الوجه الحادي عشر

20 0 00

ريح قبيلتي ورائحتها.. صورها ووجوهها.. دورها وأغراسها.. واديها ونبعها.. سماؤها وطينها، كانت زخرفا بديعا لما بداخلي، ولم أحتج معها إلى الحفنات والصرة.

لو كان الأمر بيدي لمكثت هاهنا على الدوام، ولكني عليمة بضعف "عمر" وسرعة استجابته لدواعي قلبه مع شدة مكر الفاجرة، واتساع حيلة ابنتها. فخرجنا وأسئلة عديدة تكاد تمزقني.

أين عسانا نذهب؟

وإذا ابتعدنا، هل نأمن على نفسينا؟

لكن السؤال الذي ألح علي كثيرا:

أيقدر لي أن أعود يوما إلى قبيلتي، موطني؟

كان همي العاجل إثر فرارانا، الذهاب بعيدا ما استطعت عله ينسى "ليليان". أعلم ما يمكن أن تقوله عني. قد تراني ظالمة في حكمي عليها بجرم لا يد لها فيه، وقد تقول أنها ربما كانت صادقة في مشاعرها تجاه ابني. ولن هل تعلم عدد الليالي التي رحت أصارع فيها فكري وعواطفي أقلب الأمر على فراش الروية؟ وكنت أخلص في كل مرة أنها لم تكن صالحة له. لقد رأيتها نسخة عن أمها، ولكن بشكل آخر.

بلون عيون أخرى. بطريقة مختلفة وبكلام مختلف.

ماذا كنت أنتظر من فتاة ربتها أفعى سامة قتلت جدك وأباه؟

لم أظلمها حين أنزلت عليها حكمي الذي ما كان حكما عليها. حاكمت نفسي وكنت المتضررة الأولى من كل ذلك. وبعد أن اطمأن قلبي في مكناس الأسوار و"الهديم".. "بركاتك الشيخ الكامل"، أخذت عاطفة الأمومة تستيقظ من غفوها قوية ملحة، ولمت نفسي كلما لمحت في عيني "عمر" حزنا مدفونا وخيبة ثاوية. حاول حياء مداراتها بيد أن عينيه كانتا تئنان في صمت يسمعه قلب الأم. وكدت أضعف أمام بؤسه. وخيرا أني لم أفعل، إذ أسلمت أمري للأيام علها تكون دواءه. وفي غمرة مشاعري الفياضة، ومع ما قد يكون لحق بابني "إبراهيم"، وأنا جاهلة ساعتها مكانه، انتابتني رغبة قوية في لملمة أجزائي المبعثرة، فإذا برحلة بحثنا ترمينا من مصر إلى بلدة، ومن قرية إلى مدشر، إلى أن ألقتنا إلى سلا الشموع والأولياء. وهي كما يقولون في كل خطوة ولي صالح "بركاتك سيدي جبل بن جبل فكاك العقدة من الحبل". وأحسسنا بألفة غريبة سرت في عروقنا إذ وجدناها ضفة هي الأخرى كتاونات الجبال وأساطيرالرجال "بركاتك مولاي بوشتة الخمار".

حين كنت أسكن قبيلتي، كانت نارا وأهلها حطب أتلظى بها في كل آن وحين. وحين خرجت منها مضطرة، صارت تسكنني. وإذا هي أشواق غامرة فياضة تجرفني وتنزع بي إلى أطايب الذكرى في كل آن وحين. واحتضنتنا زقاقات المدينة العتيقة نتنسم في جدرانها جزءا من ذواتنا، وإذا نحن نطوف خلالها و"عمر" يصيح:

- هل من غرفة للكراء.. الله يرحم والديكم؟ هل من غرفة للكراء.. الله يرحم والديكم؟

حتى إذا انتهينا إلى حي الزناتي، أطل رأس فتاة زينه خمار كستنائي مطرز، وأوقفتنا كلماتها بصوتها العذب مشيرة لنا بأن لديها غايتنا. وإذا مصراع الباب يفتح في وجهينا، وأذر ابني لدى الباب ينتظر هنالك فيما تقتادني الفتاة التي اكتشفت بدانتها عبر دهليز التف بنا يمينا ارتقينا بعد نهايته بضع درجات حيث قابلتنا غرفة، توسطها مجلس سيدة بدينة فاضت ضحكتها، وامتزجت بكلمات ترحيب ودودة.

