الوجه الثالث

21 0 00

من لم ينجح في فهم ماضيه سقط في فخ اجتراره. وماضيك مرآتك تبصرك من خلالها. هو درعك وسندك فيما يستقبلك من أحداث. حلمك الحقيقي الذي ما كان في حقيقة الأمر إلا صورة محفوظة في ألبوم ذاكرتك الغائرة؟ وجه بطلة مسرحيتك المتنازع الملامح. كان مشج أضداد، جمع ما لا يجمع، عين تنزف دمعا ملتهبا وعين رست بين مآقيها دمعة فرحة، طاقة أنف تتنسم من عبق لذاذات الحياة ومنخر يزفر ما في قعرها من طحلب متعفن، أذن ترهف سمعها لصوت داخلي مكشوف وأخرى تتحدث بصدق عن مشاعر صاحبتها في شبه علم، شفة تمكي مآسيها وشفة ترنم لإسعاد الغير.

وصادفت الحب في ليلة اللقاء الأول بعدما غازلتك أنفاسه، ثم تعرفت إلى طعمه بعد أن أصابتك رؤيته بالدوار، في حفلة عيد ميلاد أختك "سهد" حيث كنت موضوع رهان تعلم بأمره أول مرة. هناك في قصركم الباذخ، حيث الخمر المعتقة والموسيقى الشدية والأقنعة الآدمية.

أكان يلزمك أن تسقط من فراشك الوثير لتدرك أنك كنت في حلم؟ وتلتقط أنفاسك المشتتة ثم تتحسس بيدك المرتعشة زر مصباحك وتدعك عينيك قبل أن توقعها على عقارب ساعة منضدتك.

وقمت متخاذلا إلى فراشك تستحث النوم من معاقله لكنه يرغب عن زيارتك. تقلبت يمينا وشمالا كأنك فوق صفيح يغلي.

هل الأحلام تجسيد للأماني التي نعجز عن تحقيقها أو رغبات مدفونة في أعماقنا المظلمة لحياة نريد أن نعيشها تندرئ علينا هكذا بدون انتظام في أوقات نومنا فلا نجد لها تفسيرات مقنعة؟

وفجأة يأتيك الخلاص من حيث لا تدري فكرة رائقة اهتديت إليها، فتهب من مرقدك وتغير ملابسك إلى سيارتك الناعسة فإلى طلع حلمك. شيء في داخلك كان داعيك إلى ذاك الإرتفاع الشاهق في ذاك الصباح المظلم البارد. لم يكن منظر دور سلا المستكينة إلى أحلامها الجامحة، ولا صفحة البحر المتراقصة. تمنيت أن تجدكما هناك متلاصقين، وتمسك بحلمك حقيقة، وتحيا تلك الحالة حقيقة مضاعفة. لكنك أحبطت لما لم تجد أحدا، وجلست هنالك على حافة شاهقة تنتظر.

كنت تنتظركما، وكنت تنتظر عيادة الشمس لأنك تعلم في قريرتك أن النوم لن يزورك في ليلتك المبتورة تلك، وكأنك به قد أعلن العصيان عليك. سماء ذلك الصباح كوجه حماة عبوس، متجهم، غاضب من شيء أو من لا شيء. بدأت بعض الحركة تدب في الشاطيء، إذ أخذ يتقاطر عليه بعض المدمنين على الرياضة الصباحية مع بوادر شمس خريفية محتشمة تهب من مرقدها كعروس في صبيحتها، ويدها على طرفها الناعس.

تفاجأت بوجود بعض المدمنين على الحب الصباحي أيضا لم تنتبه إليهم في غمرة شرودك. انتصب على شفتيك ظل ابتسامة، وألقيت نظرة أخيرة على المدينة المقبرة كما تخيلتها، واستدرت على عقبيك، تلوذ بسيارتك وفي رأسك شيء واحد، لايصلح لك دور المغرم الولهان. ستتعذب في جبته. فلتنزع ابنة سلا من فكرك إن استطعت.

ذا أنت في المصطبة الرئيسية للغرفة الخلفية تحتسي صوتي وكوب قهوة سوداء. تقابل المسجل، وترقب ما حوى بنهم المتطلع إلى ما فيه، كأني أراك وغيمة دكناء تظلل ناظريك. لكن دعني أعيدك إلى ركن احتل وقتا كبيرا من حياتك، عملك هناك في إمبراطوريتكم البائدة، في المجموعة الاقتصادية الكبرى، حيث المال والسلطة يتساكنان بحميمية في زوايا ضيقة، ويتحركان كيفما اتفق للتناسل والتعاظم.

في إمبراطوريتكم، حيث تعرفتم على "رافان" أول مرة، وحيث كان آخر من ودعك الوداع الأليم. أراه صبيحة ذلك اليوم، يجيب على هاتف في مكتبه الباذخ:

- آلو. "رافان" على الخط.

- ...

- صباح الخيرات.

- ...

- حسنا سأحضر في الحال.

