الوجه التاسع عشر

20 0 00

كنت وقتذاك كهذا البيت المهجور، مقفرة الظاهر، بيد أن جوانحي كما جدرانه العتيقة ملأى بمشاعر الحنين الدافئة. ادخلا يا ابنتاي ولا تخشيا شيئا فإني كفيلة بضمكما، وضم كل عابر لأرضنا.

وكانتا تخشيان أن تستوطن بيتنا العتيق الحيات والأفاعي، كما ترقد في جوانحي الآلام والخيبات، وقد سمعتا كما سمعت عند دخولنا خشخشة بين متاعه المهمل ولاحت خيوط العناكب بزواياه، كحصون لها، وفخاخ لضحاياها. وكان علي أن أبدد مخاوفهما، وأطرد هواجسهما، وأعينهما على خلق ألفة مشروعة مع بيتهما الموروث، فتقدمت بخطوات همة وجسارة لا تتفق وسني وجبني المدفون، وطفقت أزيح بعض المتاع المغبر المرمي بعشوائية، وكنت أنتظر أن أجد أي شيء، إلا ذاك الذي وقعت عليه عيناي، وما اكتشفتاه معي، والبغتة مرسومة على ملامحهما.

لن أنسى في ما فضل لي من عمر تلك النظرات التي أخذت ترمقني بها تلك الكلبة التي اتخذت من البيت المهجور ملجأ لها، ولجرويها اللذين كانا منشغلين عن دهشتنا وربكتها بلبنها. نظراتها كانت مزيجا من الخوف والإستعطاف. خوف، لا تقدره حق مقداره إلا أنثى تدرك أنه قد يتحول إلى شراسة للدفاع عن فلديها. واستعطاف، تعرفه الأنثى أيضا، شعور المخلوق الضعيف، الذي قد يتحول سبب ضعفه إلى مصدر قوته. تذكرت حينها حديث روح الجبل الذي جمعنا والحيوان حينما قال بأننا نملك أرواحا حساسة، وعدت لتذكر الصرصر الذي قدم لي فرصة للنجاة من بدانة "دردورة" وابنتها، حشرة صغيرة علمتني درسا كبيرا بعدما تدبرت في سلوكها وتقربت منها وتأملتها، والآن ذي كلبة مرضعة تمنحني نظراتها، وتحفزها المستتر خلف ضعفها البادي درسا آخر للقوة الكامنة في الضعف، وأعطتني شحنة أخرى للتشبت بالأماني على بعدها وهي الآن صاحبة فضل علي، في أن أزيد في إقناع "وجد" و "وعد" بضرورة المكوث ها هنا، بل وفي العمل لنعيد له حياته السابقة، قبل أن يرتد عنه أصحابه بالجبر كل إلى وجهته.

كانت صاحبة فضل كبير علي، لأن ما حدث بعد انصرام صدمة الاندهاش الأولى لم أكن أتوقعه منهما إذ لحظت تبرمهما الجلي، فقد اندفعتا مستبشرتين بما رأتاه، وعلامات العطف، والدعة بادية عليهما وأحست المرضعة ذلك منا، فاستكانت ليديهما بثقة، وهي تداعبها وجرويها. وقامتا، إثر ذلك، بمثل همتي ونشاطي، وطفقتا في إعادة ترتيب ما بعثره الزمان وطول الهجر، حتى يليق بالجروين وأمهما.

كانت إعادة إعمار البيت تتطلب منا جهدا وزمنا يعادل مدة هجره، بيد أن همتنا وشوقنا والتغير المفاجئ الذي تبدى بعد أن أحست نفسيهما مسؤولتين عن الأم وجرويها، زاد من حماستهما، وقرب المسافات البعيدة، وأعاد للبيت روحه وأنفاسه، لكن أتعود له أيامه الماضيات؟ أشك في ذلك حقا!

