الوجه الثاني عشر

21 0 00

كانت صادقة في قولها، وأرهبني ذكر القتال في حديثها، فانكمشت في ركني أنظر إليها في شبه استسلام وأتصور "جميلة" البدينة تعينها علي. أضافت:

- ... إنه يحب ابنتنا وهي كذلك متعلقة به. إلا يتزوجها تقتل نفسها.

صحت بدوري في محاولة أخيرة يائسة.

- ولكن ذلك لا يمكن. نقض العهود ليس من عاداتنا. وإذا منحنا الكلمة لأحد لا يمكننا التراجع عنها مهما حدث. على الكلمة تهدر الدماء وتزهق الأرواح.

تغيرت نبرة صوتها فإذا هي قوية مجلجلة.

- العهد؟ وما تعني العهود إذا كانت ابنتي ثمنا لها. ثم إنه منحها وعدا بمعاملته اللطيفة لها. لقد كانت تنتظره ورفضت لأجله خطابا أتوها؟

لم يكلمها "عمر" في حياته قط. حتى عندما كانت تلقي عليه تحيتها الغليظة، كان المسكين يكتفي بهزة من رأسه. أكان ذاك عهده الذي أعطاها؟ المفترية! والخطاب الذين تتحدث عنهم، لو لمحت طيف رجل لحسبته خاطبا، ولألقت له بأطنان لحمها المتكدس. وتضيف المفترية في شبه تهديد أقلقني حقا وأفزعني.

- أختي.. لن يمر استخفافكم بنا بهذه السهولة.

تصورت ابنها الجزار الذي لمحته مرة بشاربه الكث يذبح "عمر" ابني كشاة مغلوبة على أمرها، وأدركت أن علي مجاراتها بدل تهييجها فالمواجهة معها غير متكافئة، وهي غير مأمنونة العواقب. وبدا لي الشرر يتطاير من حدقتيها حتى لأكاد أجزم أنها ستبتلعني. أأكون مثل ذلك الصرصر الذي ظنت حفيدتها أنها انتهت منه، وأمنح لنفسي وابني حياة أخرى أم أجابهها ولاشك أني سأكون خاسرة أمامها؟

واستهوتني لعية الصرصر، وسقطت أمامها بلا حراك.

- لا تقلقي نفسك سيدتي، سنتشاور في الأمر، ونرد عليكم بالخير إن أراد الله.

بالسرعة التي غضبت بها علي، رأيتها ترسم ابتسامتها الإعتيادية وهي تقول في اقتناع بظفر نالته.

- حسنا. سننتظر زيارة "عمر" لإبننا.

وتدخل جذلى العروس المرتقبة كأنما كانت تتسمع حديثنا. ضفيرتاها تاهتا فوق كتفيها العريضين، محملة بصينية تضعها أمام جدتها في حركة اعتيادية، وضحكة ثخينة تلتهم فمها. لست أدري لمَ تصورتها من موقعها خارج غرفة جدتها تسترق السمع لنا وقد حطت الصينية المعلومة عن يمينها وساطورا عن يسارها. والواضح أني اجتزت هذا البلاء بنجاح وإلا لكنت ضعت هناك بضربة ساطور قاصمة.

وإذا ارتعاشة قوية تسري في جسدي سريان الدم في عروقي. وأحسست بدوار شديد، فاستدعيت قواي من معاقلها، وأنسحبت معتذرة إلى حجرتي أحمد ربي أن أنجاني من شر مستطير إلى حين.

يوم أسود ذاك الذي مررنا بحيهم وتلقفت أسماعهما نداء "عمر"، وأجابتنا "جميلة" الرشيقة. لو علمت الصعاب التي ستعترضنا معها لما مرقنا من حيهم حتى صرنا مهددين في حياتنا. خلت متاعب يومي انتهت مع خروجي من غرفة المرأة، وأصارحك أني لم أعرف لها اسما ولم أسع إلى معرفته. ناديتها في سري منذ أول مرة وقعت عيناي عليها ب"دردورة"، وبدأ يعني لي هذا الإسم الفزع والخوف والقلق.

غادرت إذن غرفة "دردورة" وجلة مضطربة والدوار يتلاعب برأسي الواهنة، ولم تكد تمضي إلا لحظات حاولت خلالها استرداد أنفاسي المشتتة ولملمة نفسي المبعثرة واستعادة هدوئي المفقود، حتى تناهى إلى سمعي صوت خطواتها العاتية تهدج إلي دبا على الأرض بثقل في إحدى خرجاتها النادرة، وإذا هي تلج حجرتنا كإعصار مدو من دون كلفة أو استئذان.

عاودتني تلك الرعشة الباردة عند رؤيتها، وشحب وجهي، وتصلبت أطرافي وتحلب دمي وخلت أنها نهايتي الوشيكة تسرع نحوي دون إمهال، فإذا هي تحط بعناء على الأرض جالسة، وطبقات لحمها بعضه فوق بعض كدور سلا المهمشة. كانت البسمة تعلو محياها في شبه ارتياح منها، وكان كل ذلك حقا مشروعا تمارسه دون تفريط. ألم تكن في بيتها؟

- اعذريني يا أختيعلى زيارتي المفاجئة هاته.