وهب لتبدو قامته الربعة، فعدل رباط عنقه المتساوق وقميصه الأسود مع بدلته التي حملت اللون نفسه، لون سماء الرباط الخريفية. أطلت عيناه من خلف نظارتيه الدقيقتين اللتان لم تخفيا زرقتهما البادية، وألقهما تألق بشرة وجهه الكلثوم وشقرة شعر رأسه. قادته خطواته العريضة ليلحق بباقي أعضاء مجلس إدارة المجموعة، بعد أن هاتفته كاتبة الرئيس المدير العام تطلب حضوره، إذ لحظت تأخره على غير المعتاد. استقبلته بابتسامة مهنية مشرقة وهي تقول.

- صباح الخير سيد "رافان".

- صباح الخير "وجد".

باغتها بأن قدم لها وردة حمراء لم تنتبه لها في يده عند دخوله.

- مع خالص شكري على نجاح تنظيمك وإشرافك على سهرة أمس.

وقع المفاجأة زلزلها إذ لم تعهد ذلك منه، وهو الذي عرف منذ التحاقه بالإدارة المركزية قبل سنتين باحتياطه الكبير في التعامل مع الآخرين، وإن كان مجاملا في بعض الأحيان، لكن أن يصل الأمر هذا الحد، فذاك أمر مربك حقا.

بيد أن مفاجأتها لم تكن خالصة إذ أنها بدأت تستشعر ملاحقته لها. نظراته الجريئة. كلماته الملمحة لشيء لا تريد أن تضعه بخلدها، ولا أن تفكر به. وردة الصباح أتت لتلقى بها في وهدات الحيرة، ولونها رمى بها إلى التوجس من الغد القريب. لو لم يكن مرتبطا بامرأة أخرى، ربما كانت فكرت به. أما وأنه متزوج، ومن ابنة "إبراهيم الشرقي" مالك المجموعة، ولي النعمة فذاك أمر أشقى وأنكى.

ما تراه يريد منها والسعادة بادية لكل الأعين على حياته مع "سهد"؟

أتراه يبحث عن لذة عابرة، أم هي نزوة شيطانية اجتاحته من حيث لا يدري وألقت به إليها ليعكر صفو حياتها؟

وما تملك من فعل إزاءه، وهو شخص يمكن بنصف كلمة في أذن الإمبراطور أن يفصلها ويفتح عليها أبواب الجحيم، أو أن يتم نقلها إلى أحد الفروع السحيقة في أحسن الأحوال. ولن تشفع لها سنتاها في التفاني والإخلاص للإمبراطور الذي كانت تقدره كثيرا وتحترمه جدا. تدرجت في أروقة مجموعته لتصبح كاتبته الأولى، بعد أن عوضت زميلة لها ذهبت للوضع. أثبتت خلال فترة التعويض كفاءة عالية، جعلته يتشبث بها. و"رافان" هو أول امتحان صعب تمر به منذ ارتقائها إلى هذا المنصب. هو عقبتها الكبرى وعليها أن تحسن تخطيها وإلا فإن السماء ستسقط فوق رأسها.

أنى لها بالحيلة والشجاعة لتصده وتردع شيطانه المغامر، كما وقفت لمحاولات زميلات فريق السكرتارية فأخرستها دفعة واحدة، ونالت ثقة الإمبراطور لدرجة أنها أضحت مسؤولة أيضا عن ترتيب بعض سهرات العائلة؟ قهوته الصباحية، يشربها مع المراسلات العاجلة. طرق ترتيب المواعيد. تحاول إراحته قدر المستطاع، فلا تصله هاتفيا إلا بمن هو مهم، وبما هو ضروري لا يحتمل الإرجاء. لذلك كانت كذابة ماهرة ومراوغة لبقة، تختلق الأعذار بحسب الظروف. كان التردد يلفها، وهي تتناول وردته في شبه تحفظ.

- ممتنة لإطرائك سيدي، لقد قمت بواجبي فحسب.

ثم أشارت جهة مكتب مقابل.

- تفضل، الكل بانتظارك.

واجه بابين متلاصقين نقش على أولهما الرئاسة، والإجتماعات على ثانيهما الذي نقره نقرة خفيفة ليدخله بعد أن أعاد تعديل ربطة عنقه، فإذا به داخل قاعة فسيحة توسطتها طاولة مستديرة كبرى من الأبنوس الخالص أحاطت بها كراسي سوداء. تربع في أحد جوانبها صالون عصري من الجلد الفاسي الأسود، ومنضدة زجاجية أنيقة بها منفضة بنفس لونها، بينما انتصبت لوحة زيتية عظيمة خلفه.

- صباح الخير.

جاءت ردود تحيته مترددة ما بين الهمس والهينمة وشبه الإبتسام وإيماءة خفيفة من الرأس قبل معاودة دفنها في الأوراق.

من يقول أن له أربع سنوات فقط بينكم؟

بداية طلب عمل في مصنع النسيج التابع للمجموعة في فاس، فقبل الطلب للسيرة المهنية المضيئة. دراسة عليا بأحد المعاهد المختصة في باريس الفرنسية في التسويق التجاري والتدبير المالي توجها بشهادة عليا، وخبرة أربع سنوات كإطار في أحدى الشركات المتعددة الجنسيات. حال عودته إلى المغرب ابتسم له سوق العمل المحلي على غير عادته، فامتصته شركتكم منبهرة بما تقدم.

