أراك قد بلغت هاهنا، تاونات أرض الجبال والرجال. يحضنك حوض ورغة الأشم بتينه وزيتونه، بزيته وعنبه، بأعراصه وأغراسه، بطيبة طبيعته و أريحية أهله. ترتوي عيناك من عيون بوعادل راكناً إلى دجنات اليأس وعتمات جور الأيام، و غلالة الحزن تسيح في نفسك الكليمة، تحمل أوزار أمك المقعدة وأختك الشاردة الساهمة، وقد كالت لكم الأقدار صفعة قوية من حيث لم تنتظروا. تتناسل الأسئلة تباعا، وتتردد في دواخلك تنتظر إجابات.
من تكون صاحبة الصوت؟ وما أبغي وراءك؟ وما علاقتي بك؟ ولما طلبت أن تأتي هنا حيث سلمت هذه الشرائط؟ لما هنا في تاونات؟ أما كان ميسر لك تسلمها في أي مكان آخر، الرباط مثلا حيث كنت تقطن وعائلتك؟ فلا تتعجل فإني رادة على أسئلتك هاته من خلال شرائطي، وأسئلة أخرى أكبر وأعمق إذا لم يستبد بك الضيق مما فيها. فتريث، ولا تتعجل.
أعود بك إلى الوراء قليلا حيث ذاك المارد الجبار في وصفه، الضخم في أرقام معادلاته، العسير الاقتحام. حيث الأقنعة تتستر خلف وجوه تستعيرونها، تخفي ملامحكم المشبوهة. حيث كانت مشاعركم أرقاما.
حيث مجتمعكم.
حيث الخمر المعتقة والموسيقى الشدية والوجوه المصبوغة. حيث العطر والنساء والإنتشاء حد الثمالة والهمسات والهينمات. حيث كلف الرجال والنساء من الحضور عن ذلك لقاء الخوض في الأعمال المزجية والصفقات المربحة. صرفت عنهم تحمل بين ضلوعك قلبا بخفق الشباب، يتنسم من عبق لذاذات ليلة مستلهمة من أجنحة الصفا، النزاعة إلى عروش الأطايب.
كانت عادتك وكان معتقدك. فأنت تحصن ساعات اللهو والعبث من تسلل الجد والحسابات. كذاك كنت تلك الليلة، ككل ليلة استقبلت عائلتك ضيوفها أو دعيتم إلى سهرة انتظمت بعلة أو انتفت عنها. حيث الخمر المعتقة والموسيقى الشدية والأشداق المتسعة.
كلما ازدادت ثروتكم اتسعت دائرة معارفكم، وسمت قائمة مدعويكم في قصركم الباذخ بدار السلام، عاصمة الغنى والثراء ألويتها الشراهة والبذخ واللاسلام، في طريق ازعير. حيث حيرتكم بين بدوية ماضيكم وحضرية مصالحكم، وترددكم الدائم بين مزارعكم ومصانعكم. هنالك حيث انتشر المدعوون في جماعات تلتهم الحسابات والأعمال والكلام. كل الطرق تؤدي إلى إضافة في الأرصدة حول المسبح المزدان بأضواء مختلفة الألوان على صفحته. فبدا متأنق المظهر، بهي الثوب إذ لم يشكل استثناء. كحال خدامكم الذين اندست أجسادهم في أثواب بيضاء، وجعلوا يطوفون بينكم، يلبون دعوات الداعين ويأتمرون بأوامر الآمرين. وما أكثرهم! وفي أحد أطرافه ضمت خشبة مسرح صغير فرقة موسيقية توسطت أعضاءها فتاة استحارت أنوثتها ترنم بصوت طروب، أسر أذنك بعذوبته ورقته. فتطلعت إليه، ولعلك الوحيد الذي أحس بوجوده والآلات المصاحبة له، إذ صرف الكل عنهم وإن سمقت موسيقاهم تشنف الآذان.
عشقت الصوت إذ داعب روحك ولامس بسحره وصفائه أعماقك.
كانت أعينا ستة تلاحقك أو أكثر، وهمسات فتيات ثلاث على الأقل تدور في فلكك. رفعت إحداهن نخبها عاليا، وقد أشرق وجهها بابتسامة جذابة. جاملتها محييا، لتعود على عجل تستكشف صاحبة الصوت الرنوم.
