الوجه العاشر

22 0 00

لم تكن استعانة "علي" بالسحرة بالأمر الجديد عليه. فقد دأب على ذلك طويلا، وقادته الغيرة وحب الإنتقام إلى أحد أصدقائه القدامى العاملين في الظلام، فأعمل سحره لتفريقهما، بيد أنه خاب إذ ظلل زواجهما صراخ توأم ذكر بعد عامهما الأول: "إبراهيم" و"عمر". ولم يعل صبره ولا كلّ عزمه، فمازال متنقلا من دعي إلى دجال إلى ساحر إلى محتال إلى أن تحرك شيطان الخبث لديه وجعل يفكر في سبيل يصيب به مناه. وهل يستيقظ الشيطان إلا في أوكار الظلام؟ إذ وبينما كان يجالسها أفتت عليه بشرك يقضي به على غريمه.

فاجرة يا بني لا حصر لعدد من قاسمتهم لياليهم. فضحته بإيعاز من "علي" الغادر، وطعنته في أعز ما ملك طول عمره، ونزعت من فوق رأسه تاجه المرصع الذي يبهيه. كانت ترقبه آيبا من صلاة الفجر، فإذا بها تستدرجه إليها ثم تشرع بالصياح والاستنجاد بأعلى صوتها بعدما قدت ثوبها وشقته، فرمته بالفجر. لاشك أن صوتي يصل إليك مضمنا بنحيبي في مرارة تأثرا.

أيكون فاجرا من كان بمثل خلاله الفاضلة النبيلة؟ ثم إنه كان قادما من بيت الله فجرا. لايمكن أن يكون السلوك فضيلة في ساعة ورذيلة في أخرى. أشك في ذلك حقا! وانطلت حيلتها على الناس أجمعين، وتناسوا من كان الرجل فيهم. حيلة نسائية أفلحت فيما عجز عنه عتاة السحرة. أخبرتهم والدمع يجري من عينيها مدرارا أنها عابرة سبيل لم تجد مكانا يأويها، غالبها النعاس فلم تنتبه إلا وهذا الرجل ينقض عليها كوحش ضار يفتض بكارتها. بقع الدم يا ولدي، أعدتها سلفا منثورة على ثوبها شفيعتها فيما ادعته. أنكروا ذلك عليه ولم يمهلوه دفاعه عن نفسه، كما لم يمهلوا أنفسهم وقتا حتى يتبينوا صورته جيدا وكانوا علماء به، فإذا أحكامهم تنزل عليه قاسية مجحفة وظلم الأحبة وذوي القربى أقسى وأمر.

"عيشة"، زوجه، الوحيدة التي لم تكن منهم. لم تشك في براءته قط. وكان صك براءته معرفتها المتجذرة به. لكن رجة نفسه الحساسة كانت عنيفة مدمرة أمام نظرات الزراية والاتهام التي جعلت تصيبه كسهام سامة أينما سار وأيان اتجه، وكانت سبب عارض ألم به فإذا هو مدنف لا يبرح بيته وجعا وكمدا. والده الشيخ أصابه أيضا لفح المهانة والمقاطعة. لم يقاوم آثاره طويلا ليسلم روحه إلى صاحبها. وجعلت "عيشة" تعنى بزوجها الراقد مرضا الذي اشتد ألمه حينما علم بأنه كان سببا في موت والده. حاولت عبثا أن تخفف عنه، وتداويه بحبها وبأعشاب تغليها له فتسقيه ماءها. بدأ يتضاءل بالتدرج حتى تلاشى واضمحل في ليلة ممطرة قارس بردها. امتزجت صرختها بصرخات السماء المرعدة وعبر المسكين إلى الضفة الأخرى، مجبرا كارها.

