"محمد" الذي استيأس من حبها له فقلبت طباعه، حتى إنه قصد طنجة باب الأمل الزائف فرارا أو محاولا ذلك. استوى في عينيه الموت والحياة.
ظن خطأ أن "وعدا" أحبتك لغناك، فقرر المغامرة حتى يعود إليها ثريا يخضعها لحبه. كأني به أراد أن يعبر إلى الضفة الأخرى حيث أنت وعائلتك. ظن الأمر يسيرا. زورق صغير يقوده مجدفا وصفيره سعادة يرتفع في العنان فإذا به في الرباط. لكن الأمر أشق وأصعب. ينقلب الزورق به وبمن كان معه. ويغرق العشرات من أشباهه. وينجو بعد أن رأى الموت رأي العين. ويؤوب إلى سلا المغبونة أشد يأسا وصمتا من ذي قبل. وتتحول انقطاعاته عن الدراسة إلى هجر قاطع امتد حتى الحي الذي ولد فيه. وغابت أخباره عنها مدة غير يسيرة. كان قاربه الأول الذي انقلب به شراعه اليأس نحو أمل مجهول. ولإن ارتد من الموت منه إذ صدمه، فقد ظل طيف الموت يتماهى مع طيفه الذي لمحته ذات يوم من أواسط ماي، يبيع مصاحف في أبواب أحد المساجد. تعرفته بصعوبة لشدة شحوب وجهه وللحيته الصهباء الطويلة التي حاذت صدره. كان يلبس ثوبا أبيض قشيبا. كان يلبس كفنه، ويحمل نعشه بين يديه. كان يبيع كلام الله عند أبواب المساجد. كان...
أشك أن توصل رياح الكراهية العاتية التي تدفع شراع الظلام المحرك لقاربه الثاني حيث الإرجاف، مطامع من يتاجر في يأس بنينا. أشك في ذلك! حسرة عليكم أبنائي. من ذا يقول أنه "محمد" الوديع الذي رأيته زهرة تتفتح أمام عيني يغدو بتلك البشاعة التي أبصرتها تلك الليلة؟
وانغمس أبوك في مستنقع "آمال" التي وإن خسرت رهانها كسبت رهانات حياتها، ولامست أحلام طفولتها وحققت أهداف سدارتها ومالم تحلم به يوما قط.
شراك "رافان" الماكر شدت عقاله إلى القعر ليقضي حاجاته في غيبته. وكنت غائبا أيضا.
هنا ألومك. ألم تكن تحصن أوقات لهوك من ساعات الجد والعمل. فلم تركت أحزانك ومشاكلك الشخصية تؤثر على عملك؟ غبت فاستفرد "رافان" ب"محمد مبروك" الذي لا طاقة له وحده على التصدي له. حاول أن يحذرك غير ما مرة بعدما تعذر عليه الاتصال بأبيك المفقود في صحراء "آمال". أتذكر ذاك الصباح الذي هاتفك، وكنت ماتزال تجتر آثار ليلة لما تخبو جذوة المجون فيها فوبخته بكلام قارع. جرحته وهو في منزلة عمك. تأثر كثيرا فقد جرحته وما ود إلا مصلحتكم.
طاغ جدا "رافان" ذاك ولا حدود لسعة تطلعه وتحجر قلبه، هذا إن ملكه. بعد أن قتل أباك، طلق أختك وطردها وأمك من نعيمهما ورمى بكم جميعا إلى البؤس والحرمان بعد الرغد والثراء. أصابتكم صفعة الغدر برجة نفسية قوية. مرضت أمك جراء موت الزوج المباغت، وضاعت كل الممتلكات في غمضة عين، وأصابها شلل نصفي. أما "سهد" فقد فُقدت في بحر الشرود وغدت شبه ميتة.
