الوجه السادس عشر

21 0 00

وخلصت مستسلمة إلى يأسي بأن أرضنا بلا شك تحوي بواطنها كنوزا مخفية عنا اطلعوا عليها، وهم متربصون فرصة الظفر بها، وهجرنا بعد اسستنفاذها كاملة. بيد أن ذلك أبعد ما يكون عن الواقع، فقد عمروا فيها سنينا طويلة زادت من تعلقهم المحموم بها، وغربتنا عنها.

وإذا دخائلي تحتدم على قلة حيلتي وضعفي عن حماية ابني، كما عجزت عن حماية أرضنا من قبل، وإبلاغه بالخطر المحدق به. بعد ذلك، ولجت غيابات كانت ابنتاي تلحظانها، إذ كنت أغيب عن الوعي وأهذي بكلام غير مبين، وحتى بعد أن كانتا تعيدان علي ما كنت أقوله إثر عودتي، كنت أستغرب له وأعجب من فحواه، ولا أستطيع فك طلاسمه أو ربط حلقاته. مرت علي يا بني أيام ما بين الصحو والنوم، كان شيئا بشبه الإغفاء أو الإغماء أعود منه مجهدة، متعبة كأني أقطع الصحارى راجلة بلا زاد.

شيء ما كان يعودني. يشبه صوتا أو ظلا لايستقر على حال أسمعه حينا وأتمثله أحايين أخرى. ودام ذلك وقتا متقطعا، اتصل بعد ذلك وأمسى عادة لا فكاك لي منها. كان صوتا واثقا، تشعر وأنت تسمعه بالرهبة، وبقشعريرة تجتاح جسدك بأكمله، وقد ظهر إلى جانبه ظل. وكانت المرة الأولى التي يجتمعان لدي، فأنشأ يقول.

- مسكينة أنت يا "عيشة". أصابك الجور فآلمك أشد ألم.

حاولت طرده، وأشحت عنه بوجهي. ووددت لو أتخلص من تركيزي عليه فإذا به يضيف:

- عيبك أنك لم تتعلمي وترفضين التعلم. مازلت تتجرعين كؤوس فرارك من مواجهة مصيرك، وتصرين على الهرب مني مجددا رغم أنك تدركين في قرارك السحيق أني مصيرك.

مقدر عليك أن تنصتي لي، وخير لك عميم أن تؤمني بقولي، وفرج لك عظيم أن تعملي بنصحي.

لم يعد بمقدوري تجاهله أكثر، وإذا بي أتطلع إليه معاودة استكشافه فإذا هو شفاف كأنه غير موجود، وأدخلني ذلك متاهة لم أعرف إلى خروج منها سبيلا. وجعلت أسائل نفسي.

أكنت داخل كابوس موحش أم أعيش واقعا لم أختره؟

أستوطن معي هذه الغرفة أم أني مصدره ومبعثه؟

أكان الطيف الذي بجانبي النسخة أم الأصل، وكنت أنا الطيف والصوت لا يعدو يكن لمواطن يسكن مملكتي الداخلية التي لا أكاد أتبين جغرافيتها؟

- لا تفكري كثيرا يا"عيشة" ليس لك إلا أنا، مصيرك، وخلاصك ومخرجك الوحيد، فانصتي لي فإن الخير ما أعدك به.

وإذا بي استشعر اهتزازات بداخلي كأن روحي تنتزع مني نزعا..لكأنها تغادرني وتبرح جسدي إلى ضفة أخرى غير معلومة. رأيتها، أو رأيتني من خلالها أذرع حجرتي إلى الرحب الفسيح كطائر انعتق لتوه من قفص جثم فيه ردحا أسيرا مسجونا. وألفيتني أبصر من خلاله كل ما تمر عليه. لكم كانت دهشتي شديدة حين لمحتها تحلق فوق رأسي لاألحظ وجودها وأنا بعد صغيرة، راكنة إلى عشقي الأول تاونات، راكضة بخطوات الصبا بين أشجار التين والزيتون وأعراصها، تتلاعب بوجهي الصغير هبات أنسام سمائنا العطرة، تتلقفني مياه النهر الدافقة. ما أجمل أن يرى الإنسان نفسه صغيرا، لكأنه يعاود ذلك الشوط من أشواط حياته الماضية! وإذا بي شابة يافعة على حافة الوادي نفسه وفتيات قبيلتي، وعينا ذلك الفتى ترقبنا، وقد تظاهر بالسقي، وشدوه المتغزل يداعب أسماعنا:

- أنا للا المهبول ملي كا يسهل كنكول

الغيوان فيّ مسجون بحالوا بحال المثمور دلفول

سرابة ديالي من الثمانية للظهر.

كان مولعا بالغناء، وورثت حفيدته ذلك عنه. لقد كان ماضي ضفتي الأخرى، جسرها اليقين والتسليم. هكذا قلت في نفسي.