لم ألحظ مثل ذلك الألق في عيني حبيبتا قلبي من قبل، فقد أحستا بروحيهما تؤوبان إليهما بعد أن فارقتهما مددا طويلة، وتحققت الألفة التي راهنت عليها ونسيتا شعور الغربة الذي تجرعتاه وهما خارجتان معي من سلا، مذعنتين. وألفينا "امتيوة" ، وجها آخر لحينا، كما أن تاونات وجه سلا الثاني، ووجدتا دار جدهما، صورة أخرى لبيت جدهما السلاوي. ولاأخفيك غبطتي وقتها رغم تعاظم الكروب، فقد أحسستني أولد من جديد، ولا أظنهما إلا أحستا الشيء نفسه. انطباع غريب تمنحك هذه الأرض، إذ تجذبك إليها بقوة، ودون مقدمات، فتجعلك تسلم لها، وتحس أنك جزء منها. وتبددت إذن أحاسيس الغربة، والجبر والواجب التي كانت لديهما مسبقا وهما تذرعان سلا، في أسى مكبوت وألم مدفون. كان ذلك يصلني رغم غياباتي وانشغالي عنهما، رغما عني كان يصلني. نظراتهما التائهة، ونحن في القطار الذي خالتاه يقودهما إلى المجهول، ولقاؤهما مع ماضي أجدادهما، حسبتاه نقطة عظيمة، غامقة اللون، لاتدركان ما ينتظرهما خلالها حتى حديثهما، أو نتف الكلام الذي أفرجتا عنه، ووصلني رغما عني وصلني. كان تافها بلا معنى، يداري شعورهما بالعجز، وبعدم القدرة على الفصاحة صراحة عما يدور في قرار كل واحدة منهما، بيد أني ما كنت لأتيه عن نظرات الضياع التي كانت تفضحهما، أو زفراتهما المتقطعة المعبرة عما تمور به دواخلهما.

وكانتا تخشيان أن يصلني شيء من ذلك حتى لا تجرحاني، أو تزعجاني، ولكنه وصلني، رغما عني وعنهما، وصلني. وكنت بين سموم "وجد" التي كانت تتجشأ شعور الإثم والإحساس بالخطيئة. كان قد بلغ ندمها سناه عندما علمت أنها لم تسئ لنفسها فحسب، بل ساهمت في أذيتنا جميعا، رغما عنها. ثم إنها أخذت تحدث نفسها وتفكر في أن "رافان" قد استخدمها يدا يضربنا بها لنتوجع نحن ويده، بعد ما علم بحقيقة قرابتها من "آل الشرقي"، بيد أن تخمينها ذاك كان خاطئا، إذ لو علم بذلك إذن لأمعن في تعذيبها، وتعذيبنا بها. وبين حميم "وعد" التي كانت تراود نفسها رغبة في أن تعاود رؤيتك لتعاتب فيك قسوتك التي أنستك حبها، وكانت تود أن تعاود رؤيتك لتبلغك أنها باقية على حبك، مهما تفعل، أو تجرم في حقها، ستظل مدلهة بك، وأنها وقفت قلبها لك، ونذرت عواطفها "لقاسمها". كانت تود رؤيتك لتعلمك أنها إلى جانبك في محنتك، ثم إنها كانت تصر على معاودة رؤيتك بكل بساطة لأنها ما فتئت تتعذب لغيابك، وانقطاع أخبارك، ولأنك صرت أقرب إليها من قبل، تربطك وإياها، عرى الدم، وضيق الحال. لم تعد تراك تقف في ضفة أخرى، يفصلك عنها واد كبير، يلزمها لعبوره جسر طويل، وسلم عال ترتقي درجاته لتبلغك. كنت إلى جانبها، دنيا من يدها، كما أحببتك، وتوهمتك بسيطا، مكافحا. ولأمر ما لم تستطع تفسير تناقضه مع رغباتها المعلنة، كان وضعك الجديد يروق لها كثيرا.

"وعد" يا بني، حساسة جدا، كبرت لشدة ما مرت بنا من أزمات ورجات وهزات في حالنا وأحوال معيشتنا، تعادي الغنى والثراء وتخشاه، لذلك تجنبتك في أول ليلة ظنا منها بأنك ابن طبقة علوية، هكذا هي "وعد".

