الوجه السابع عشر

21 0 00

خرج "رافان" من المطبخ حيث كان يختفي وبسمة خبيثة تطفو فوق شفتيه ونظرات اشمئزاز وزراية يصوبها إلى "إبراهيم" كسهام قاتلة، وطائري يضرب بجناحيه عله يستطيع إيقاف شيء أو يغير مساره، ولكن عبثا. كم كانت مفاجأة "إبراهيم" عظمى لوجود "رافان" هنالك. وحاول القيام بيد أنه لم يستطع، إذ بدأ السم يعمل عمله. لن أنسى يا بني ما حييت نظرات الضعف والذهول وهو ينصت له، كوشم على جرح، لا يحجبه زمن.

- "إبراهيم". ها قد حان وقت الحساب، أم تظن أنك ستظل فارا عمرك كله من إنتقام "ليليان".

- ليل...

- نعم، فأنا ابنها، ولا أظن إلا أنها كانت تتمنى أن تشهد بأم عينها مشهدك هذا، ولكن لابأس عليها مادمت أنا هنا. كنت أستطيع قتلك في أي وقت أريد، بعدما أخذت توقيعك، لكني مستعد أن أبذل كل ما صرت أملك، لأرى نظرات الذل والهوان المنبعثة من عينيك.

- ابنها؟

قال "إبراهيم" وكأنه لم يصدق ذلك، فصنع له غشاء على عقله وأذنيه حتى أنه لم يسمع ما قاله.

- تذكرون حين أتيت لخطبة "سهد" ابنتك، وسألتني عن أهلي. لم تكن ذكيا ساعتها، أو لنقل بأن انبهاركم جميعا بي أخفى عنك تلميحي، حين قلت لك أن كل أسرتي قضت في حريق أتى على بيتنا بتازة.

ألم تكن كذبتي كتلك التي اخترعتها على أسرة زوجك حين قدمت لخطبتها بمفردك وادعيت أنك من وجدة، وأنا لم أبتعد كثيرا، ورسيت بتازة.

وأطلق ضحكة عاتية، يفخر بما يقول، منتشيا بلحظة قوته. خرج صوت "إبراهيم" المحتقن الوجه، بوهن المحتضر.

- ولكن لمَ تنتقم مني "ليليان"، وأنا أحببتها يوما ولم أمسسها بسوء؟

- سؤال بليد، بلادة أصلكومنبعك. عيبكم أنكم لاتفهمون أبدا. سل نفسك لما قتلت جدتي والدك؟

ولمَ كل هذا الصراع؟ بلداء أنتم حقا. أسمع لحديثهما، وتتسارع نبضات قلبي، وأخاله يكاد ينفطر ويقفز من بين ضلوعي، لهول ما حدث مع ابني.

ما الفرق بين وصولي بعد فوات الآوان، وحضوري مشهد قتله دون أن أستطيع فعل شيء؟ في تلك اللحظة، غابت نظرات "إبراهيم" كأنه يلمح من وراء غيابه شريط حياته كلها دفعة واحدة. وإذا بصور تمر عليه تترى، ونطقت نظراته أسى، وحملت الندم، وحفلت به.

ألا يندم من أخذته الدنيا القصيرة في دروبها الملتوية وشغلته عن أهله وأرضه؟

ألا يندم من أفنت أمه عمرها في حبه، والبحث عنه فلما وجدته، ردها بقسوة؟

فلتعلم يا "إبراهيم" أني سامحتك وغفرت لك سوء المعاملة، وسوء الظن بي، وكل أخطائك. والتفت "رافان" إلى "آمال" وقد أدركت متأخرة أنها خدعت أيضا ولا أحسب إلا أن الندم عادها هي الأخرى، ولكن أليس الندم والحسرات هي آخر عهدنا بالدنيا، فتطلعت إليه واهنة، مستسلمة كأنها تنتظر حكمه هي الأخرى:

- أما أنت فغبية سمجة، لا تستحقين حتى أن أتحدث عنك. كان اتفاقنا أن تقتليه بعدما أخذت منه كل شيء، لأقتلك بعدها لكنك وددت التراجع.

وبصق في وجهيهما، وهو يصفق الباب. ويذرع شقتهما التي أخفت جثتيهما، وخيال "ليلى" المذعورة التي خرجت ترتجف وقد أذهلها ما رأت وما سمعت. وضعت يدها على فمها تئد صرخة ذعر كانت كفيلة بأن يجتمع لها كل سكان عمارة الرضى، وأسرعت إلى الباب، وركبتاها تصطكان خوفا، حتى أنها لم تشعر بخطواتها الفارة من مشهد القتل الرهيب، وقد أدركت هي أيضا متأخرة حقيقة "رافان" وخطورته، إدراكها ضرورة نسيان كل ما شاهدت وإخفائه على كل من تعرف إن أرادت النجاة بحياتها. وبلغ بها خوفها أنها حدثت نفسها بأن ما رأته لا يعدو يكن كابوسا فظيعا، ستمحيه من ذاكرتها إلى الأبد. وذلك ما رأيتها تفعله، حين حضرت جنازة "آمال"، عجبا!

