هين الجبل الأول في صعوده والإنحدار عبر سفحه، بيد أنه ما أن يشرع في اقتحام الثاني حتى تستعيد ذاكرته أحداث ما جرى له ليلة خروجه الأولى، وعند فراق الأخنف، وها هو الآن يحدث معه الشيء ذاته، إذ ما إن هم بثانيهما حتى باغته التعب وحرقة الشمس والجوع، ومنظر العقبان التي لاحت في سمائه منذرة بمصيره المقدر،لكأنها تدعوه لمزيد من التشبث بالحياة، والإصرار على النفاذ بجلده، والإسراع في مساعيه، وأصوات وصور تعاوده في إلحاح وتسابق:
- عجل يا بني، وعد لنا بأخيك.
- احذر الجميع، ولا تأمن لأحد، فهم الذئاب تسللوا إلى القطيع.
ومع اشتداد الجوع والعطش والتعب بداية المغيب، تفر إليه هواجسه رغما عنه وينضاف صوته إلى أصوات تهرج بداخله:
- لو أن للمرأة، وابنتها زاد لأخذت منهما، لكنهما تنتظران أن تمتد إليهمايد بالعون والسند. ما أحوجني لمثل تلك اليد الآن!
وأخذت العقبان تقترب منهأكثر والدوار يتلاعب برأسه الواهنة من فرط التفكير وما سلط عليها من لفح شمس يومه ذاك ويوميه السابقين. لم يعد يذكركم من مسافة قطع ومشى. كأنه لم يتوقف منذ بدأ مسيرته، ولابد له أن يفعل ذلك، شاء ذلك أو أجبر عليه، وهو مجبر على كل حال. فخطواته بدأت تهن وتعجز عن حمل وزر جسده، وتأخذه إلى حالة بدأ يتآلف معها، إذ سقط مرة أخرى أقرب للموت منه إلى حياة، وتدحرج تدحرجا أليما شديدا من عل فكانت الهاوية نهايته، ولم يعد يستشعر الوجود من حوله وانقطعت صلته به بالتدرج ولم يعد له إلا خيط دقيق يبقيه حيا. أنفاس حارة حوله. أنفاس حيوانية حارة ومتقطعة بمذاق وعطر أنثوي معلن، ووجهان نسائيان يجثتانه بقوة إلى الحياة. تهمس له إحداهما بفتنة ودلال:
- دثر ليلتي الباردة هاته، وجد بوصالي، يا هاجري.
ويفكر بما فضل مشغل له من حواس:
- جميلة وشاعرة في قلب الجبل؟
الفتاة الأخرى فاتنة أيضا، بيد أنها لاتتكلم، نظراتها كلماتها إذ جعلت ترمقه في رجاء، وأمل.
أكانت ترجو وتطلب هي الأخرى وصالا؟
وإذا بصوت يهمس داخله، ناعما كتلك النظرات.
- لا، لست أطلب ذلك عزيزي، إنما أبغي أن تنقذ أختي التائهة بين قمة وسفح الجبل المقابل لنا.
فغر فاه مستعدا للحديث والإستفسار بيد أن الصوت عاد ليوقفه.
- أرجوك لا تفصح عما تريد قوله فتفضحنا، قل كل ما تود قوله في داخلك، ولا تطلع هذه المعتوهة على سرنا.
تساءل :
- أولا تسمعنا؟
ردت بتلك النظرات نفسها وحملتها أسفا وحيرة:
- لا يسمعك إلا الأخيار. وأنا أسمع بعض كلماتك، وتغيب عني أخرى، لكني أفهمك، أنا بين المرتبتين بينما هي ممعنة فيما هي عليه.
عاد متسائلا.
- وماذا تفعل أختك هناك؟
- رهان، أيها العزيز، لم تقدر عليه أدخلتها إياه أختنا المتسلطة هاته، وخسرته وهي الآن كما صرت تعلم.
عادت الأولى بنبرتهانفسها:
- ماذا قلت؟ تلبي طلبي فأمنحك السعادة تعب منها كما تشاء.
تجاهل هذه إلى الأخرى، محدثا نفسه:
- ولكني ضعيف واهن القوى لم أصب طعاما ولا شرابا منذ مدة، وخارج لتوي كما ترين، من غيبوبة طويلة.