أكان ذاك "رافان" الذي رأته وأعجبتها أخلاقه السامية؟ وأمسكت بيده برفق وحب ترتقي به الدرجات حتى صار ما صار. وألفيت نفسك وسط أكثر من نار. حب فاشل، وملك ضائع وأم وأخت مفجوعتان تحتاجان إلى الرعاية والمواساة وما أحوجك إليهما. ليتك أنصت ل"محمد مبروك" قبل أن تدهسه سيارة في حادثة سير. ولن يحتاج ذكاؤك إلى كثير عناء ومجاهدة ليدرك من يقف خلف قتله كي يخرسه إلى الأبد. كان كالإعصار يا بني ينسف كل يقف في وجهه. من لم يستطع أن يضمه تحت جناحه دمره. قتل "محمد مبروك" وضمّ "آمال" تحت جناحيه ودجّن "وجدا" إذ وعدها بالزواج، وشدّها إلى وحل نفسه الوضيعة بالتدرك، وأفلح في ذلك. بلغت بها درجة التخديرأن صارت تتجسس له، وتقوم بتصوير ملفات سرية احتفظ بنسخ منها، وجهز عقودا أعملت "آمال" فتنتها والخمر مغعولها ليوقعها دون وعي منه.
وإذا أملاك الإمبراطور الماجن، عذرا، تنتقل إلى "رافان" وتجدوا أنفسكم لا تملكون شيئا. ترحل إلى فاس في حمى أخوالكم. هناك تتصل بك "وجد" بعدما استفاقت من مفعول تخديره لها لإيمانها بأن الحق يقف إلى جانبك، وتأتي بك إلى هنا، تاونات الجبال والرجال حيث ستكتشف أن "وجدا" كاتبة والدك الميت و"وعدا" حبيبتك، أختان. هذه طردها "رافان" الذي جعل يتخلص من كل معاونيه. "آمال" غادرت الدنيا أيضا مع المغادرين بجرعة سم زعاف. وجدت في شقتها وجثة والدك بعد أن انبعثت منها رائحة كريهة انتبه لها الجيران وأعلموا الشرطة. فكانت الفضيحة.
وتلك حصلت على شهادة الباكلوريا بصعوبة بالغة بعد أن عانت في شق هذه السنة الثاني. خسرت حبيبا وفقدت أخا إلى الأبد. لقاؤكما الأول بعد شهور البعاد كان باردا رغم سعادتكما الخفية ولكنه بعض من عناد المحبين. كذبة صغيرة منك ضخمتها الأيام، وظروف أحاطت بها فإذا هي جبل يفصل بينكما. وسوء تفاهم بسيط نفخت الغيرة رياحها العاتية فيه فإذا هو معقد يشقيكما. تناسيتما أن الحب أسمى من ذلك وحبكما أعظم بلاشك.
قد تظن الوقت غير مناسب لأروي لك تفاصيل حكاية حب عجيبة عرفتها هذه الجبال التي تتطلع إليك اليوم بحدب وحنو، وعاشت وقائعها هذه الوهاد التي ترنو معك لصوت الذكرى والأمل، ولكني اختبرت صبرك بما يكفي، وامتحنت سعة تحملك.
قبيلتان جبليتان ألقت بهما أيادي القدر إلى اقتسام واد يفصلهما ينتهي إلى عين رية. عرفت حياة أناسهما الاحتياط والترقب وتحول ذلك إلى تنافر، وبلغ سناه عندما وصل إلى تباغض. بل تعادوا وكادوا يتحاربون لولا الألطاف الإلهية نفخت رياح الحكمة والتعقل عند شيوخ القبيلتين.