لم تتلق فيه عزاء من أحد وجاهدت كثيرا وحيدة منكسرة تودع جسده الثرى ليلا. غريبة أضحت وسطهم كما كانت. لا تكاد امرأة تحدثها أو تلقي عليها تحية إذا صادفتها أو تسمع ردا على تحية لها. ولملمت شجاعتها الكامنة وأجمعت أمرها على حمل ابنيها إلى قبيلتها، ملاذها الأخير حيث بيت أبيها.

لم تأبه قط ب"علي" الغادر وتحرشاته. قوية كما عرفت على الدوام رغم انكسارها. نظراتها المتحدية لم تتغير أبدا حتى أمامه، وإن تفنن في ابتداع خطط للتودد لها والتقرب منها. كانت نافرة منه ترده في كل مرة موليا والخيبة تتعقب ذيوله. كان متذمرا كما يبدو للعيان من عقر زوجه ظاهرا وأخفى سرا عقمه وهو الذي عاشر نسوة من داخل قبيلته ومن خارجها دون أن يفلح في إخصاب أحداهن.

وإذا بالفاجرة تظهر مجددا من لا مكان. كأنها تتعقب "عيشة" الصبورة لتنغص عليها مقامها حيثما تواجدت. لم تكفها الأرواح التي أزهقتها ولا الأنفس التي شقيت جراءها. أتت مرضعة لأنثى قالت إنها ابنتها. واستوطنت القبيلة إثر اتفاق ضمني مع "علي" المهاب الجانب في قبيلته. صاحبته سرا في البدء بيد أن الناس ما عتموا أن بلغتهم آيات ظاهرة عن تلك الصحبة المريبة المخزية، ولم يجرؤ أحد على قول شيء خوفا من بطشه. زوجه هي الأخرى صمتت متواطئة مذعنة، وهي المرأة العاقر التي لا تصلح لشيء ولاشوكة لها ولاسندا.

يكبر ابناها. تسيجهما بحنانها ودفئها، وتوجههما بنصائحها ودعواتها. "إبراهيم" كان طامحا بلاحدود. مشرئب العنق على الدوام. لايرضى بالقليل ويبذل كل ما يملك وما لايملك للحصول على ما يريد. وورث "عمر" قناعة أمه وبساطتها وصمودها، وطيبة أبيه وعزة نفسه.

لطالما حذرتهما من "علي" الثعبان الذي يربض بقربهما، يتحين نهزة من جود الأقدار وغفلة الزمان ليذيقهما سم نفسه الحاقدة الزعاف. لم يرعو "إبراهيم" لذلك وهو المستخف بعظام الأمور التواق إلى المجازفة، واستجاب لنصحها "عمر" البر.

ضبط ليلا يتلاعب بالحدود ويغيرها فإذا حكم العائلة المجاورة ينزل عليه يهدده في حياته. علمت أمه أن الأسرة كانت تتربص به إذ قيل أنه كان يتحرش بإحدى بناتها فإذا به يفر ليلا كسارق يخرج من القبيلة إلى ضفة طالما حلم العبور إليها. يعتصم في فاس حذرا من أن يتعرفه أحد أو يدل عليه واش. وإذا هو يحتفظ ب"إبراهيم" ويضيف "الشرقي" لقبا له.

أرى البغتة تعودك مجددا وما ينبغي لها. ألم أقل لك إن ماضيك ستبصرك من خلاله؟ لم يحدث والدك أحدا عن ماضيه ولاأتى على تاونات ذكرا. ظل شبح الخوف يستوطنه حتى بعدما أسس إمبراطوريته المغتصبة. لم يكن يدري أنه ولو فرّ منها فإنها ستلحق به أنّى ذهب.