- لابأس عليك أيها العزيز إذا قمت وشربت من نبع سفح الجبل الذي فيه عافيتك، واستعادة همتك وقوتك.
- وأين أجده؟
- في طريقك إليها، ولا تعد إلى هنا، لأن المتسلطة المحتالة لن تدعك تغادر أراضينا أبدا، فتحجج بحاجة تقضيها، واذهب لنجدة أختي، ولا تعد معها.
- حسنا، مادام الأمر إغاثة ملهوف، فلابأس.
- الطريق المقابلة لك طريقك، وليكن النجاح معك.
أمسكت الأولى بيده، وهي تدعوه:
- هيا بنا إلى خدري، ندفئه.
سلها برفق، واختلق عذرا.
- اسبقيني هناك، وانتظري مقدمي، فإني عائد إليك بعدما أقضي حاجتي.
تساءلت وهي تحدق فيه بعين الريبة والشك:
- أية حاجة تقضيها بعيدا عني؟
تصنع لطفا معها، وهو يدنو منها هامسا في أذنها:
- حاجتي الطبيعية. انتظريني، وأعدي العدة لبداية سعادتنا، ولا تفسدي الأشياء بشدة إلحاحك.
واتجه بما تبقى له من قوى مهرولا، غير ملتفت وراءه، حتى نبع السفح، فجعل يعب منه، وأدرك صدق الذي سمعه من ناصحته بالإبتعاد عن المتسلطة الجبارة فقرر أن يبر أيضا بوعده لها، بمحاولة إنقاذ أختها، وإعادتها سالمة.
صعد الجبل مسرعا، وقد استعاد همته ونشاطه. لكأن ماء النبع فعل فعل الساحر بنفسه التي ارتوت منه، واستعادة من فورها سابق ثباتها وقوة عزمها. أمضى نصف يوم في صعوده، وبعضه منحدرا، متفكرا في أمر رهان الأخوات الثلاثة وكيف أن الوقت لم يسعفه لسؤال الأخت الثانية في حديثهما السري عن سبب الرهان المجنون الذي قد يكون قضى على حياة أختهما؟
أي قلب تملكه المرأة لتوقع بأختها في مثل هذه المخاطر التي يعجز أمامها الرجال؟
لم تدعه أصوات نجدة وصرخات استغاثة، لنفسه إذ هرع يتعقب صدى الصوت الأنثوي، فإذا هي فتاة متشبثة بقوة بإحدى الصخرات الناتئة بمنحدر قاتل. كان ثوبها ممزقا وقد أطل من عينيها الرعب والهلع، فما أن رأته حتى أخذت تصرخ غير مصدقة أنه مخلصها من موت محقق، ترجو معه الإسراع إذ كانت قواها تكاد تخذلها، ويداها المتشبثتان بقوة وإصرار على صخرة الحياة، تكادان تسلمان للهاوية السحيقة، فقالت مستغيثة:
- أرجوك أيها العزيز، عجل إلي، أرجوك.
قال بلهفة:
- لا ترهقي نفسك بكثير كلام، أنا آتيك ومنقدك، فتثبتي.
تدلى الحافة بحذر شديد، وهو يقول في نفسه:
- ما الذي جاء بهذه المسكينة إلى هذه الحافة القاتلة؟
خال أنه يحدث نفسه وينشغل عن الأهوال التي يواجهها في سبيل إنقاذها، ولم يكن يحسب أنها كمن قابل يستمعون إلى كل ما يقوله.
- رهان من فتاة حسبتها أختي، ولكنها كانت تود قتلي. الشريرة، ستجرب ذلك أيضا مع أختنا الأخرى.
رد محذرا:
- قلت لك لا تتحدثي، وتشبثي جيدا ولا تنظري إلى أسفل.
كان قد اقترب منها، فمد يده القوية، وأحكم قبضته الفولاذية على معصمها، وطلب منها آمرا أن تدع يدها الأخرى وتمسك بزنده، ففعلت دون تردد رغم خوفها أن تهوي، ولكنها أذعنت لأمره إذ هو منقذها الوحيد، ومخرجها من موت وشيك ينتظرها في الحافة، ثم جذبها إليه بقوة وأمان. ومازال يصعد بها من الحافة القاتلة، من صخرة آمنة إلى أخرى أكثر أمنا حتى بلغا أقصى درجات الأمان المنشود، ولهاثهما يصدر صوتا قويا شديدا. عانقته بما فضل لها من قوة:
- أيها العزيز، إنك لي لأخ من هذا اليوم الذي انتشلتني فيه من الضياع. فاعلم أني حافظة لك جميلك وحسن صنيعك ما حييت.