سنتاه الأولتان أمضاهما كادا جادا في بذل جهوده حتى يتقرب إلى رؤسائه، وكان له ذلك، إذ أثبت كفاءة عالية. أمضاهما يرتقي السلم ويدنو من المركز حيث أنتم بصبر وثقة. وأتته فرصته المبتسمة يوما فأمسك بها وعض عليها بنواجذه. امتدحه رئيسه عند الإمبراطور، فتم نقله إلى الإدارة المركزية حيث ستتعرفه أنت أول مرة، وسيعجبك سلوكه المهني، وتفانيه الدائم، وولاؤه المعلن. لم يكن أحد يتصور صعوده الصاروخي بينكم. واستشاط الحاقدون والحاسدون حوله، ولكنهم لم يظفروا بالحد من تقدمه. أين هم منه الآن وقد غدا الإمبراطور الثالث بعدكما؟

- ماذا لدينا اليوم؟

أتاكم صوت الإمبراطور الجاف، ليقفز صوت "محمد مبروك" مدير التخطيط والاستراتيجية وصديق الأسرة الوفي.

- لدينا دراسة جدوى مجموعة من المشاريع السياحية، عبارة عن فنادق مصنفة من خمس نجوم في كل من الصويرة، مراكش وأكادير بمعدل فندق في كل مدينة، وكما ستلاحظون أمامكم دراسة تفصيلية لهذا المشروع الأول الذي ننتظر اقتراحكم بشأنه.

تساءل الإمبراطور وهو ينظر إلى "محمد". تشبهه في كل شيء. عيناه العسليتان، وصوته القوي. أخذت منه القوة، ومن أمك الطيبة والوداعة. تلبس جبته في الشركة، لجوجا غضوبا. طاقة هائلة من القوة والنشاط، تضعها عند خروجك لتصير أمك، أو قريبا من ابنة العائلة الكبيرة.

لهفي عليها، المسكينة. كان التيار الجارف أقوى منها، فما استطاعت صده ولا تمكنت تجنبه.

- لدينا وحدتين في مراكش إضافة إلى رياض متفرقة هنالك، وثلاثة في أكادير، وهي مصنفة طبعا كما تعلمون ما بين أربعة وخمسة نجوم. أما الصويرة فليس بعد.

تدخل "رافان" وهو يحك زنمتا أذنه.

- أعتقد أن الصويرة خيار استراتيجي، كما اقترحت على السيد "مبروك". ذلك أنها تعرف مهرجانا كبيرا كل سنة، وأرى من الحكيم أن ندخلها في رؤانا، خاصة وأنه كما بلغني، هناك مجموعة من المنافسين بدأوا يفكرون في هذه المدينة كقطب سياحي هام.

كنت يومها، نصف حاضر. قلت بنصف لسان.

- ألا ترون معي أننا نلجأ دوما إلى المعاني التقليدية للسياحة، بينما يمكننا خلق وحدات إيواء مفيدة ومريحة لنا؟

وتساءل الإمبراطور مجددا وكأنه انتبه إليك فجأة:

- ماذا تقصد؟

أفاقك سؤاله لتسرسل.

- السياحة الجبلية، الغابوية، الصحراوية لدينا تنوع طبيعي يخدم اقتراحي، وعدد المهتمين بهذه الأنواع من السياحة في ارتفاع مضطرد من الداخل والخارج، ويمكننا الزيادة في أعدادهم أضعافا إذا قمنا بدعاية جيدة.

تدخل "رافان" يدافع عن مشروعه.

- إذا سمحت لي يا "قاسم". لست أريد معارضتك. أنا معك في أن السياحة عرفت ظهور أنماطا جديدة مثل التي ذكرت وأضيف إليها الصحية والثقافية والتربوية والدبلوماسية والجنسية والإيكولوجية ومالا حصر له من التسميات. أنا معك في أن المستقبل لهذه الأنواع غير التقليدية لكنه ليس أولوية ملحة. علينا كسب مساحات فورية قبل منافسينا.

لم يعجبك هجومه اللبق عليك فقاطعته.

- الصويرة التي تتحدث عنها "رافان" لا تعرف إلا مهرجانها السنوي زد على ذلك أن الكناويين أناس لا يرتادون مثل تلك الفنادق التي نتصورها.

أضاف يريد إقناع الإمبراطور.

- ليس الكناويين من يقصدون المهرجان فقط، وأولئك هم زبناؤنا المفترضون، ثم إننا سنعمل على تجاوز طابع الموسمية الذي يخيفك، إذا ساهمنا بدورنا في تظاهرات رياضية وثقافية دولية. تعلمون أيها السادة أن البحر والرياح يشجعان قيام رياضات بحرية تعرف انتشارا واسعا بين كل الأوساط. هذا تصوري للأمر.

وهزمك البحر مجددا وترديك رياحه العاتية إلى زوايا الخيبة. كنت تريد التصدي له، بيد أن الإمبراطور أتى ليحسم الموقف لصالح "رافان" ويحيلك على الإنتظار.