في فاس، ضفته المرجوة، سيتعرف على خالك، وهناك سيشرع في إنشاء أولى ركائز أحلامه. تزوج من أمك التي وضعتك هناك وأختك الشريدة. ومن فاس، بعدما بدأت نجاحاته تطفو على حياتكم، سيتطلع إلى ضفة أبعد ودرجات أعلى. الرباط حيث سيخطو خطوته الكبرى لدخولها والتدرج في سلم الثراء فيها ومنها إلى البيضاء. لكن شيئا غريبا قلما حدث معه يربطه بالرباط فيستقر فيها بعدما بلغ ازدهار أعماله أوجه، وانتشرت شركاته ومصالحه داخل المغرب بل وخارجه أيضا. لم يحاول العودة للبحث عن أمه وأخيه "عمر" حتى بعد أن أضحى من الثراء ما يدفع عنه خوفه. حقيقة الأمر أنه كان يخشى ماضيه. قطع كل تلك المراحل وحيدا، وعبر إلى ضفاف أحلامه الرابضة وحيدا، وعدّ نفسه وحيدا. كذب يوم تعرف على خالك ومن بعد على عائلته، حين أخبرهم أنه قادم من الشرق لذلك لقب ب"الشرقي"، وأن كل عائلته قضت في عام الجوع. أسقط منطقة بأكملها من جغرافيا نفسه، واجثت أناسا أحبوه وأخلصوا في رعايته، من ذاكرته. وإذا به يستعيض عن أسرته بأسرة زوجه التي منحته فيما منحته، لقبا ورأسمال تجارة. كانت فاس منطلقه الثاني بعد تاونات، أصل الحكاية ونبعها وأمه الثانية التي لم يبر بها إذ قلت زياراته لها مع توالي نجاحات عمله وازدهار تجارته حتى نسيها كما فعل مع أمه الأولى.

كذاك كان "إبراهيم". ولإن فعل ما فعل، فليعلم أن أمه قد غفرت له خطاياه وزلاته أجمعها. لقد سمعتها تبكي موته. نعم يا بني، لقد كان صوتها الأصم يصلك مع نحيبها في هذه الشرائط. فاعلم أني قد غفرت له قسوة قلبه وغلظته.

وإذا أنا و"عمر" نحاول جبر شروخه العديدة التي ما إن ننتهي إلى حل عقدة حتى نفاجأ بمصيبة أخرى قام بها في الخفاء. أنفقنا الكثير من الوقت والجهد والهدايا وماء الوجه في اعتذارياتنا المتواصلة لإصلاح أخطائه فإذا بنذر الشؤم تعاود زيارتنا تحلق فوق رأسينا.

لإن أوتي "إبراهيم" من نزقه وقوة طموحه، إذا بي أصاب في "عمر" بخيبة موجعة أليمة وقد أوتي من مسالمته ورهافة حسه وطيبة قلبه.

تشبه عمك كثيرا يا "قاسم". ورثت عنه بعض ملامح أعماقه يا بني. وقع في الحب من عل كما وقعت، وشتان ما بين الوقوعين.

أمام كل بنات القبيلة، لم يجد إلا ابنة الفاجرة "ليليان". كان اسمها غريبا عن قبيلتنا وعن منطقتنا كلها غرابة أمها وأفعالها وأصلها ومنبتها.

ابنة من كانت حقا؟

كذلك ملامحها كانت غريبة عنا. جميلات بناتنا إلا أن جمالهن أثيل متزن شامخ شموخ الجبال التي احتضنتهن. جمالهن يا بني يتوافق وطبيعتنا وأعرافنا وعيون وأذواق رجالنا، بيد أن جمالها كان من نوع آخرغريب عنا لم نعهده فينا من قبل. كان مكشوفا فاضحا، يبهر الأعين حد العمى ويخيف. كان مخيفا حقا.

ولإن كانت بيضاء البشرة، فإن بناتنا بيض أيضا رغم لفح شمس تطاردهن في أعمالهن خارج بيوتاتهن. لم يكن الإختلاف هنا ولاكانت الغرابة ثمّ. لون عينيها الشهلاوين وشعرها الأشقر لم يكن مألوفا لدينا، ثم صعوبتها في إخراج بعض الحروف بسبب لثغ لسانها الظاهر ولكنتها الغريبة.

