ترى كم هي قصيرة مدد لقيا الأحبة مع طول الإنتظار، وشدة الوجد؟
كلماتها ماء أردته يطفئ نارا في جوفك، فلما فارقتها إذا أنت أشد إحتراقا وأكثر عطشا.
طلتها خمرة معتقة سقتك رشفة منها، فإذا أنت ثمل سكران.
الرابعة ساعة ولادتك، هي مغنمك. وشيكة جدا، دنية منك. ساعتان، دهر، دهران.
وقررت أن تفنيهما في سلا المحروسة. لن تذرها حتى تظفر بابنتها الساحرة، حفيدة الزهاد والصالحين. خطواتك الشاردة تقودك عبر باب سبتة العتيق، الذي توارت خلفه دور منقبظة على نفسها. افترش أهلها الممرات الضيقة. تردد جدرانها نداءات باعة الفواكه والخضروات، والأسماك الصباحية. يذكرني شعورك ذاك، بالمرة الأولى التي احتضنتني أزقتها. كنت تائهة أبحث عن بعض أيامي. كنت أشبهها، وأراك الآن لا تفرقنا بكثير. نداء الأمومة تحرك داخلي، ودعاني إليها. حبي لإبني قادني إليها حيث ألقتنا جولات بحثه عن الرزق. أراه الآن، وتراه معي يوما، وقد إفترش أرضها، ورفع عقيرته يعرض بضاعته مع العارضين. لعلك تدرك الآن أنك في قلب جوهرة صغيرة. مدينة شعبية، ملمومة حول نفسها. تناسلت أحياؤها، وتمردت على حصار أسوارها كأورام سرطانية قاتلة، انتشرت كالفطر في زحفها المتواتر. والأسماء دوما جميلة وديعة الرحمة، السلام، كريمة، الإنبعاث رغم أنها تتصف بغير تلك الخلال. عيون منطفئة لوجوه بئيسة دعكتها الأيام تقابلك في مسيرك. ألقى بها العوز حيث هي، وتقيأتها الأيام على طريق الحاجة، وشكلت ملامح غير مبينة، عصية الإختراق كعالمكم الفلكي. لعلك تدرك الآن أننا ألمكم الدائم، و"وعد" جزء منا. هنا تعلمت أول دروس حب الحياة.
تنعطف يسارا حيث "السوق الكبير"، تنفذ منه إلى " سوق الغزل" وطفقت تكتشف الزوايا منبهرا بنمط حياة غريب عنك انبهارا طفوليا.
ثَم حيث السلع الزهيدة معروضة للبيع بأثمنة أزهد، وحلقة الدلالة المنتصبة في ركنه الأيسر شاهدة على "بحبوح" وحكايا "سيدنا علي وراس الغول"، و"سيف بن ذي يزن" هي اليوم معرض كل ما قد يباع. يتحلق الناس هناك كما في حلقات الذكر في زاوية "سيدي علي بن حسون". ينشط هذه رجال ونساء ثوبوا الحاجة إلى ريالات قليلة يجابهون إكراهات العيش ومسؤوليات إطعام الأبناء، وتحضن الأخرى راجين حلول بركة السيد لقضاء الحاجات الكثيرة المستعصية، وبعض الحسنات يجابهون إكراهات العيش ومشاكل الأبناء المتفاقمة. يتحلق هؤلاء حول الدلال وحوائج بيوتاتهم التي تجمعهم بها علائق متينة انتهت إلى البيع أو إلى طلاق رجعي، إذ قد يدلل حاجته " العزيزة" اليوم في صراع البقاء، أو لتسديد فاتورة، أو على بلية حشيش، أو مقامرة في سباق الخيل أو الكلاب أو الفئران، ويصادفها بعد مدة، وقد أعادها من كان في ميسرة ساعة ضيق الأول وحرجه، فيعاود شراء ما كان يملك، ويجدد الصلة بعد أن بترتها الحاجة، ويفك بذلك ضائقة من فعلها معه قبلا دون علم أحدهما بذلك، ولا إرادة مدفوعة، أو حسن نية مقصودة في تضامن عجيب غريب. والرجال هنا كما النساء معنيون. الكل يناقش الثمن ويبدي ضراوة وحدة مشروعين مادامت لقمة الأبناء، أو إشباع بلية هي الهدف.