حديثي هنا عن حب كسر أسوار رفض الآخر، ضفتنا الأخرى. "عيشة" بطلة حكايتي فاتنة ذات كعب في الجمال وساق في التأدب جعلاها فتاة قبيلتها الأولى، زد على ذلك كونها ابنة شيخ شيوخها المالك لأطايب أرضها ولجنان زيتونها وتينها. لاحقتها الأعين وهي بعد في الثانية عشر من عمرها. تعقبتها وهي بعد "عويشة الصغيرة". كان أول المتيمين بها ابن عمها "علي" فرفضته منذ أول محاولة له. قالت له صراحة ودون مواربة، "لا". لم يكن يعجبها كما أنها سمعت كثيرا من فتيات القبيلة عن مغامراته داخل وخارج ديارهم. لم تكن تريد ملكية مشتركة. رفضته رغم إصراره، وصدته رغم عناده. انتحلت أعذارا بعده لرد خطابا آخرين، وصارت موضوع رهان بين شباب القرية الذين خسروا رهاناتهم جميعا. صرت تعلم الآن أن الرهان للظفر بشخص أمر قديم جدا وليس حكرا على أبناء المدينة. كانت حصنا منيعا لايقربه أحد، ولايستطيع أن ينفذ إليه ليعلم خبايا ما حوى. لم يكن جميع من تقدم إليها خاطبا مفتونا بجمالها فحسب، بل طامعا أيضا في أملاك سترثها بعد موت أبيها. كانت تعلم ذلك فرفضت الجميع. وحقيقة الأمر أنها كانت تحب في صمت. قلبها اهتز لقلب آخر في السفح المقابل.
لم تكن هذه القبيلة "طاطا" لتلك. غريبة هذه الكلمة غرابة معناها. لاأحسب أنك سمعتها من قبل ولقد خبرت مفعولها. عند خروجي وابني نبحث عن وطن يأوينا، وعن رزق يحفظ كرامتنا، وعن ماض تاه عنا، رسينا في جولتنا في ازعير حيث لم يكن "النجديون" ولا "العبيديين" أعداء، بيد أن علاقتهم كانت احتياطا وترقبا وإمعانا في الاحترام. يبدو ذلك جليا عندما يتزاورون، إذ يدخل الزائرون حفاة محملين بالهدايا احتراما لمضيفهم، لكنهم لا يتصلون فيما بينهم بزواج. كان النجديون "طاطا" للعبيديين، وكذلك كان العبيديون للنجديين. ولم تكن قبيلتانا " طاطا" لبعضهما إلا أنهما كانتا كذلك ضمنا.
العين التي كانت سبب تشنج القبيلتين ومصدر بقائهما ونبع مائهما، كانت حضنا لأول لقاء بينهما. اشتدت وشائج النظرات بينهما، وعاهدته في حلمها اللجي وهي في أحضانه أنها لن تكون إلا له وإلا فإنها لن تكون لسواه. لم تكن النظرات حديثهما الأول فقط. كان جريئا جرأة أهل الريف المجاهد وشجاعا شجاعتهم في ردع المستعمر ومقاومته. يوم رآها أول مرة أخذ يحاور قلبها مدندنا:
- بسم الله نبدا بيكم انتما بجويجات بيكم
نطلب الله يحضيكم
مع أرفيق الحجل زينك ما يتبدل
الحناء طرية من العيد والقديد مازال جديد
الحجلة البلدية ريشها فشكل.
لإن كان اتفاق قبيلتاهما ضمنا على "الطاطا" فلقد كان تواعدهما على الحب ضمنا أيضا، وجعلت العين موطنها ودندنته مناجاة، فإذا به في كل يوم يرنم لها.
- مساك مساك للا البنيه مضركة الخد عليه
احكي لي ما بيه
ويحسبها تجيبه:
- منين جايبني لبلادي ربي وفى لي مرادي
وفين ما دير الفرح صرد لي انجي
وفي يوم آخر.