طائري محلق في سماء تاونات الخفيضة، و"عيشة" اليوم عروس في مراسيم الحناء، وقد أسقطت حزامها في سابع أيام عرسها. لكأني أراها على ظهر بهيمة، يقتادها عريسها إلى بيته. كان العرس يا بني، عرسا للقبيلتين، اجتمعتا حوله، ونسيتا فرقتهما فيه وتصالحتا في أثره، وعمت أيامنا مظاهر البشر والصفاء. طائري الذي لم يكن يبصره أحد رغم انخفاض ارتفاعه وقربه الشديد من الناس يحلق مدفوعا برياح غريبة بالكاد يستشعرها، أو قوى خفية غير ظاهرة إلى كوخ موحش الظلمة إلا من شمعتين تتراقصان بين يدي شيخ يلبس ثوبا خشنا مرقعا، وقد افترش حصيرا مهترئا كان كل فراش كوخه ذاك، كأنه ناسك زاهد، وبين يديه صحن أبيض حوى سائلا أحمر كأنه دم. وإذا بصوته المضطرب الوجل يقول:

- أيتها الروح العظيمة. أسكن السفح الذي أنت صاحبته. وأنا تابعك وخديمك الأوفى المتألم لاجتماع الأغيارعلى فرحة صغارهم، وإني لمعمل سحري ببركتك وأنفاسك لتشتيت لحمتهم، ولأبث فيهم أسباب الفرقة والتشرذم التي تقوينا وتظهرنا عليهم. لقد أتاني رجل منهم، سواد قلبه ظاهر، وحقده على العريس جلي، وانتقامه من العروس مرغوب فيه، يطلب عوني، وشدة دهائي. وإني لمرسل بابنتي، خادمتك إليهم لتنسف قواعد الإتفاق الأول. وإنا لمنتصرون مادامت روحك العظيمة تبارك خطونا وترشدنا في ممالك الظلمات التي أنت سلطانها الأول، والتي فقأت عيني كي لاأبصر غيرها. السواد لواؤنا، منه أتينا، وفيه نحيا وإليه مسارنا.

وهذي الدماء المهروقة على عتبات وجودك تنعش أقدامك بيننا، وتقوي صوتك على أعدائنا، فلتدم لنا دوام الليالي التي مآل النهارات إليها مهما عتت أو طالت. كنت خاتمة الأشياء ومازالت، والظلمة نهايتها وبدايتها. فلتكن أنت النهاية والبداية.

ثم أخذ يرش الدم من حوله. وإذا بي ألمح جدك آيبا من المسجد فجرا، ولسانه لاهج بالذكر والتسبيح لربه وابنة الساحر الضرير تتربص به في الخفاء، إلى أن استشعرت مروره قريبا وحيدا، فدعته مستنجدة، فهرول إليها دونما تفكير، ووجدها ممزقة الثياب ملقاة على الأرض فإذا بها تصرخ هائجة ثائرة.

- ماذا فعلت يا عدو الله؟ أغيثوني يا عباد الله. الفاجر اعتدى علي.

لم أشك يوما في براءته، وهي ذي الآن تصرخ في وجهي. كان جدك المسكين جامدا في مكانه، والباطل يهطل عليه من حيث لا يدري، ولم يشفع له أنه عائد لتوه من صلاة الفجر أداها بين العشرات من أبناء القبيلة، ولم يشهد أحد لصالحه كأن ألسنتهم شدت بفعل ساحر.

عاد طائري يعرج بي في عنان الذاكرة، يخترق بي مسافاتها الزمنية، وإذا به يستقر في كوخ الساحر الضرير الذي حلت الفاجرة مكانه، وتقول شبه ناحبة.

- أيتها الروح العظيمة. بحق روح أبي الذي فقأ عينيه يوم أبصر صوتك. كي لاينظر إلا لظلمتك المديدة بسحرها الفتان الذي مجده طول حياته. متعصبة أنا لك، كما كان من قبلي. وهو إذ أخذته إلى حضرتك المهيبة، خادما إلى جوارك، أرث خدمتك بعده، ومن بعدي نسلي لك على الدوام. فاشدد عودنا جميعا وقونا حتى نغنم، وتنتشر ألويتك في هذه البقاع.

الفاجرة المجرمة. لاتعمل إلا في الظلام، ولاتعبد إلا الشر.

ومن هناك إلى قبيلتنا، وخروج أبيك المستتر الأول. وفرارنا لواذا من بعده. لم نكن وحيدين خرج في أعقابنا الكثيرون.

