلا واستشعر دفئا في أوصالي رغم برودة جو الصباح، كما أحس انتعاشة روحي رغم حرقة المجهول الذي نقصده مسرعين. أين ترانا نذهب في هذا الصباح؟
أكان ينفعنا الفرار من المجنزرة وابنها وحفيدتها؟
أمسك "عمر" بيدي، وقال في شبه إصرار، لكن بهمس.
- نذهب إلى بيت مشغلي وإذا روينا "للبتول" مشكلتنا ما أراها تردنا.
لم أكن قد رأيتها من قبل..ولم أسمع عنها إلا منذ وقت قصير عندما أخبرني "عمر" في حديثنا الليلي الهامس عن حبهما..وأنه كان يتحين نهزة من وقت لمفاتحتي..ومحاولة إقناعي..للذهاب وخطبتها له.
ارتفعت أصوات المآذن..في سماء سلا تحث الناس أن "الصلاة خير من النوم"..وإذا بعض ملبيي النداء..يحثون خطاهم إلى المساجد..كنا قرب بيت مشغله..وإذا يد "عمر" تهز مطرقة بابه محاذرا أن يتجاوز صوتها أذنا "البتول"..وأطياف المصلين تتعاقب علينا..تذكرني بزوجي..الذي حرص حياته كلها على صلاة الصبح..لم يدعها يوما دون تأديتها في المسجد..وأذكر يوم كان مريضا معتلا..لا يستطيع الحركة إلا بوهن وبعد طول عناء..لم يقدر على إضاعة صلاة الجماعة..بعد أن وصله صوت المؤذن..بعبارته الشهيرة..وقام متحاملا على مرضه حتى بلغ المسجد..ودخل مشواره النسكي الصباحي في خطة أعدائه المتربصين به..لعلمهم بعاداته..كان ذلك جدك يابني الذي يصر على قراءة حزب عند عودته عاملا بالآية الكريمة "وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا".
لم نمض وقتا طويلا عند الباب حتى لاح لنا وجه "البتول" من نافذة حجرتها المطلة على الزقاق والإستغراب باد عليها..إذ لم تتعود أن يأتيها "عمر" باكرا..قبل موعده..ثم إنه برفقة امرأة ملتفة في ملاءتها البدوية..فدرجت إلينا مسرعة..وفتحت باب بيتها والدهشة لازالت تسكنها..ولم تزايلها وترحل عنها إلا و"عمر" يقدمني إليها. وأخذ "عمر" يروي لها تفاصيل الذي جرى معنا..فقالت بصوتها اللطيف..
- ثقي يا خالة..ألا أحد يستطيع الوصول إليكما..هاهنا.
قال "عمر":
- تدبري لها المقام معكما حتى أبحث عن مسكن جديد.
قالت محتجة:
- دبر مسكنا لك إن أردت أما أنا فلن أدع خالتي تخرج من هنا أبدا.
وضمتني إلى صدرها بحرارة وشوق..فلثمتها في جبينها امتنانا على غمرة حبها البادي..أنفاسها العطرة..تألقت مع حاسة شمي النشيطة..وهي بعد قائمة من نومها..أدركت هنالك ما كنا فيه..وما صرنا عليه.
ماذا أقول في وصفها؟
وهل يستطيع اللسان أن يصف كل ما تشاهده العين..وتقع في حبه الروح؟
كانت فيض حنان دافق..ومبعث نور لا ينطفئ..زد على ذلك أني ارتحت لها بسهولة ويسر..قلما حدث معي أمام مخلوق..ولا يخيب حدس المرأة أمام المرأة..وباركت حبهما..وزكيت اختيار ابني للملاك المنتصب أمامي.
أخذ "عمر" المفاتيح وقصد المقهى يفتحها مبكرا..بينما صعدنا نحن إلى غرفة "البتول"..المرحبة ببشاشة وجه..كانت سعادتها بي لا توصف..وحرصها على إراحتي شديدا.
كانت تشبه "وعدك" حد التطابق..عيناها الصافيتان..نافذة تلجها إلى أعماقها..فتكتشفها دونما حاجة إلى دليل أو مرشد..وتتعرف على جغرافية نفسها الساحرة.
وكنت تشبه "عمر"..في تلبية نداء الحب..الذي ارتفعت به مآذن القلب.
لإن دعتك "وعد" من رباطك..فلقد لبى "عمر" نداءها من تاونات..وكل ماحدث معنا كان من المقدرات..وكانت سلا تحضن قلبيكما..ومع جلوسي إليها أدركت البون الكبير بين "ليليان" ابنة الفاجرة..والمجنزرة القاتلة..وبين "البتول" الوديعة..كانتا في كفة رغم سعة حيلة الأولى..وجمالها الظاهر..ورغم ثقل وزن الثانية..وثراء أهلها..وكانت كفة "البتول" هي الراجحة..إذ جمعت بين الجمال الظاهر..وصفاء الطوية فرق كبير بينهما..وبينها..وشتان مابين الثريا..والثرى. وأدركت أيضا وهم الحب الذي كان سبب حزن "عمر" الجلي عند خروجنا الأول كما علمت سبب دره منه وشفائه بعد تعرفه على الحب في أجل معانيه..وأصفى صوره. ووصل إلينا ونحن جالستين في غرفتها..سعال بدأ منقطعا..ثم صار متلاحقا بشدة وقد انبعث من حجرة مجاورة..وصوت واهن يسأل.
- "البتول"..هل من أحد معك؟
استأذنت مني للخروج وهي تقول بتأثر:
- اعذريني يا خالة..إنه أبي وهو مريض..سأخرج أجيب دعوته..وأعود إليك بعد ذلك.