قلت في شبه استسلام:

- البيت بيتك.. سيدتي.

وجهها طالعني كصفحة بيضاء تعذر علي فك رموزها، وقراءة ما حوت، لذلك ما انفكت تفاجئني.

- أتيتك لأطمئن عليك أولا، إذ بدا لي تكدرك من حدة كلامي معك...

لطيفة هي "دردورة" فعلا تحاول الاطمئنان علي. قاطعتها أود الاطلاع على الأمر الثاني الذي هو الأهم.

- لا تكترثي لذلك فأنا أختك.. أليس كذلك سيدتي؟

استطردت:

- أما الأمر الثاني، فلست أدري كيف سقط عن رأسي؟ يبدو أني كبرت وصرت أنسى كثيرا.

ولما لم أعلق، تابعت:

- هو شيء هام مررت عليه في حديثنا دون أن أوضح قصدي فعلا، عندما قلت بأنكما ستأتيان للعيش معنا، لم أكن أعني فقط أني أريد "عمر" "لجميلة"، ولكني قصدت أن تكوني أيضا لابني.

لست أملك وصفا لدهشتي وبغتتي الشديدتين. فالمرأة خارقة للعادة حقا. كنت أتوقع أن تأكلني في أية لحظة لكن ليس بهذه السرعة، ولا بهذه الطريقة.

كان الأمر أبعد عن كل حسبان. هل كانت حقا تخطبني لإبنها الذي لمحته مرة واستنتجت أنه لا يكبرني إلا بقليل، بيد أنه كان يعرضني بحوالي ثلاثة أضعاف؟ كان مندلق البطن بشكل عجيب. كان من فصيلة "المدردرتان" أمه وابنته. لا أذكر من ملامح وجهه إلا شاربه الكث وأنفه الروماني العظيم، وشفتيه الغليظتين. هل من مخرج لي من هذه الكارثة التي قادتني إليها قلة الحيلة وتصاريف القدر الغريبة. استنتجت بما استبقيت من رشدي أنها تساومني، وتحاول تطميعي بزينة الرجال ابنها الذي سيسترعرضي، ويملأ وجبات يومي من خير لحمه، ويدفئ فراشي من خير لحمه أيضا. أرادتني أن أقبض ثمن "عمر" لحما. أراداتني أن أذعن للتضحية بابني "لبنت البنوت" "جميلة" التي ستلملم طيش ابني وتمنحه "دردورات" صالحات من فصيلتها. مسكينة حقا هي، وساذجة هي فعلا. لم تكن تعلم أني رغبت عن كل متاع الدنيا وزهدت في كل شيء منذ فقدت زينة الرجال سراج قلبي الذي مازال منيرا.

ظنتني لاحمة من فصيلتها، ولم تكن تدري أني صرت عاشبة عاشبة عاشبة. كنت في قراري المكين أعلم عن سابق تجربة ألا فائدة ترجى من مجابهتها، فإذا بي ألجأ إلى المهادنة عساني أتخلص من طيفها الثقيل على قلبي حتى أتمكن من استرداد وعيي بعدما أفقدتنيه بلكماتها المتلاحقة والموجعة في مباراتنا اللامتكافئة. لم أكن في وزنها ولا في جبروتها، وإذا ابتسامة لا أعلم كيف أبصرتها وحكمت عليها أخفي بين طياتها خبثي وتذمري.

- نفكر في الأولاد أولا وبعدها نرى ما يكون من أمرنا نحن الكبار.

قالت بصوتها المجلجل الذي أحسبه وصل مسامع الجارات المتحفزة.

- لا تقولي ذلك وأنتما بعد شباب. والله يا أختي لو جاءني خاطب لما رددته.

هنا فقط حمدت ربي في سري على نوازله الهينة وإلا لو رأت "عمر" لعدت ابتسامة منه أو رد تحية تصريحا منه بخطبتها، ساعتها حتى الأمم المتحدة ما كانت لتنفعنا لتخليصه من قبضتها الفولاذية ونابيها الذهبيين، ولكانت انتزعته من "جميلة" اللذيذة عنوة التي كانت ستقف في غرفة الإنتظار وعيناها على ضحية أخرى. أخذت تسترسل في هذرها.

- تعلمين ما أحلم به؟

همست كالبلهاء.

- هه؟

- حلمي أن نقيم عرسكما في ليلة واحدة فماذا تقولين؟

إنتشلت نفسي من كوابيسها البشعة.

- الحقيقة أن الأمر مفاجئ كما قلت لك عزيزتي. تمهليننا بعض الوقت للتشاور، وثقي بي أرى الأمر فيه خير كبير لنا جميعا. فلا تستعجلي.

واصطنعت بجهد ومشقة دلال العرائس وخجلهن، ولست عليمة إن كنت بارعة في تصنعي، وشككت للحظة في ذلك إذ أفلت بسمتها مجددا، وأخذت ترنو إلي بلا معنى، وصعد قلبي ساعتها إلى بلعومي، واحتجز هنالك ولم يعد إلى مكانه إلا بعدما عفت عنها مجددا لتريحني بعض الوقت.