اكتست نبرة صوته تأثرا لمشاعرها الغامرة، وهو يقول:
- لا بأس عليك، إن ما فعلت كان واجبا، ولو صادفت غيري، إذن لفعل الشيء ذاته.
ازدادت دفقة مشاعرها وإعجابها.
- إنه لتواضع منك كبير ونبل عظيم أن تقول ذلك فاعلم أني حافظة لجميلك هذا ولن أنساه أبدا، وإني لرادة بعضا منه.
شكرته، وعاودت شكره، وهو يوصلها نبع سفح الجبل وقد اطمأن عليها، فأرته طريقه إذ أعلمها أنه يبحث عن أخ له تائه. ودعها وانصرف إلى مسيرة بحثه بعدما تزود من مائه الزليل. كانت مرته الأولى التي يتذكر فيها أنه مقبل على مسير وجوع وعطش وتعب، فنال منه ما نال، آملا أن يظل مفعوله، ويمده بتلك الطاقة التي استشعرها أول مرة شرب منه. وهو في طريق عودته ضرب كفه برأسه كأنه تذكر أمرا ذا بال أسقط من ذاكرته، فقال متفكرا:
- الرهان كان الأمر المهم، كيف أسلو في كل كل مرة عن شيء مهم.
وجاءه صوت الفتاة كما ألفه حنونا صافيا:
- أنت تعلم بأمره، ولقد أضعته كما أضعت أشياءك الثمينة في طريقك، فامضي والسلامة رفيقتك.
كانت الشمس تؤوب إلى خدرها متثائبة، والنعاس يغالبها، وهي المرة الأولى منذ انطلق من أراضيه عند ابتداء رحلته، التي يقابل بها الظلام وهو بعد بحال جيدة لا يحس نقصا أو خوفا أو جوعا أو تعبا.
اعتزم التوقف حتى لا يضل طريقه، أو يصادف ضاريا شاردا في ليل الجبل، فأقام عند صخرة عظيمة ملساء، واستلقى على ظهره، وعيناه إلى السماء ترقبان نجومها الوضاءة التي استترت فجأة خلف سحائب عظيمة أحالت سماءه قفرا موحشا، وليله سوادا مقيما، فسمع بوعي هذه المرة صوتا أنثويا قريبا منه:
- سامحني "سرمد"، لقد أجرمت في حقك إذ أسأت ظني بك، وإني لمكفرة عن ذلك، فاعذر سوء ما رأيته مني.
صوتها مألوف له، إلا أنه في زحمة الأصوات والصور أضاع وجه صاحبته، كأن ملامحها نقشت بروحه، لكنها ترفض أن تعلن عن وجودها، فتساءل وقد أعلن ضعفه على معرفتها.
- من تكونين؟ وعما تريدينني أن أسامحك؟
تساءل الصوت الذي أتاه مجددا بعض صمت.
- ألا تتعرفني، يا "سرمد" وأنا أخت زوجك "حنين" سامحني "سرمد".
"حنين" زوجه؟ لكنه لا يذكر أنه تزوجها، ذاك ما كان يعتقد. كانت قريبة جدا منه حتى ليكاد يمسك أنفاسها، ويستشعرها تطوقه بعبق عطرها، لكأنه يلامس شعرها المسدول. حاول فعلا ذلك، كما حاول سؤالها عن حقيقة أمره مع "حنين" بيد أنها اختفت فجأة كما ظهرت علامات قربها منه وصوتها فجأةأيضا، وأحس حين ابتعادها عنه، أنها تفعل ذلك مجبرة مذعورة، ولم يطل التحقق ليعرف سبب ذلك إذ أن طيفين لامرأتين انتصبا أمامه.
إندرأتا عليه فجأة، فجعل يمعن النظر فيهما، فإذا هما قد وقفتا متحاذيتين. لم يكن الطيفان لامرأتين، بل إمراة واحدة بظلين، أو هما طيفا امرأة واحدة، تضعان لباسا واحدا، استطاع أن يدرك ذلك رغم الحلكة المتبدية أمامه كما تعرف على ملامحهما، فقالت التي تقف إلى يمينه:
- عجل يا "سرمد" ، عجل يا بني، الخطر دني منك.