جمال..وأدب..وتأدب..نعم البنت كانت!
وبعد وقت مر علي سريعا..عادت إلي مقترحة أن أدخل عليه لأراه..ففعلت من دون تردد..فإذا هو في الستين..راكن إلى سريره كان صدر حجرته المتواضعة. كان جبارا كما قال "عمر" عنه..متسلطا على كل الذين مروا من مقهاه من نادلين..وكذا كان معه في أيام اشتغاله الأولى التي تحملها بجلد..قبل أن يفاجئه المرض ويدنفه ومع..اكتشافه وفاء " اجبيلو " الذي ما تأخر عن أداء مداخيل المقهى كل يوم كاملة غير منقوصة..بأمانة قل نظيرها..وارتفعت أسهمه لدى المشغل..وجعل يحترمه ويقدره فما أن رآني..وسمع عني حكايتي حتى هش لقرار "البتول"..وأخذ مني وعدا بالبقاء مع "البتول"..وبتزويجها من "عمر"..وبرعايتهما معا. وكانت تدرك من احمرار عيني..ومن تغضن وجهي..تعبي الشديد وحاجتي المضطرة إلى نوم عميق دون خوف من غد قد يحمل معه الخطر لابني ولي..فخلتني لنومي الهادئ..واستفقت عند الظهيرة..خرجت أبحث عنها فإذا هي بالمطبخ..شغلت بإعداد كعك..وزلابية..والمخرقة..والم قروط..المسكينة علمت ما كانت تفكر به ساعتها أرادت أن تريني حنكتها كامرأة بيت..وأنها فعلا تستحق ابني..لغة نسائية قديمة..شددت يدها بحرارة..وأنا أقول:
- لا أريدك..أن تنظري لي كحماة..أو أن تعامليني كذلك لقد عرفت هذا الصباح من تكونين فعلا..فاعلمي أنني أعدك ابنتي التي رزقت بها بعد طول عمر..دون عناء الوضع..فاقبليني أما لك.
ارتمت في أحضاني..دامعة العين..وضمتني إليها بقوة وحرارة..ومنذ ذلك الوقت وهي تناديني..أمي..وأدعوها..ابنتي ..ولأمر ما عددتها "إبراهيم" الذي أضعته عن سوء طبع..واسترددته في شكلها وصورتها.
وعلى المحبة كان عيشنا..استعدنا فيه حلاوة الحياة..من غير غصة إلا البعاد عن الأوطان..واشتدت الأواصر بيننا لدرجة أني وثقت بها كثيرا..وأطلعتها على قصتنا الجبلية كاملة..وكانت أحاديثنا تدور حول قبيلتنا..ولحبها الشديد وقربها مني..حين..وضعها لزهرتها الأولى..عند سؤالها عما تريد أن تسميها قالت دون تردد.
- "وجد"..يا أمي.."وجد".
سألتها مستغربة.
- لماذا "وجد"..يا ابنتي..و"وجد" لمن؟
قالت كلمة واحدة بإصرار:
- تاونات..
وكان والدها يخال نهايته دنية منه..قريبة..وكنت أرى طيف الموت يرقد جانبه..بيد أننا أخطأنا تقديراتنا جميعا..إذ عاش بيننا حتى رأى حفيدته الأولى وشهد موت "البتول" في وضعها لحفيدته الثانية..قبل أن يلحق بها متأثرا..مطمئنا عليها..معي و"عمر"..الذي سألته حزينة إذ توفت زوجه.
- ما تختار لابنتك من إسم؟
أجاب دونما تردد:
- "وعد"..يا أمي.."وعد".
سألته مستغربة لاختياره:
- "وعد" بماذا ؟ ولمن يا بني؟
قال بإصرار عجيب..لازال صداه في أذني.
- "وعد" بالوفاء للأحبة..
الإبن من فصيلتي..حيث الوفاء لذكرى الأزواج..الحب الأول كان آخر عهدنا به وبذلك انطوت صفحة من حياتنا ميزها عذاب..وفراق..وفرار..وجعلنا نقرأ صفحة أخرى بكل أسى..على من مات..وغاب عنا..يضيئها..بدران.."وجد" و"وعد". كنت في تاونات أما لابنين امتدت يد المنية إلى أبيهما..وأنا ذي في سلا..أم أيضا لبدرين متألقين..امتدت نفس تلك اليد إلى أمهما. وكما أعطيت للأولين حبي وعطفي..سقيتهما من خالص حبي وحناني..كما ظل يعب كما كان على الدوام "عمر"..الذي كان مسؤولا عن المقهى..مصدر رزقنا الوحيد..وملتقاه مع "البتول" الطيبة التي رحل عنا أبوها بعدها بأشهر قليلة. ومع انصرافي المطلق إلى "وجد"..و"وعد"..غفلت عن أدق أحوال أبيهما..الآخذة في التغيير يوما إثر يوم..وأحسسته يبتعد عنا مع الوقت..ويطيل صمته..ويمعن فيه. إلى أن أتى يوم ذهلنا لمرضه المفاجئ..الذي لم تظهر له أعراض بينة..ولا قدمت له مقدمات صريحة. هوى في المقهى..فإذا هو غائب عن وعيه..غارق لوحده في بحر الشرود المسجر الأمواج..حاولت مد يدي لإنقاذه بيد أنها لم تكن تنفذ إليه..وغابت نظراته في لا شيء..لا يكاد يحس بوجود أحد أمامه ولا يتعرف على أحد ويستجيب لدعاء قريب. زرنا الطبيب غير ما مرة..ولكنا في كل زيارة..تطالعنا علامات الجهل والحيرة..ولم نملك إلا سلك طريق الانتظار.