ساقك هواك وألقى بك حيث رأيت ما لم يسبق وأن وضعت عليه عينيك من قبل. البؤس عنوان كبير للحياة. هو من يبيع ويشتري. يباع ويشترى. والجوع يتخم الناس حتى ليتجشأونه. وتدفعك أمواج البؤس، والشرود من "سوق الغزل" إلى "سوق سيدي مرزوق"، ومنه إلى "الحرارية " و"القيصرية" و"الصياغية " إلى قلب المدينة، فساحة الشهداء التي تدلف منها إلى شاطئ البحر حيث الأمواج تتطامى وتترامى أمامك. تلفحك أنسام خريفية طرية تداعب روحك، بعثت من الرقراق المتلألئ كسلسلة فضية في جيد غادة متدللة. تطلعت إلى الرباط التي كانت طلعك صباحا، فبدت لك عصية إذ ارتفعت أسوارها في كبر ولا مبالاة. صرت جزءا من لوحة سلا الكئيبة. يحضنك إذن بحر المجاهدين الذي انطلق منه يوما "العياشي السلاوي" لردع الغزو المسيحي، وحيث دحر البرغواطيون وكانت نهايتهم داخلها على عهد المرابطين. تلقي نظرة على ساعتك فإذا هي الثالثة والنصف. لا مجال لتأخرك عن موعدك الأول معها.
تؤوب مسرع الخطى إلى "صلاح الدين الأيوبي". محلات المدينة العتيقة تعدل مذياعاتها على نفس الموجة. فتبدأ أغنية "للحسين السلاوي" عند العطفة السفلى لتنهيها في العليا.
المدينة تفيض بسكانها. تلوح وجوههم المدبوغة، القلقة. وتندرئ عليك "آمال" من حيث لا تعلم. تغضن طرفها في شبه كلام. خيط دقيق يربط بين النوعين. ثمة تشابه عكسي بين الوجهين. وجه وجوه السلاويين ووجه "آمال" التي كانت ضحية فشلك الأول مع زيارة سلا الصباحية، وتراها الآن تستعد لتعاود الكرة مجددا بلا كلل ولا ملل. ولكن لا ذنب لك ولا جريرة في كل ما حدث، إذ كنت مسحورا، ولا تملك من أمرك شيئا حتى إنك لم تقاوم زحف "رافان" كعادتك كل يوم.
وكان مغنمك الوحيد في سلسلة هزائمك، هذا الموعد مع "وعد".
أما "وجد"، فما عادت تجهل شيئا من ملاحقة "رافان"، وضاقت دائرة حصارها، بعد وردة الصباح الحمراء المشهودة، ومكالمته الهاتفية، بعد ذلك، الرقيقة جدا يعيد ويكرر شكره وامتنانه على حسن صنيعها في سهرة الأمس، إذ كانت المشرفة عليها، وكانت من سهر على إنجاحها. الكعكة الكبرى والمأكولات والشراب والفرقة الموسيقية الشابة التي فتحت لك أبواب قلبك وأضاءت قطعا منه. كل ذلك كان من المقدرات.
وندل السهرة، ولوازمهم. كانت فعلا القائمة المشرفة على كل شيء. كانت جندي الظل الذي يكد ويشقى لتخلق لكم منظرا بهيجا، ومتعة لأنظاركم ونفوسكم. شكرها صباحا، وعاود بعد ذلك، وهي تعلم أنها ذرائع لشيء آخر في نفسه بدأ يظهر شيئا فشيئا، فإذا به واضح أمامها، إذ وصلتها ورقة من مكتبه تفيد أنها ستسافر رفقته إلى أكادير، نهاية الأسبوع لإعداد تقرير حول سير وتقدم الأشغال هنالك، وللتعاقد مع مستثمرين أجانب سيتم استقبالهم بمطار إنزكان الدولي. لم يكن سفرها داعيا للبغتة، فهي تعودت ذلك. لكن أن تسافر مع "رافان" فذاك ما مسها بالإضطراب والإنقباض في آن. ترددت في أعماقها أسئلة محيرة.