وتتمايل في مجلسها كأنها تستعد للقيام أو تحاول جاهدة لذلك فتدخل علينا الخفيفة المرحة "جميلة" من حيث لا أدري وهي بلا شك كانت تسترق السمع إلينا وهو أمر بدأت أعتاده ولم يعد يضايقني، حتى إن درجة تفاجئي لم تصل أبداً حد فعلها. وتغادر الفيلتان حجرتي الصغيرة المتراقصة على إيقاع خطواتهما العاتية. خرجتا تركبان حصانهما الطروادي، ورايات النصر وأعلام الظفر تخفق في سمائيهما.

تركتني "دردورة" و"دريدرة" ما بين الغيظ ومغالبة الضحك. حقا لقد كان شر البلية ما يضحك، بيد أني خشيت على نفسي من الضحك الذي كان سيسترسل بلا شك إلى ما لا نهاية، حتى تتهاطل الدموع من عيني، فتصير من برودة ضحك مستخف إلى حرارة بكاء مرير.

ماذا عساني أصنع أمام هذا المأزق الثخين الذي ألفيتني وابني داخله؟

أكانت المجابهة تنفعني مع هذه الأسرة وقد بلغني من صريح تهديد زعيمتها ما لا يدع مجالا للشك على خطورة عصابتها؟

لم أكن محتاجة في حقيقة الأمر إلى كثير وقت لأصل إلى قراري. مخرج وحيد كفيل أن ينقذ رأسي وبقية حياة "عمر". مخرج وحيد من هذا البيت ومن الحي أجمعه، ومن كل سلا إن لزم الأمر ذلك. طيف نور باهت عند نهاية السرداب بدا لي، وقررت أننا سنخرج من هناك كما خرجنا من قبيلتنا متسللين.

ولإن كان السبب واضحا في الخروجين معا، الخوف من الآخر وسوء تدبيره، فإن الفرق بينهما جلي واضح. نحن إن خرجنا من قبيلتنا فقد خلفنا وراءنا بيتنا، وأرضنا وزيتوننا وتيننا وبقية أهلنا وذاكرتنا. لكننا هاهنا، سنرحل غير آسفين، وسنهجر المكان هجرا لا عودة بعده. ما يبقينا والموت يتهددنا من قبل "ريا".. و"سكينة"؟

لا أدري كم استهلكت من وقت منتظرة قدوم "عمر"، أغلي على نار الإنتظار المستعرة، حتى تناهى إلى سمعي وقع أقدامه يجرها بثقل في تعبه المسائي المشروع. واستلمته لدى الباب بلهفة، ورغبتي تجمح بي إلى بسط الأمر إليه دفعة واحدة مع نيتي المبيتة، ولكني تراجعت في آخر لحظة بعدما شممت رائحة اللحم والشحم والعرق غير بعيد عنا. ولما كنت الأعلم بطبيخ الجارات، استبعدت أن تكون لعشاء أسرة من جاراتي المعدمات، إذ اللحم منتف أساسا من قائمة غذائها.

تميزت طول حياتي كما تتميز جل الأمهات بتلك الحواس الحيوانية المتيقظة على الدوام المتحفزة عند اقتراب الفرائس التي ستفتك لا محالة بصغارها.

وإذا أنفاسي تلتقط أنفاسا غريبة معهودة تزكمها. تضايقني هذه اللعبة المكرورة فقررت استخذام الحيلة، وقد صرت خبيرة في ارتجال الحيل منذ تعرفت على "دردورة" الفريدة فقلت ل"عمر" مصطنعة فرحة مرتجفة.

- لدي خبر سيبهجك حقا حبيبي.

ابتسم في وجهي بوداعته المعهودة. أشرت له بالصمت بأن وضعت سبابتي فوق فمي ثم جعلت أحطها على شحمة أذني وأهزها مشيرة له بأن أحدا يتسمعنا، فرسم تساؤلا عريضا على عينيه، وقلت:

- السعد يدنو منك، وأخال أبوابه ستشرع لك.

أكله الشوق والفضول وعدم إدراك ما أرمي إليه صراحة بإشاراتي المتواصلة وهو الذي تعودني مباشرة في أحاديثي غير خبيرة بليها.

- غدا سنخرج لشراء هدية نقدمها لخطيبتك.

لاحت فرحة صبيانية من وجهه، وتساءل بمرح:

- أحقا ما تقولينه؟

أجبته من فوري وأنا أهز يدي بألا يتكلم فيفضحنا.

- طبعا حبيبي. كنت تظن نفسك قادرا على خداعي وسعادتك بها تكشفك أمامي.

تساءل بحيرة:

- لكن، كيف عرفت؟

المسكين. حسبني أحدثه عن حبيبته ابنة صاحب المقهى، مشغله. لهذا لم يكلف نفسه مشقة اصطناع فرحته، وإلا لكان أفسد علي ترتيبي. ولم يخذلني حدسي الأمومي إذ لمحت طيف الفريسة من فرجة الباب قبل أن تندرئ علينا كعادتها.

 

(يتبع).