مررت يدي على فكي الذي أحسسته هشا، وإذا بالدم على يدي. رؤية الدماء كانت ترعبني دوما. شيء لم أستطع فهمه كما أشياء أخرى كثيرة، كان يحدث معي.
أيعقل أن يصاب فك شخص آخر، في زمن آخر، ويقطر فمي دما، في حاضرنا؟
مستحيل، قطعا.
لم أكن أظن إلا أن الأمر من تدبير الساحرة لإقناعي بالمواصلة، واستمرار هذه المهزلة، فلم أشعر إلا وأنا أنتفض مجددا:
- السحرة، الأشرار. كلكم أشرار. لا توجد ذرة صدق واحدة في كل هذا. أين "رافان"؟ أين يختبئ؟
لا تريدون الإفصاح عن مكانه؟ حسنا. أنا راحل عنكما، وستفشلون جميعا في مراميكم. لإن نجح في أخذ أموالنا، وعقل أختي، وصحة أمي فإنه لن يظفر مني بشيء. أعلماه بهذا، أم أنه يسمعني؟ فاعلم هذا يا ابن الكلب.
كان الغضب والرعب مما رأيت وعشت حجابين يخفيان خلفهما أحاسيس حبي "لوعد"، يقيني المطلق الوحيد، وألفتي غير المبررة مع صوت المرأة التي رميتها بأرذل النعوت وأقبحها، وتآلفي مع تاونات الجبال والرجال، "بركاتك مولاي بوشتة الخمار".
شدتني "وعد" من يدي وعيناها مركزتان علي، تحاول نزع كل لبس، وتسكين خواطري ما استطاعت، ثم قالت بصوتها الحنون الذي لازلت أسمعه إلى الآن، كأن الامر حدث معي بالأمس.
- "قاسم" حبيبي، سل قلبك يحدثك من أكون فعلا؟ حياتي كلها فداء لك فكيف لي خيانتك وغدرك؟ ولو أمرتني الآن لرميت نفسي في بئر بلا قرار، فلا تدع الغضب والجهل ينالان منك، ويفسدان عليك الأمر كله.
كانت ساحرة فعلا، فهي نفسها التي في لقاء قصير ملكت كل نفسي، وأسرتني حرا في مملكتها فكيف الفعل؟ وما العمل وصوتها يتمازج مع أنفاسها فيلامسان قلبي وروحي ويفعلان فعل السحر وأكثر منه؟
كلماتها تلك كانت كفيلة بأن تعيدني تحت تأثير مخدر سحرها، وأرجعت إلى نفسي بعض ثقتها وهدوئها، وبعضا من ثقتي بها، وإذ أحسست التعب ينال منها كل منال عدت إلى تلك الغرفة أطلب الراحة، ثم طفقت أروي لهما ما جرى معي. أبديتا الدهشة، التي رددتها إلى غرائبيتها وجدتها عليهما، بيد أن الحقيقة لم تكن كذلك، إذ قالت "وجد":
- ولكنك لم تكد تمضي إلا وقتا قصيرا، كنت خلاله أحاول قلب الشريط إلى وجهه الثاني حتى سمعنا فيه صرختك المدوية، وخروجك بتلك الطريقة والغضب يجتاحك.
كانت الغرابة إذن في الوقت الذي قلت أني استغرقته في سفري، وما عشته داخل جسد المصارع، ورحلة العودة. كل ذلك، و"وجد" تحاول قلب الشريط. قرأت استغرابا صادقا وحيرة واضحة على طيفهما في الغرفة الرمادية. وفجأة سمعت صوتا كأنه انعتق لتوه من صدري. وكان صوت الجدة الغريبة نفسه يهمس بحنان دافق:
كأني مطلعة عليك يا بني والغضب يكاد يخبلك ويطفئ نور بصيرتك، ويوغل بك إلى وحل الجهل والجور، فهدئ من روعك ووطن نفسك على اليقين والثبات، وثق بأني لخيرك أسعى ولصالحك أدعوك.
قد تقول عني عجوز مخرفة فاقدة العقل مسلوبة الرشد أو ساحرة بئيسة قادتها سبل الحيلة إليك لتتسلى بك من خلف شرائطها وتمعن في عذابك، أو مشعوذة محتالة هدفها نهب روحك، وسلبك ماضيك والحجر على مستقبلك.
إنما أنا جدتك التي تحبك، وذاك ما ستزداد يقينا به فيما بعد، سل قلبك فإنه لن يخذلك، ولن يخونك ولو خانك، وخدعك كل من حولك فلا تكرر أخطائي القديمة التي أدركت نتائجها، ونجتر خيباتها جميعنا الآن.