من عوض من؟
أهي التي حلت محل كاتبته "لطيفة"، أم أنه من فعل بدل الإمبراطور؟
أيعقل ما يقوم به الآن تقربا إليها؟ ولكنه شخص متزوج ومن "سهد" أختك، وهي فتاة قمة في الجمال، زد على ثرائها، وهي من عائلة كبيرة معروفة. كم راكمت من حسنة. ما تكون هي إلى جانبها؟ صحيح أنها فاتنة، ولها جاذبيتها كأنثى، وذ على ذلك أنها حلوة الحديث، ولكنها منافسة غير ذات وزن إلى جانب زوجه. أم هو شيطان الشهوة الأهوج لدى الرجل، يبطر نعمة متاحة، ويتمرد عليها ابتغاء الحصول على ما هو أدنى عند أخرى بعد طول تخطيط وتدبير، أم تراها أشياء أخرى لم تكن تعلمها في حينها، وأزاحت الأيام عنها سترها؟ كانت بادية الربكة، ظاهرة الإنفعال حين رن الهاتف، فإذا صوته يصلها من الطرف البعيد.
- "وجد".
- نعم سيد "رافان".
- توصلت لا شك، بأمر سفرك رفقتي إلى أكادير.
- نعم سيدي، وإن كنت أتساءل لماذا لا ترافقك الآنسة "لطيفة" كاتبتك؟
- آه، للسيد "إبراهيم" مشاغل كثيرة نهاية هذا الأسبوع، ولذلك طلب مني تعويضه، واقترح علي أن ترافقينني لمعرفتك ببعض أعضاء الوفد الأجنبي الذي سيحضر، وأصارحك أن الامر راقني وأسعدني كثيرا لما هو مشهود لك من تفان وكفاءة قل نظيرهما.
- شكرا لك سيد "رافان".
- إذن وإذا سمحت، أدعوك لنتباحث في إجراءات السفر وبرنامج العمل وما إلى ذلك.
- حسنا، سأحضر لمكتبك الآن.
- لا، ليس الآن. قصدت أن نتتناول شيئا معا، إذا لم تمانعي.
- لا مانع لدي البتة سيد "رافان"، ولكني منهمكة في عمل مستعجل، ثم إني أخشى إن اتصل السيد "الشرقي" ألا يجدني.
- لا تخشي شيئا فذلك داخل في صميم العمل، ولتعوضك واحدة من طاقم السكرتارية. إذن أنتظرك حتى تنتهين مما هو مستعجل لديك، أم لك رأي آخر، "وجد".
وهمست المسكينة في داخلها. لا رأي لي أمام جرأتك التي تخنق مقاومتي.
- حسنا سيد "رافان". ليكن كما أعتقد عند الثالثة والنصف.
- إذن سأنتظرك خارج المجموعة.
مستعجل جدا "رافان". يحدد هدفه، ويقصده مباشرة دون تأخير أو مواربة، ولا يني عن فعل المتاح في سبيل تحقيقه، و"وجد" أخذت على حين غفلة وما استطاعت مجاراة سرعته ومقاومة حصاره. استغل فراغها العاطفي البين، وقلة تجربتها. مسكينة كانت "وجد"، كما كنت في وقوفك بمحاذاة باب "صلاح الدين" كمراهق أعجبته لعبة الإنتظار التي احترفتها. مس رأسك الدوار وأنت تلمحها تخرج مسرعة بعدما رمتك بنظرة قصيرة، ثم أخذت تحث مسيرها كأنها تود الإفلات منك. أصابك الغضب حد السعار. واستعرت الدماء في شرايينك، وتصاعدت في غليانها إلى ناصيتك. عادتك حكاية كنت قد سمعتها عن أهل سلا، وأضحت تقال فيهم للتندر والتفكه.