ما أزعجني أكثر في حكاية حبها المزعوم ذاك، أنها كانت ابنة الفاجرة التي سقتني من كأس الشقاء والحرمان، وكانت سببا في موت والده، جدك، لؤما وغدرا وطعنته في ظهره وأخذت منه كل ما كان يملك. بدأت حكايتهما في غفلة مني. ظننتني وضعت في نفسه ما أمكنني من سلاح يواجه به "عليا" و"الفاجرة"، فإذا به يهزم في جبهة منسية. أوقعته نظرات "ليليان" وأدخلته جنة من ظلال حسبها حقيقة جهلا وتوهما. دأب سرا على الالتقاء بها. فاجئني ذات يوم بخبر رقصت له جوانحي فرحا بدءا، بيد أنه غمّني مع استرساله في الحديث عن عروسه المرتقبة.

أتاني عازما مصمما يحفظ ما يقول وكأنه لقن ذلك تلقينا. كان يملك إجابات على كل أسئلتي. كان يريدني أن أذهب إلى "الفاجرة" صاغرة أطلب يد ابنتها ل"عمر" ابني، وأنا أعلم أن ذلك كله ما أريد منه حقا إلا أن تكسر شوكة أنفتي وتذل ناصيتي. كنت أعلم أن "عليا" الملعون من يخطط ويدبر، وما "الفاجرة" وابنتها إلا يديه اللتين يسلطهما علينا لغايات دفينة في نفسه نجهلها وتعلمانها معه حتما.

أكان علي أن أقبل ذلك الحب الموهوم؟ أمر دونه الموت.

أكان علي أن أبارك كل ذلك وأنا "عيشة" الشموخ والقوة والتحدي؟

زد على ذلك جهلي الكلي بما يخطط له "علي" في عالمه الخفي المظلم. كنت أخشى علينا من تدبيره الشيطاني. ولما جابهته بحقيقة "الفاجرة" و"علي" صاحب وشمة قلبي المحرقة وندبته الغائرة، وفتحت عينيه على "ليليان" كما أراها ويراها معي من في القبيلة سرا، استسلم لرغبتي الجارفة بدون حماس وبألم أخرس صامت. ولعلمي بعذابه وشقائه، وعدم استطاعته نسيانها تماما هرعت إلى حل آخر. رضيت بعذابي على أن يجهز عليه القهر والعذاب يوما إثر يوم إذ يراها دنية منه محرمة عليه.

لو خيرت لافتديت ابناي بروحي وحياتي على أن ألمح طيف عبرة تستوطن مقلة أو تعبر منها. كنت دوما متحفزة وما أزل. لأن أقضى على أن أسمع همس أنين يمرق بين ضلوع أحدكم. واخترت أن أفعل مثل ما فعلته مع أبيه من قبل حين تركت كل شيء خلفي في سبيل حب تحرك بين أحشائي، وهزم حبي لابني حبي لأرضي الطيبة المباركة. خرجنا ليلا، نلتف بعباءته القاتمة. نتعثر في طيفينا محاذرين أن تقع عين ساهرة علينا. ترقبنا السماء بعينها المقمرة. ترافقنا دعوات جبال الأنفة والعزة. ذرات تراب أرضنا تشبثت بأرجلنا متوسلة متضرعة ترجونا ألا نغادر. لم تكن تردنا أن نكون "إبراهيم" آخر. كانت تخشى علينا الضياع بين الضفاف. كان يصل صماخيّ انتحابها وتوسلها. أخذت أحفن منها وأودعها صرة صارت بعد ذلك ملاذي عند الضيق واشتداد الوجد. كنت أتشممها بشوق مشفوع بأمل العودة ذات يوم، مرفوعة الهامة لاأخاف من شيء ولاأخشى على أبنائي أحدا.

(يتبع)