الجبن والفرار عدواك، فاصرعهما تنجو بنفسك.
وأنا صغيرة كنت جاهلة لأمور عدة تتحرك حولي لا أكاد أبصرها إلا بعد طول تركيز وتأمل ولم أك أملك إلا شموخ هذي الجبال التي تحفك من كل جانب بالحدب والإنعطاف، بيد أن الأيام كانت مدرستي ومعلمتي، دخلتها دون علمي، أو سابق إرادة فأخذت عنها وتعرفت على أشياء كانت في عرفي وفي أعراف الناس غير مقبولة، وغير مستساغة. خلاصتي، درسي الأول والأهم على الإطلاق يابني كان ألا مستحيل في هذا الوجود العابث بأحكامه وتصاريف قدره. فلعله حي في مدينة الممكنات شق علينا دخوله والسير فيه بكل حرية. المحال كان دوما شقيقا للموجود والكائن. نبحث له عن تسميات نخفي من ورائها خوفنا من تقبله والتصديق به وجهلنا المطلق. فمرة خارق، وأخرى غريب، وبعدها معجزة. كل الروابط يا بني تجمع بين المعقول في نظرنا، واللامعقول في نظرنا دوما. العجز يأتي منا يا بني. نعجز دوما عن الإحاطة بتلك الصلات، فالقصور من سماتنا وضعف البصيرة من ضعف شخوصنا.
أجد لك أعذارا يا بني في كل ما رأيت وسمعت. كيف لا أفعل وأنا أيضا رغم سني، وتجاربي ضقت بالأمر بدءا وخلته وهما أو مسا من الجنون يزحف إلى عقلي بعدما استوطن اليأس قلبي والشيخوخة بدني؟
كان الشك يقيني الوحيد، رغم كل ما رأيته من حقائق انتصبت أمامي تعلن وجودها. لكن التصديق لم يكن مطلقا، وإذا بصوت روح الجبل يعلن وجوده مرة أخرى في حياتي:
- أعلم هذا الذي تمور به نفسك ويعتمل داخلها حتى ليكاد يفتك بك، ويلقي بك إلى ما تجهلين وقعه عليك وعلى من تحبين، فاعلمي أن الأمر جلل لا يحتمل منك ذرة شك واحدة وإن كان الشك طريقك نحو اليقين. فماذا ترين أني أريد وراءك غير صالحك، وصالح الخير فيك، وفي الناس أجمعين عبرك؟
تثبتي يا "عيشة"، وشدي بيده لأني أرى "قاسما" من طينتك، شكاك مرتاب، وأخشى عليه أن يجبن فنفقده إلى الأبد، ويظل معلقا بين الماضي وما سيأتي.
وحتى نثبت قلبه على الإيمان والتصديق، سنعمل على إعادته إلى فترة من حياة عاشها ولا يكاد يعقلها، على أن نتحكم في طريق ذهابه وعودته، مشبكين أصابعنا آملين ألا يتعقبوه هنالك. مرمانا من خلف ذلك أن تصفو نفسه، ومتى تحقق له ذلك أعلميه أن رحلته قد ابتدأت.
لا أعلم، إن كان سيدرك إذا أدخل سفره من يكون أو من أين أتى؟ لكن علمي أكيد أنه لن يكون وحيدا هنالك، فأوصيه بالحذر ما استطاع، فليحذر الجميع.
اعلميه أن ذاكرته ستؤوب معه. فليروي لأبنائه من بعده ما حدث معه، وليوصيهم كما أوصيته. فالخير معهم من بعده خالد، خلود الشر مع أعدائهم. تلك أعراف الطبيعة حرب إلى ما لا نهاية نخسر في جبهة، ونفوز في جبهة أخرى. وأتمنى صادقاً أن ننتصر في جبهة قاسم.
كلمات روح الجبل يا بني مازالت قارة في نفسي، وهي كما سمعتها أعيدها لك عسى أن تفيد منها وتكون لك عونا وملاذا ساعات حرجك وضعفك.
ما بالك تقابل حب أخيك لك، بالجفاء والقسوة؟
لم لا تسعى إليه سعيه لك؟
انصت لأمك يا بني التي للم شملكما تهدف، ولا تعر كلام "أبانا" اهتماما. لإن أخذت السنون الطوال بصره فقد أذهبت نور بصيرته، فإذا به يسعى بينكما بالشقاق والفرقة، وكأنكما لم تتدحرجا من بطن واحدة. إصعد الجبل صباحا إلى أخيك الأكبر، واطلب صفحه ومعذرته، فإنه غافر لك ما أذنبت في حقه، كيف لا يفعل وهو يحبك؟ كنت دوما في قلبه. ألا تذكر يوم انتشلك صريعا من الوادي؟ خاطر بحياته لأجلك. لم يفكر إلا في إنقاذك، ولبث بعد ذلك يشكو المرض أياما بلياليها تردد أنينه ظلمات الأفق المديد.