- أهلا بك أختي.. أهلا بكم في سلا العلا.

أجبتها ممتنة:

- بارك الله فيك سيدتي.. أحسب أن ابنتك أخبرتنا أن عندكم غايتنا.

عجيبة ابتسامة المرأة التي لا تفارقها، كأنها تطلع زوارها من خلالها على نابي فكها العلوي المذهبين.

- تقصدين ابنة ابني يا أختي.. أي نعم.. لدينا ما تبحثون عنه إن أراد الله.

كانت الفتاة التي استقبلتني لدى الباب، والتي تشبهها بدانة وملامح وجه، حفيدتها. والمرأة كما تبدو في مثل سني أو أصغر، تمتلك وجها ينضح بالحياة، لم تنفذ إليه تجاعيد، ولم يكن من شيء يفضح سنها غير شعيرات حمراء تساكنت وأخرى بيضاء في سلم ورضى تسللت من غير إرادة تحت منديل رأسها الضخم.

وتدلف الحفيدة إلى الغرفة دون أمر. تفاجئنا فعلا بخفة وهمة ولا تتفقان واكتناز جسمها المفرط، تحمل بين يديها صينية بدت صغيرة، ضمت أكوابا وإبريقا. وضعتها أمام جدتها في حركة كما بدا لي وقتها اعتيادية. وإذا المرأة تملأ كوبين معممين كشيخين قرويين. كنت مبتهجة في أعماقي. فالبيت جميل جدا، ينشرح له الصدر إذ توسطت باحته أغراس تخلب الأبصار، وأصحابه خيرون. تذكرت "عمر" الذي سلوت عنه بسبب انشغالي بحسن حديث المرأة وحاتميتها المنعنعة.

- إذا سمحت لي سيدتي أرى الحجرة.. لأني تركت ابني "عمر" في الخارج.. أحسب أنه متضايق من طول انتظاره.

رمقتني المرأة بنظرة عتاب لطيفة وصلتني مع أنها حافظت على بسمتها الذهبية العجيبة، فقالت موجهة حديثها لحفيدتها:

- "جميلة".. انزلي عند ابننا "عمر".. وادخليه إلينا.

فقلت معتذرة.

- اعذريني سيدتي لا أظنه سيدخل.. لأنه يستحيي كثيرا.

بدا أنها لم تكترث لي، وأشارت إلى حفيدتها برأسها التي ذرعت الحجرة كما دخلتها بخفة غزال ومرح طفولي لذيذ. سألتني المرأة وقد نست تماما أمر ابني.

- ترين البيت الملاصق لبيتنا هذا، هو لإبنتي "جميلة" حرصها الله. ومن حسن حظكما أن إحدى غرفه قد أفرغت بالأمس فقط.

كان اعتراضي لعلمي بطباع ابني المتحفظة، وذلك ما تأكدت منه المرأة حين عادت "جميلة" والخيبة تكدر ملامح وجهها العريض زامة شفتيها العبلتين، وإذا جدتها تدرك ذلك فتقول لها بكلمات ذات معان:

- لا بأس يا ابنتي. سندخله بيتنا هذا في القريب. خذيهما إلى الغرفة علها تعجبهما.