وإذا طائري يؤوب إلى موطنه، ويستقر بجسدي، بعدما جاب بي في ربوع الذاكرة وأطلعني بما لم أتصوره لحظة في حياتي، حتى في أعبث أحلامي. كنت أظنني أمضيت شهورا وشهورا طويلة في رحلتي الزمنية تلك بيد أن الإستغراب استوطن مشاعري كلها حين أدركت أني، بعد جالسة إلى ليلي في مكاني نفسه، ولم تكد تمضي على بداية رحلتي إلا رفة جفن. وإذا الطيف والصوت يظهران مجددا:

- لعل حجب ما وقع في غيابات ماضيك انحسرت الآن أمامك، وانكشفت ستائرها وصرت عليها مطلعة. وإني لأقدر شدة تأثرك بكل ما حدث معك، لكن لا وقت نملكه للبكاء على ما مضى، والتحسر على ما فات، وإنما للعمل على ترميم ما أفسده الأشرار المبطلون وتمكينكم من حقوقكم كاملة دون نقصان. كان هذا الذي عشتيه سفرا لروحك من خلال رؤية نفسك في مرايا ماضيها وما فعلت ذلك إلا لأرسخ ثقتك بي، ولتؤمني بقولي، حتى ننجح فيما نحن فيه خائضون.

اعلمي يا "عيشة" أن الحياة تزاوج النفس بالجسد، وأن النفس خالدة خلود من في السماء، والجسد مآله حيث كان بدايته. والروح يا "عيشة" الرضية جسر بين النفس والبدن، وأنا روح الجبل، مشكاة الخير الأولى، وجسر الحب والخير بين السماء والأرض، وذاك الذي سمعت مناجاة أعدائك له روح الظلام، جسر الشر، وساكن سفح الجبل. وللناس اختيار بين أحد طريقين في عبورهم. طريقي واضحة سهلة يسيرة، وسبله ملتوية وعرة، لا تقوم إلا على الظغائن والأحقاد بين الناس. شرابي لبن خالص، والدم يثمله. نفسي جنة عذراء ونفسه جحيم تلدغ نيرانها نفوس تابعيه.

وشيء لنا أن تكون على الأرض صراعاتنا والأبدان واجهات حروب الأنفس المعتلة، ندول أياما، وندال أياما أخرى إلى أن تنصرم وساطات الأنفس بالأبدان وتنحل حيث مستقراتها الأخيرة في خلودها الأزلي، بينما تندثر الأجساد في الأرض التي انبثت منها. وشيء أن ينتهي بنا تصارعنا إلى أرضكم، وإذا بي استقر قمة جبلها، ويسكن سفحه. أروم القمة تقربا إلى السماء وصفائها، ويندحر إلى القعر تمجيدا لما فيه من دنس. وجعل يقوى ساعة ضعفي وفرقتكم، ويجبن خائبا إلى ظلمته حين انتشار الخير بينكم، وصفاء سرائركم. لقد كان سفر روحك جسر بين ضفتي حاضرك وماضيك، وذلك لتعيدي اكتشاف أخطائك ولتتعرفي على ما يتربص بكم من شر رابض. أبلغي "قاسما" كلامي، واسمعيه صوتي، قبل أن ترحل روحك إلى حيث الخير الدائم، حتى تجد نفسك ضفتها المفقودة الجديدة وحياة أخرى تنتقلين إليها في بدن آخر بوساطة روحك. وأعلميه أن النفس لها أكثر من بدن تسكنه وتحيا داخله وفي أبدان أخرى من بعده أكثر من حياة لا تحتفظ خلالها إلا ببقايا صور مبعثرة وغير متناسقة العرض، وتأتي أحيانا بشكل رؤى وأحلام، وأحيانا أخرى في بديهيات تلتصق بشخوصها، تؤمن بهاأو تكون قد آمنت بها قبلا، ولا تحتاج في ذلك إلا إلى نتف من الكلام. أعلمي "قاسما" بأمري، وأسمعيه صوتي، وإني لداعيه إلى سفر آخر في حياة أخرى عاشتها نفسه قبلا، فليتعلم مما علم، وليجعل يقينه للخير هو الغالب، وليذكر أن خدام روح الظلام تتعقبه حيثما سار، وهي ولا شك سترافقه دون علمه إلى سفره الآتي، فليحترس ولا يأمن أبدا لأحد، وادعيه إلى تاونات أرض الجبال والرجال، ومبتدأ صراعنا ما استطاع.