وكان لكل واحدة منا مدارها العلوي تسبح داخله، وكأن لكل واحدة منا غاية من وراء هذه الرحلة، إلا أن هدفنا توحد الآن، وأنا ألحظ مثل ذلك الألق في عينيهما إذ أحستا بروحيهما تؤوبان إليهما، وأدركتا أن شيئا خفيا يجرهما لهذه الأرض. ترجلنا من غاياتنا المضمرة عندما وطئنا "امتيوة".

ولم تكن الكلبة المرضعة، والجروين إلا علامة، من العلامات التي توضع في طريق التائهين تدلهم إلى الوجهات الحقيقية التي يطلبونها واستوعبنا الدرس هذه المرة وأنفقنا على البيت ما يلزمه من وقت وجهد وحب ليعود كما كان على الدوام، فإذا به كما تراه الآن، نسخة حقيقية لا لبس يعتريها كما كان الأصل. هنا عاش جداك، وأرضه التي تراها أمامك، لم يتغير شيء في تربتها أو أغراسها. ولإن زحف "الكيف" إلى بعض الأراضي المحادية لنا قادما من كتامة "الكيف"، فإني أشك أن تقبله أرضنا يوما. أشك في ذلك حقا.

وكان الحنين يضطرم في نفسي وينزع بي خارج الدار على الدوام، فأجد بصري يرتد بي من تلقاء نفسه سنوات إلى الخلف حيث الكدية المجاورة. ما من شك أني ألمح بيت والدي من هنا. لكم تهفو نفسي لمعاودة دخوله، ولكم حزمت أمري للذهاب إليه، لكني كنت أصطدم بجبني عن فعل ذلك، فيلقي بي في يأس المستكين الخانع إلى السؤال.

هل خرجت فارة من جرم ارتكبته؟ وأجد الجواب بديهيا، يسعفني ويزيد في عذاباتي، بأن قطعا لا.

فلمَ الخوف إذن، وممَ الخجل؟ لكني مع كل ذلك أجبن، رغم أن الحنين يضطرم في نفسي، وينزع بي خارج الدار على الدوام، أرقب دار والدي، تلك الدار التي جئت إلى الدنيا في صبيحة يوم، داخل إحدى غرفها، نطقت كلماتي الأولى داخلها، وتعلمت أول دروس الحب والعزة والشرف في مدرستها أعاود رؤيتها اليوم، فأجد التغيير قد مسها، كما مس دورا عديدة هنا، حيث ارتفعت عن الأرض واصطبغت بصبغة المدينة، وأطلت من سطوحها مقعرات لاقطة للفضائيات، غيرت ملابسها، كما شبابنا وشاباتنا في تنافس على التقليد الخاوي. ولم أشك للحظة أنه مأهول، إذ وفي كل مرة أميز حركة جواره، وحول بابه، من تراهم من احتلوه في غيبتنا؟

أيكون "علي" وعصبته من استوطنوه؟ كنت أحسها غريبة عني تلك الدار رغم أن جنبات الذاكرة تزهى بها، غربتي عن هذه الأرض التي هي لنا قطعا، كما أني كنت أظنها تراني كغريبة ومازاد إحساسي ذاك ووطده، ما اعترى الأولى من مسخ، وما قابلتني عيون الناس هاهنا، تلك النظرات التي يقابل بها الغرباء عادة، بل امتد ذلك الإحساس وتعاظم واستفحل ضرري به حين زارنا زائر تبدو عليه أمارات الرزانة والهدوء، وأظنه إمام المسجد الجديد بعد عمي "محمد" كما أظن أن الناس من أرسلوه، فأخذ يسألنا من نكون؟ ومن أين أتينا؟

ولم يرحل إلا بعدما تأكد له يقينا أننا مالكات هذه الأرض، بعدما تمنى لنا مقاما طيبا.