لم أكن على علم بما قصدته خلف كلماتها تلك. وإذا الفتاة تقتادنا إلى البيت المجاور فبدا لي الفرق بين بيتهما المعمور والبيت المكترى المأهول أيضا. وانتهت بنا إلى غرفة في أقصى اليمين من بابه الذي قابلته باحة غابت عنها أغراس دارهم واستوطنتها حبال ارتمت فوقها أسمال الجيران بخمول. وتدخلنا حجرتنا الموعودة فإذا هي فضلات حجرة بقيت ملامحها أو بعض ملامحها. وإذا بصرصر يتغندرأمامنا غير مبال بنا وكأنه في موطنه غير آبه بأحد، ومن سوء حظه أن لمحته "جميلة" إذ داسته بقدمها الضخمة فتلوى على إثرها صريعا دون حراك. وترميني بنظرة غائمة وشبه ابتسامة دلالة على التعود على الفعل وهي تقول:

- لا بأس يا خالة.

وتذرع حجرتنا، فيفاجئني الصرصر إذ قام كأن لم يمسسه شيء. أدركت ساعتها لعبة الضعف التي تمارسها الحشرات أمام بلادة القوة المستعرضة، وأدركت أن الضعف أيضا ينتصر من حيث يدع للقوة انطباع النصر المزيف. كان ذلك أول عهدنا بسلا. لقاء مع هذه العائلة التي غمرتني سيدتها الأولى بأفضالها. لم تناقش الإيجار معي والذي اكتشفت فيما بعد أنه نصف ما كان يؤديه الذين سبقونا. أدينا ذلك من بعض ريالات احتفظنا بها من أعمال "عمر" المتفرقة، ولم تقف أفضال السيدة الأولى عند حدها ذاك، بل ذهبت أبعد من ذلك. وجبتان في اليوم، تبعث بهما مع "جميلة" التي اكتشفت بعد اقترابي اليومي منها بأنها بخراء. وشيء أن تكون رائحة فمها أولى عذاباتي في سلا.

وإذا الأسئلة تتعقبني ملحة لم كل هذه العناية التي أضحت عادة؟ كدعوتي المسائية لكأس الشاي عندها. كنت كلما اعتبرت الأمر عن حسن نية، كرما فياضا، أنظر إلى حال جاراتي التي لم تعمل مع إحداهن حسب علمي، عملها معي. ثلاث نسوة لا تمتد إليهن يد الكرم بشاي النعناع المسائي، ولا الوجبتين المغذيتين، وكن كما يبدو في حاجة مثلنا لذلك.

كان الأمر يضايقني كثيرا إذ لم أتعود على مد يدي لأحد، ولا وددت أن يكون لأحد فضل يكبلني به ويذلني، ولكني لم أشأ ظلم المرأة وابنتها، وأنا لم يمسسني منها سوء إلا رائحة فم "جميلة".

كان ابني متضايقا أيضا في صمته الهاذر من "جميلة" التي تتوافق أطباقها وساعات تواجده. لحظت ذلك فيما لحظت نظراتها الشرهة وإعراضه المطلق عنها. وإذا الأمور تبدأ بالوضوح أكثر، عندما همست لي "غيثة" الجارة مازحة:

- احذري على ابنك "عمر" من "السمينة"، ستأكله إن تركته لها ولجدتها بعد أن يذبحه والدها الجزار.