يا "عيشة" إذا كانت الروح مبدأ الحياة ومصدرها، ومحرك الأبدان ومسكنها، فإن النفس مصدر التوجيه، بعد الفهم والتفكير، وهي في ظهورها إما نامية تجمع ما ينمو من موجودات، أو حساسة تضم من لهم حس وعاطفة، أو ناطقة وانفرد بها من له عقل ولسان.

والروح هي الحقيقة المفكرة، والذات المتأملة للأشياء، المتصورة لها تقابل المادة كما تواجه الجسد.

لا ينبغي "لقاسم" الفشل، وإلا لضاعت روحه، ولظلت معلقة كجسر غير موصول ينشد ضفتيه ولا يستطيع بلوغ إحداهما بله الإثنتين، وسيخسر بكل ذلك كل ما يملك، أملاكه الحقيقية، ماضيه، حاضره، مستقبله، روحه، نفسه وبدنه وتشرد أرواح من تعلقوا به، وآمنوا بنجاحه.

أما إذا تحققت له العودة المرغوب فيها، ودحر أعداءه، فإنه سيستعيد كل أملاكه الحقيقية، وكل ما أخذ منكم بالغصب والحيلة. ارحلي إلى تاونات وادخلي بيت زوجك المهجور، ولا تخشي أحدا لأنك صرت تعلمين أشياء يشق عليهم الوصول إليها، وتملكين أشياء لا يملكونها، ولتصحبي معك ابنتيك لتكونا لك عونا وسندا، وادعي "قاسما" بعدما تسجلي له وصيتك وأطلعيه على حياته السالفة كلها، وليعلموا جميعا أنهم عائدون إلى أرض أجدادهم، ومستعيدون ممتلكاتكم الحقيقية. أنا في حاجة لكم يا "عيشة" كما أنتم في حاجة لي، فالفرقة بين الناس قد اتسعت، والشقة بينهم قد زادت، ألا ترين ما قامت به "ليليان" وأمها وابنها من دسائس ومكائد أعادت البغضاء بين أهليك أكثر من قبل. لم تعد العداوة بين القبيلتين فحسب بل أضحت بتدبير أياديهم الخفية في ظلام الليل بين الأسرة الواحدة، وفي قلب البيت الواحد، وإني لأخشى أن يستفحل الضرر، فيغدو الشقاق وسط البدن الواحد. وكل ذلك يقوي الشر، وينصره ويرفع ألويته، بينما نضعف أمامه مهما صلبت مقاومتنا. لم ألجأ لك، يا "عيشة الرضية"، و"لقاسم" إلا بعدما أحسست الخطر قد تضاعف من حولنا، وطوقنا من كل جانب، فاعلميه بأمري، واخبريه أنه من جند الخير المنصورين، وأوصيه حين عودته الظافرة، بأن يسجل وصيته بدوره لبنيه يوصيهم من بعده، ويعلمهم بما حدث معكم، حتى لا يتكرر ذلك معهم.

وكما لم يسبق ظهوره تقديم، أو سلام غادر دون توديع، فألفيتني أكابد إرهاق أرقي، ووحشة ليلي، وركوني إلى جوفه الساخن، وآلام التذكر تمزق أحشائي ولوعة معاودة مقاطع من حياتي، وحياة من أحببت تطالعني، كوحش ينشب مخالبه في بدني حتى لأخاله ينهشها دون رحمة. كنت في الهزيع الأخير من الليل، أسائل نفسي دون أن أنتظر إجابات، أو أطمع في ردود.

لماذا قرن ليلى بألمي؟

أما آن الوقت لبلوج الصبح وانصرام الليل وحلكته المخيفة؟ فلأنتظرن ذلك، أليس ذلك ما كنت أفعله طول حياتي؟ وأبصرت عمري كله كغرفة انتظار كبرى، أنفقته أنتظر أن تحل عقدي لوحدها دون أن أملك الشجاعة لمواجهتها، فليحن وقت العمل على حلها إذن، والخروج من انتظارياتي. أليس العيب في، وفي سلبيتي المطلقة؟ هل الفرار من المشاكل، حل لها؟

قطعا لا، فلأخرجن إذن من عيوبي، ولأتركها إلى الأبد دون تفكير في العودة إليها، ولتكن أرضي المنبوذة التي سأفر منها بلا رجعة أو حنين، ولأنطلقن من عالمي المسيج الذي دفعني إليه جبني الشديد وخوفي على أبنائي.

قضيت الليل كله أغلي، تتقاذفني أمواج الهواجس دون أن ترسى بي إلى مرفأ، وفجأة ظهر لي ضوء بعيد، رأيته يدنو مني شيئا فشيئا.