أحقا يصيبهم شيء في عقولهم مع اقتراب العصر ودنو إغلاق الأبواب الكبرى؟
لماذا إذن منحتك وهما إذ أضمرت الفرار منك؟
كنت حكيما فعلا إذ قررت تعقب خطاها لتطلب منها توضيح تصرفها ذاك، فإذا هي تموج بين الخلائق الذين تصورتهم للحظة يصرخون جميعا. المدينة تجأر ونأمات بنيها وصراخهم يمزق العنان. لم تزل ناظريك عنها، حتى قادتك المطاردة إلى وسط المدينة حيث ساحة الشهداء. شهيد الحب أنت، صريعه. أخذت تخفض من سرعتها، لكأنها أنهكت من إصرارك، والتفتت إليك وهي ترسم ابتسامة مضيئة على وجهها المضرج بحمرة عذبة.
- كنت أخشى ألا تفهمني.
كنت تلهث - إذ المطارد دوما يتعب- فقلت بجفاء غير مستوعب ما تقول:
- ماذا تقصدين؟
- لقد اضطررت إلى كسر طوق المراقبة المفروض علي.
- ممن؟
- من الكل. كأنك لا تعبأ بما قد يقوله الناس عني لو لمحوني أخرج مع غريب.
لم تكن تدري إحساسها ولا شعورها على الرغم من أنها لم تكن تتوقع أن تعاود رؤية "قاسم سعدون" بعد سهرة الليلة الماضية، على أنها تمنت ذلك من أعماق نفسها.
أعجبتها وسامته، وخفة ظله، وكفاحه في سبيل العيش، وأشياء أخرى لم تجد لها أسماء في قائمة الموجودات دفعتها إليك. وكان "قاسم سعدون" كما قدمته لها، فارس أحلامها أزجت ليلتها متقلبة في فراشها. تنتظرك في بيت الزوجية، بعدما تقدمت لها، وقد أعدت لك وجبة سعادة تقتسمانها في عشكما الصغير، الحالم. صغيرة هي أحلام الصغار، لكن هل تتحقق كل الأحلام على صغرها؟ لو صح ذلك لحلم الناس صغارا، ولكن ذلك شيء محال.
واليوم بعدما رأتك لم تكن ربكتها وترددها فقط لقربك من وسطها حيث تدرس، أو لأنها كانت رفقة زميل دراستها، ورئيس فرقتها الموسيقية، وشبه أخيها. لكن ذلك كله كان اندهاشا وعدم تصديق أنها في بداية تحقيق ما رأته في أحلامها.
لأجل ذلك أنفقت كل حصتها تفكر في طريقة تتخلص فيها من "محمد" زميل الدراسة ورفيق الدرب فأوهمته أنها ذاهبة للمرحاض، وأوصته أن ينتظرها داخل المؤسسة حتى تتأكد أنه سيبقى هنالك عند خروجها لمقابلتك، وكان لها ما أرادت. لأجل ذلك أيضا، خرجت متسللة، مسرعة الخطى كأنها مطاردة، تحاذر أن يراها أحد من معارفها، وليس للفتاة إلا سمعتها وحسن سيرتها في مجتمعاتنا وإلا لحقتها وصمة الفجر أبدا. وحسبتها تسخر منك.
أرى الآن ابتسامتك من سخرية الموقف. جميل أن أعيد إلى ذاكرتك كل هذه الأحداث لتعيد اكتشاف خطواتك الأولى في الحب. وتكتشف خيانة "رافان" لأختك "سهد"، إذ ضمه و"وجد" في ذلك اليوم ركن قصي في مقهى العاصمة، فإذا به يباغتها بسؤال دون تقديم حين قال:
- آنسة "وجد"، أريد رأيك صراحة. هل أبدو لك سعيدا فعلا؟
- هه؟
واتسعت عيناها دهشة.
- لست أدري سيد "رافان"، ولكني أراك كذلك.
- أرجو أن ترفعي الكلفة بيننا، والألقاب. ألسنا صديقين الآن، نتدحث عن أمور شخصية. سأفعل أنا يا... "وجد".