ألا ترى معي أخلاقنا وأخلاق أهلنا؟ فرغم أن الأرض قد أسقطت ملكيتها بالتقادم ورغم شعور الجفاء والنفور الذي أعقب تلك الحادثة المشهورة فإن أحدا لم يجرؤ على بسط يده على ملك غيره. لأجل الأرض تزهق الأرواح، وهي العرض والشرف يا بني، وهم يقدسون ذلك، رغم الخلاف والنبذ.

فلعلك تلمح الآن في أفقك الفرق بيننا وبينهم. نترك متاعنا فلا يجد طامعا به بينما يسارعون إلى أخذ ما ليس لهم بالحيلة حينا وبالغصب أحايين أخرى. ذلك يحسب لنا، يا بني، بيد أن أشد ما آلمني، هو تردي تلك النظرة المسلطة علينا كغرباء، إلى نظرات أعرفها جيدا وأعقل مفعولها. ليتهم أبقوا على نظرات الإستطلاع والفضول والإحتياط من غريب عوض أن يعيدوا إلى ذاكرتي نظرات المحاكمة والإدانة الأولى. كنت كالمستجيرة من الرمضاء بالنار. الناس هنا لاينسون. ذاكرتهم من فولاذ. ولإن تغيرت الوجوه، وعادات بعض منا فلقد ورثوا تلك الحكاية الملفقة، كما ورثوا سلوكهم معنا. وابتدأت المعاناة من جديد، فهل لنا من مخرج؟

لعلك تعلم الآن حجم التركة التي أودعها مع هذه الشرائط. جبال من المشاكل المعلقة تنتظر حلولا، ولكني أمنحك إلى جانبها كلمات لو أحسنت استيعاب دلالتها لأمكنك ذلك من تجاوز كل العقبات التي تعترض سبيلك. اعلم يا بني أن الأزمة أم العظمة، وأن الأخيرة تتغذى من الأولى وتصير في مثل حجمها، وما من محنة يمر منها إنسان، إلا ويزداد بها قوة وبأسا حتى إن الأهوال مهما تعظم بعد ذلك وتكبر تظل في عينيه هينة سهلة التجاوز. انكفأنا على ذواتنا كل إلى هواجسها، فبينما كانتا منشغلتين بالكلبة والجروين، رحت أنا أجالس أيامي الماضيات.

واعلم يا بني أني ما دعوتك إلى هنا إلا لأضع قدميك على أول طريق رحلتك. واذكر أن الإنتقام يدمر أول ما يدمر صاحبه ويقضي عليه ويعمي عينيه على أمور عدة، وأن العفو والصفح عند الإستطاعة سلاح الشجعان.

والآن وقد بلغت من حديثي إليك ما بلغت أحس في صدري العديد من الأسرار والخبايا المدفونة أريد أن أنقلها إليك وأطلعك عليها، علها تكن نبراسك في أيامك الآتيات، لكني أخشى ألا أستطيع فعل ذلك ويحول بيننا الصمت المطلق والرحيل الأخير، ذلك أني بدأت أرى طيف صديق قديم أيان ما اتجهت في أركان البيت، وتصلني أنفاسه دنية مني، وكأنه متربص بي ينتظر فرصة للإنقضاض علي. صديقي القديم يا بني، يترصدني كأني ضربت معه موعدا للإلتقاء به هاهنا. تتزاحم الأفكار في رأسي، وأراها تتصارع تارة مع بعضها البعض تريد الإنعتاق من حبسها، وتارة أخرى مع عواطفي، التي تصرعها، وتدفعها جميعا بقوة السيول الجارفة. كل ذلك لأخبرك مرة أخرى أني مشتاقة لك حبيبي ولأختك "سهد" ولأمك، فاخبرهما أني أحبهما وأحرص عليهما وعلى ابنتيّ حرصك على الحياة، وإني لأتمنى أن تعجل يا بني بتلبية دعوتنا علي أغنم رؤيتك وأظفر بلقائك قبل موتي، لكني أحسه يدنو مني، أستشعر وجوده قريبا مني فمعذرة.