تساءل:
- أمي؟
فردت الثانية:
- بل شريرة محتالة يا بني، تريد تشريدك عن أرضك، وطردك منها، فتضيع أنت في هذه الجبال، وتفقد عقلك.
- لا تصدقها يا ولدي، بل هي الشريرة الماكرة.
- أنا أمك يا "سرمد" ، عد إلى أراضينا، إن أباك وأخاك بحاجتك.
- لا تنصت لها يا ولدي، وارحل بعيدا عن تلك الأراضي ففيها قوتك.
- هاهي ذي تعترف أمامك الآن يا ولدي، إنما أرادتك بعيدا عن تلك الأراضي كما قلت لك.
- لا تصدق كل ما تسمع وتشاهد، يا بني، ولا تتعجل في إصدرا حكمك وأنت جاهل للحقائق بعد.
- عجل في عودتك لأراضيك يا ولدي، وستكتشف زيف هذه المرأة وسواد قلبها، سلها يا ولدي، أكان حقيقة كل ما عشته في الجبل؟ الناس الذين صادفتهم أكانوا أناسا فعلا أم هم أطياف من فعل سحرها حتى تنسيك طريق عودتك؟ وما بالهم جميعا يتعرفون الطرق التي عليك سلكها، فما أن تهم بسؤال أحدهم حتى ودون أن تسأل، تجد لديه جواب سؤالك، فيبادر إلى ضلالك؟ ثم ما بال ما عشته يعاد عليك أكثر من مرة دون أن تستطيع الخروج من دائرته؟ وما بال عدد الجبال هو نفسه في كل مرة، جبل أول والثاني لا تستطيع تجاوزه فتسقط دون وعي؟ ألا يكفيك هذا يا ولدي، أم تريد مني المزيد؟
كان "سرمد" مشدوها، من هذا الذي يسمع، ممعنا في الصمت كحال الطيف الأول الذي بدت صاحبته قد انكشفت نواياها ومزاعمها، وفجأة انبسطت أساريره، وبدا أنه يتقبل الأمر، وأشار إلى الثانية صاحبة الحجج المفحمة الدامغة، وقال:
- إحساسي لا يمكنه خيانتي، إنك أمي التي أسمع همس نبضها مع نبض قلبي، فماذا تطلبين مني الآن؟
أفرجت شفتاها عن بسمة حانية، وهي تدنو منه:
- ما أريد إلا خيرك، وصلاحك يا بني، ألا ترى أن الموت ما ينتظرك في الجبل، عد إلى أراضيك يا ولدي، ففيها حياتك وصلاحك.
وكان بين الفينة والأخرى يرقب الطيف الأول بنظرات ضيق وتبرم جلي، وأردفت الثانية:
- عند رحلة عودتك يا ولدي ستكتشف يقينا، صدق الذي قلته لك، فلقد قيدت لك هذه الملعونة أناسا من أشياعها، وصوروا لك أوهام ما عشته كأنه حقيقة. جنان ونخيل وأودية وينابيع وبشرا حدثتهم، أيجتمع كل هذا في مثل هذا الجبل المقفر؟ عجل يا ولدي، عجل قبل فوات الأوان.
صمت لحظات كأنه يفكر ثم تساءل:
- أوان ماذا؟
قالت من فورها:
- أن يدرك أباك الموت، وأنت بعيد عنه فتروح وصاياه، وحكمته لأخيك دونك. أريد لكما العدل في كل شيء، فعجل يا ولدي.
لبث في مكانه كأنه يفكر في الأمر مليا، أو أن تلك الكلمات كانت تحتاج منه وقتا ليقلبها على نار تفكيره المستعرة ثم هب من مكانه، واقفا مستنفرا حواسه فانقشع عنه الطيفان كغشاء كان يحجب عنه الرؤية فإذا وجه فتاة تقف على رأس جبل مقابل له ترقبه، وقد أحاطتها هالة من نور تضيئها، فاستطاع رغم المسافة أن يتفرس في ملامحها جيدا، فإذا صورتها تشبه "حنين" زوجه. لكأنها هي، هكذا فكر.