كم من الحوادث علي أن أسرد لك مذكرة ما فعله معك، حتى تدرك نبله وسماحة خلاله؟
أحب المسكين "حنين" في صمت وثوت بقلبه أعواما تتقاسمه أعذب أيام حلمه، وفي ساعة من ساعات حاجته لمن ينصت له، اختارك وأنزلك منزلة عظمى، فحدثك بأمرها فانظر ماذا كان فعلك؟
هرعت لوالدها تخطبها لك. أكذا يفعل الأخ مع أخيه؟ ماذا كنت تنتظر منه؟ لو كان غيرك من فعلها إذن لصرعه دون تفكير، ولكنك "سرمد" الذي يحب، فاختار أن يعتزل البلدة ومن فيها، واعتصم بالجبل يرافقه الألم من سوء صنيعك. ولو كنت صادقا في حبها لما حدثتك بشأنها، ولكنك غير ذلك. فما أن اطمأن خاطرك أنه لن يظفر بها، حتى اعتذرت عن خطبتها وأذهلت الجميع بفعلك ذلك، فمتى تعقل؟
أتريد أن تقتلني حسرة وكمدا على "لاوي" أخيك الذي ساح في الجبل هائما على وجهه، وهذي أعوام ثلاثة مرت على غيبته دون أثر لحياة؟
لا تقابل أباك غدا، فإنه سيثبطك عن تعقب آثاره وذكراه، وامضي خلفه متى فتحت عينيك. ليكن إفطارك صباحا، بحثا عن "لاوي" ومغنمك الوصول إليه، ومفازتك إحضاره هاهنا.
أرجوك، "سرمد" لا تعد بدونه، فإن قلب أمك لا يعرف السكينة وقطعة منها غائبة عن عينيها اللتين ما فتئتا تنزفان. فعجل يا بني، عجل إليه.
كانت صرخة شقت، الظلام، وهدأة الليل انبعثت فارة من صدره المضطرب الذي أحسه سيلفظ قلبه المتواتر النبضات أمامه. مرر كفيه على وجهه المبتل عرقا يمسحه كأنه كان يعدو في حلمه مسافات طويلة أنهكته مع كلمات أمه التي ظلت تردد صداها داخائله، أن أقصد الجبل وأحضر "لاوي" أخاك.
خرج من خبائه مكدودا منهك القوى خائرها، تنبعث غلائل الدخان من جسمه الفاتر، فلفحته أنسام ليلة ساهرة. سمق بناظريه إلى السماء كأنه يطلب غوث نجومها المنثورة على صفحتها التي جعلت ترقبه على استحياء كأنها غيد فاجأها غريب لدى استحمامها عارية في الخلاء.
انتصبت أمامه جبال تستعرض عنادها وصلابتها أمام كل مقتحم، وتذكر وصية أمه له في رؤياه. كان يود أن ينتظر حتى انبلاج الصبح، بيد أن صوتا من داخله ظل يلح عليه، أن عجل يا "سرمد"، عجل يابني، ثم استشعر نفسه كأنه يساق إلى تلك الجبال دون أن يستطيع منع نفسه عنها، كأنه مدفوع بيد خفية ذات قوى عظيمة. كان سيره مسرعا، ثم أضحى هرولة، فعدوا بأقصى سرعته إليها.
كلمات أمه أحيت بداخله شعور الأخوة الذي أفل عنه حين بزغت بوادر الشقاق والفرقة بينهما، و"حنين" نقطة في محيط اختلافهما، بيد أنه بعد سماع اسمها بدأت ملامحها تجتاح عقله وقلبه. أكان دافعه إليها حب أم غيرة من أخيه وتنغيصا لهنائه وسعادته؟
لماذا خانها وشعور بالحب نحوها مدفون بقراره؟ لم يكن يذكر صورة أمه جيدا، إذ قضت وهو بعد صغير، بيد أن "لاوي" الذي يكبره، يعقلها جيدا. لم تعده في نومه أبدا، وإصراره على تنفيذ وصيتها تلك الليلة إعتراف منه بشوقه المحموم لها، فقال بإصرار يحادث نفسه:
- أعدك أمي أني سأجد أخي وسأعتذر منه على سوء تصرفي معه وطول صبره علي، فليعد لأراضينا ويتزوج من "حنين" التي أحب فعلا، وإن كان في ذلك شقائي. فمرحى للعذاب، إن كان فيه سعادة أخي و... "حنين"، وراحة روحك المعذبة.