حياة "إبراهيم" مرت أمامي كشريط موصول. ولقاؤك "بوعد". وتحرش "رافان" "بوجد". وكل ما أطلعتك عليه من قبل، وما لم أجرؤ على قوله. وإذا بحادثة موت أبيك تنتصب أمامي فجأة. رأيت "آمال" تجلس إلى "ليلى" صديقتها اللدودة وعدوتها الحميمة. كان موضوع حديثهما ونقاشهما، رهان آخر على أبيك هذه المرة. صار ألعوبة في يد الصغار. وإذا برنة جرس الباب، فتقوما على إثرها مسرعتين. لم يكن الناقر على جرس الباب "إبراهيم" إذ كان يملك مفتاحا. ألم يكن في بيته؟ كان "رافان" من وصل غرة. ولشدة ربكة "ليلى" فقد اختفت دون أن يلمحها بعدما سمعت صوته ذا النبرة الرهيبة. لم يمهلها حتى يدخلا. كان يعلم أن "إبراهيم" لم يكن هنالك، بيد أنها لم تكن "كآمال" التي كانت تقابله مباشرة لترى الغضب الطافح من عينيه وهو يذكرها بوعودها التي لم تبر بها.

ألم تكن من فصيلته؟ ثم قال متوعدا وقد استقر على كنبة توسطت صالون شقة "إبراهيم" و"آمال".

- سأنسفك، إن حاولت التلاعب بي.

كانت قد أعدت العدة لليلة حمراء شهدت عليها مائدتها المزينة بصنوف الطعام التي ساعدتها فيها "ليلى"، وزجاجة الويسكي التي توسطتها. أخذ "رافان" يتطلع إلى ذلك ثم قال لها بغتة:

- ألديك عصير برتقال؟

- طبعا "رافان". لمَ؟

- لأني بكل بساطة، عطشان.

وهرعت "آمال" متوترة إلى المطبخ، بينما أخرج "رافان" قنينة صغيرة من جيبه حوت سائلا أفرغه بكامله في زجاجة الويسكي، وعاد إلى مكانه ينتطر كأس البرتقال الذي ما أن وضعته أمامه حتى أمسك به، وحاول أن يلقي بما فيه داخل جوفه إلا أنه وبحركة فجائية توقفت يده المتجهة صوب فمه. كان يخشى أن تضع له شيئا داخل عصيره، مثل ما وضعه لها داخل الويسكي، وأراد أن يخفي ذلك. فوضع الكأس متصنعا حركة غضب طارئة. ممثل رائع "رافان" ذاك. فقد نجح في جر اهتمامها وهو يقول:

- من تظنين نفسك لتتلاعبي بي؟

- عيبك أنك تتسرع في إصدار أحكامك. مازلت لما أتمكن منه بعد. تصور أني لحد الساعة لم أنجح في أخذ شيء منه سوى الوعود.

وإذا بخطوات ثقيلة تدنو من باب الشقة. يتحسسها رافان وهو يشير لها بأن اصمتي، وتصرفي كأني غير موجود، فحالما ستتسنى لي فرصة للخروج سأفعل، فوافقته. ودخل متخفيا إلى المطبخ، بينما هرعت هي لاستقبال "إبراهيم". كانت قد أعدت العدة لأمر رهانها مع "ليلى" المختفية داخل الشقة، بيد أنها لم تكن تتوقع حضور "رافان" الذي فاجأها بهذه الزيارة. أفلتت من حضن "إبراهيم" الملهوف عليها، وهي تقول بدلال أنثوي صارخ لم يخف ربكتها.

- انتظر حتى نشرب كأسا، بعدها احضني كما تشاء.

كانت غير رائقة المزاج، غير صافية البال والخاطر وقد انشغلت عن "ليلى" تماما حتى أنها نسيت تواجدها، بينما كلمات "رافان" وتهديده الظاهر ملك جل تفكيرها وكرعت الكأس الأولى، والثانية دون علمها بأن "رافان" قد نفث من حقده وبغضه في شرابهما.

لهفي عليك يا بني. لو قدر لهذا الطائر الحزين أن يكون حقيقة وواقعا لاظلا مسافرا عائدا من الحاضر إلى الماضي إذن لهرع إلى كأسك يزيحها عنك، ويطوح بالخطر بعيدا، ولكن هيهات يكن له ذلك.

ماذا تصنع أم ترى ابنها يقتل أمامها بسم زعاف؟ نعم يا بني. كان ما وضعه "رافان" في الشراب سما، وقد بيّت في نفسه قتلهما معا.

قتل "إبراهيم" انتقاما منه لبغض "ليليان" له التي أورثته ذلك. وقتل "آمال" وهو العارف بأنها تشبهه كثيرا وأنها لو ظلت حية وعلمت بأمره إذن لظلت تبتزه، وتهدد بفضحه إلى ما لا نهاية.

كانت "آمال"، الوجه الآخر للشيطان. وكان "رافان" الشيطان نفسه، بينما "إبراهيم" غائب في سكرته.

 

يتبع...