- مساك مساك للا بوخرسة يوم الخميس في الجلسة
انزول المفوض احكمي أنت
وسمعته يقول لها وقد علا صوته هذه المرة:
- مساك مساك للا منانة جالسة في الدكانة
السالف حتى لبنانة البارود راه معانا
إلى جينا نيشان ما نخطاوا حد
جاهد كثيرا ليسمع صوته أيضا لقبيلته فرفضت ذلك منه وردته عليه. جابه أهله بقوة رفضهم حتى أوشكوا على طرده ونبذه. ومع شدة التضييق عليه وقرب اختناقه إلى وجده المزمن أقدم على خطوة شجاعة زلزلت نفوس أفراد القبيلتين ورجت أركان التنافر بينهما. عبر الوادي الذي يفصل الضفة المقابلة خاطبا يحمل سلة تين وعنب وخمسة لترات من زيت الزيتون ومن زيت "علوانة" وقلب رجل يخفق بحب "عيشة" بنت البنوت. اقتحم عالمهم المسيج بخطى واثقة ثابتة. فاجأهم في معقلهم بطلبه ذاك، وأربكهم إذ تحدث إلى ناهزهم، أبيها، بجرأة واحترام وثقة مودعها النفس بمنطق سليم متحديا ابن عمها الذي يريدها لنفسه وشبانا آخرين كثر. ولما سأله والدها أسئلته التقليدية:
- ... وأين والدك، وأهلك؟
كان يجيبه بثقة:
- أنا المعني بأمري.
- ومن رأى البنت وأطلعك على أمرها حتى لتكاد تعرفها؟
- لإن كانت قمرا يزين سماءكم إنها تضيء سماءنا أيضا. اشرأب عنقي إلى القمر ليل سهري فأخبرت نفسي بأنها ستكون لي ولا شأن لأي كان بهذه الزيجة. أنا من سيتزوجها. عارضت الجميع في أمري هذا بعدما عارضوني، وأنا مستعد للقتال من أجلها حتى الظفر بها، إلا أن ترفضني هي.
تبادلوا نظراتهم بين إعجاب بجسارته ومنطقه، وتنقيص من اعتداده بنفسه. ظنوه شخصا أخر سينضاف إلى قائمة من ترفضهم. لم يظنوا أن يصدر عن شاب من قبيلة منافسة وفي مجلسهم كل ذلك التحدي والإباء، فإذا بأبيها يقول مهدئا من حدة الموقف وتصاعد وتيرة غليانه الذي حاول "علي" النفخ فيه.
- لقد نطقت حقا وقلت صدقا، سننادي عليها وإن وافقت باركنا، أما إن رفضت وليت من حيث جئتنا حاملا هداياك معك.
أحنى رأسه موافقة والأمل يداعب نفسه. وأدخلت "بنت البنوت" مجلس أبيها تتعثر في ثوب الحياء، تشخص إلى الأرض، وتتوجس إلى رجفات قلبها المتسارعة. همست دونما تردد.
- نعم أبتاه. إن كان سيحسن معاشرتي، ويقيم أودنا فنعم أبتاه.
أخرست كل الألسن، وأقفلت كل الأفواه إثر صدور حكمها. وبوركا في تلك الليلة التي لم يغمض لها جفن إذ استمر الاحتفال بالعروسين حتى الغبش و"علي" يعض نواجذ الغيظ والتميز. لم يغفر لهما حبهما وهو الذي ودها لنفسه ليستولي على كل أراضي والدها إذ كانت وحيدته. وجعل يدبر لها مكيدة تعصف بزواجهما ذاك. فاجأته قبيلته عند نزوله وعروسه عليهم باحتفال كبير لم يقل عن الأول كرد عليه، إلا أنه دام سبعة أيام على عادتهم انتهى بفك حزام العروس. ترى أن العبور إلى الضفة الأخرى لايفشل دوما إذا كان قاربه الصدق وشراعه الحب تدفعه رياح الخير، رغم العثرات والإخفاقات. فعساك قد فهمت أن الحب الصادق شحنة قوية تجمع الناس حولها وتحارب أعداءها، فلماذا عمي بصرك عن الحقيقة وأنت محب صادق؟