هنالك أخذت أتحاشى ما استطعت اللقاء بالجدة التي لم تكن تفارق مجلسها، وصارت تعلم لماذا؟ وأتخلف عن مواعيد الشاي المعتم. أتظاهر بالإنشغال مرة، وبالمرض أخرى والسفيرة "جميلة" تنقل اعتذاراتي المتواصلة لجدتها، وأخذت أتحين الفرصة لأصدها وأطباقها التي قد يكون "عمر" ثمنا لها. أزجينا بعد ذلك شهرين هنالك على مثل ذلك الحال، تدحرج "عمر" خلالها بين عدة مهن ارتبطت جميعها "بالسوق الكبير". فمن حمال، إلى صبي بائع داخله، ثم على طرفه بعد ذلك. وكان خروجه من السوق الكبير إلى مقهى عمل فيها نادلا. عرف هنالك ب"اجبيلو". تلك المقهى الصغيرة المكونة من بضع طاولات وكراسي خشبية مسجاة على طول ممر ضيق، ستصير له معها حكاية عجيبة ستغير حياتنا كلها. المقهى الصغيرة أضحت موطن رزقه الجديد ومودع قلبه. حدث ذلك منذ أن أطلت عليه ذات صباح ابنة صاحبها من نافذة بيتهم المتثائب. لم يقاوم أحد قبله مذلة الإشتغال في المقهى الصغيرة، إذ ما أن يمضي وقتا يسيرا حتى يفر من لهيب تسلط مشغله، وتطاول الزبائن، بيد أن اصطباحاتها كانت زاده في صبره وإصراره. طلتها ظلت تمده بشحنة نفسية قوية لمواجهة أعباء يومه، وملاحقات "جميلة" البدينة عند عودته مساء. كان يأتيني جذلا فرحا. وكنت ألحظ ألق ذلك في عينيه، وأرهف السمع إلى أنفاسه عند نومه كأنغام سعيدة، وأعلم أن شيئا ما يحدث معه.

وتشاء الأقدار أن يقعد المرض مشغله في بيته. وإذا "بعمر" يحقق أعز أمانيه. لم تعد اصطباحاتها مجرد نظرات نافذة من عل، إذ أخذ يصعد إليها كل صباح لأخذ المفاتيح ويعيدها عند المساء ومداخيل المقهى اليومية. همسها بتحية الصباح يداعب صماخيه ويطرب قلبه اليوم كله.

كانت دواءه من كدر الإبتعاد عن "ليليان". صفت نفسه وتعرف على الحب في أبهى صوره وأسماها، ونجحت في محو أثار الحزن الرابض في عينيه فأحالت أيامه إنتشاء لم يتذوقه من قبل.

ويدأب على الوفاء لعادته شهرين آخرين، بينما تدعوني المرأة إليها على عجل لأمر هام حسب المبعوثة "جميلة" فإذا بها تحدثني صراحة ودون مواربة:

- صرتم الآن تعرفوننا جيدا كما أننا نعرفكم.

أحنيت رأسي إصغاء للأمر المتوقع فتضيف مقترحة:

- نريد أن نفرح بالأولاد، وتأتيان للعيش معنا هاهنا، فالبيت كما تعلمين كبير. وليس فيه إلا أنا وابني ووحيدته.

أبديت غباء في غير موضعه رميت من ورائه البحث عن طريق للخلاص ووقت للتفكير في رسمه.

- ماذا تقصدين سيدتي؟

اتسعت ابتسامتها الذهبية وهي تقول:

- نزوج "عمر" "لجميلة".

"بركاتك سيدي المخفي". حدث ما كنت أخشاه. أكنت أقبل أن يعذب ابني كل هذا العذاب الأرضي البدين؟ طبعا لا. كنت مستعدة لفدائه وأخيه بروحي في سبيل رؤية سعادة كتلك التي بدأت تسكن سماءه.

- صراحة سيدتي الأمر مفاجئء لي، وأحسب أن هناك سوء تفاهم كبير.

لأول مرة منذ تعرفت عليها، اكتشفت وجهها بلا ابتسامة. وبعينين جاحظتين تساءلت صامتة تطلب مزيد توضيح:

- قرأنا للولد الفاتحة مع ابنة عم له في تاونات.

كانت سيماء الغضب بادية عليها..وهي تمنحني حلا لهذه الورطة.

- الفاتحة؟ وما تعني الفاتحة؟ نعيد قراءة فاتحة أخرى والمعوذتين والصمدية، بل نستدعي فقيها يقرأ لنا القرآن كله "وكفى الله المؤمنين شر القتال" ولو كان متزوجا يطلق.