قلما يخذل الصوت صاحبه، ويندر أن تجد صوتا جميلا يحمله وجه قبيح، ذميم الملامح. وما شذت صاحبته عن القاعدة. فالجمال هي، والنضارة والفتنة كانت. أو كنت تملك من أمر نفسك شيئا لتقرر أن تغرم أو أن تنفذ بجلدك بعيدا عن خيوط القدر التي أحاكها بإحكام حولك؟
أو كان نداء القلب فقط الذي دعاك إليها، أم أن داعيا آخر ظل رابضا بجبن خلف تسميات التجربة والبحث عن المتعة؟
نظرات الفتاة المنتخبة لك ما انفكت أن اصطدمت بإعراضك وتجاهلك لفائدة صاحبة الصوت الفردوسي الآسر. همست إحدى صاحبتيها في أذنها:
- لا تحاولي، إنه حصن منيع.
ردت بتميز مستتر خلف ابتسامة متشنجة.
- ذلك ما يعذبني أشد عذاب.
عادت تهمس بمثل نبرتها الأولى.
- إذن فهو الحب.
تطاير شرر نظرتها الغاضبة، وهي تقول مستنكرة:
- إذا كنت تقولين هذا فأنت لا تعرفينني حق المعرفة وأنت صديقتي. أنا لا أعترف بهذا الذي تسمونه حبا، وأشفق على أهله منه ومن سخافته. بل أنا أعشق ما سيرث عزيزتي. الثروة الكبيرة. هذا القصر. العقارات. المصانع. وأهيم في أرصدة أبيه البنكية، إنه ابن "إبراهيم الشرقي".
صرخت الأخرى كأنها عثرت على ثمين مفقود.
- هذه أنت كما أعرفك، يا "آمال".
أفرجت شفتيها الكرزيتين عن ابتسامة كبر.
- طبعا عزيزتي فالأعمل هي الأعمال، والعواطف لا توجد على قائمة حساباتي.
وتقدمت نحوك بخطوات واثقة محسوبة، عازمة على اقتحام عالمك المسيج وما كنت لتشعر بها وانت غريق بحر الشجو، صريع الإعجاب حد الافتتان. كنت مفتونا بسحر لوحة رسمت أمامك. بل كنت جزءا من اللوحة.
- لن تتغير يا "قاسم". حب جنوني للموسيقى.
كذاك أتاك صوتها ليشوش عليك صفاء لحظة ما عشتها قط من قبل، وبرغم الضيق والتضايق، كظمت حرجك. كنت كما ربيت وعشت داخل المجاملات التي لا تنتهي والردود التي لا تعبر بإخلاص عن صدق المشاعر في البيت والعمل وما جاورهما.
- مساء الخير "آمال" تزدادين جمالا كل ليلة.
ما أظن "آمال"، الكائن الليلي المتمرس ستجاهد كثيرا لتوقعك في حبائلها. فقالت بابتسامة مغرية تزين ثغرها الآسر:
- إذن ستدعوني لرقصة.
ولم تنتظرك لتدبر ردا لبقا تعتذر فيه، إذ أخذت عنك عناء وضع كأسيكما لتنطوق بيدك، وترتمي في حضنك برقة ولطف الثعابين، وتخوضا في رقصة هادئة على هبات موسيقى حالمة. تذوب في صدرك، كقطعة ثلج لامسها لفح شمس قائضة. أغريتما شبابا آخرين وكهولا وشيوخا، انخرطوا بعدكما في مشهد الرقص الثنائي. كم من مجبر مثلك كانت رقصته كالمشي حافي القدمين على جذى أعقاب سجائر زهيدة فرشت له وما استشعر سواه ألمها؟
ويدخل خادمان فوق البساط الأحمر المسجى على عشب الحديقة الأخضر يحملان كعكة كبيرة تغري المدعوين للإقتراب منها والتذوق مما حوت، وقد افترشت وسطها عبارة ""Joyeux anniversaire sohd أحاطت بجوانبها شمعات حمراء مجهشة، فتحلق الجمع حولها مظهرين إعجابا مفبركا، مبالغا فيه.
ما كان لأحد أن يتيه وسط هذا التيه عن صاحبة الشأن إذ كانت الأكثر تأنقا وبهاء، والأجدر بلفت الأبصار. فقد أخفت بعض جسدها الفتان داخل ثوب سهرة استبرقي حانط، حسر عن ذراعيها وجيبها وأبرزت فتحته اليمنى ساقها كما أسفر عن ظهرها وجيدها. وتربع أنف منقاذ وجها مدورا صغيرا ما بين شفتين رقيقتين ورمشا ناعسا لعينين ساعد التزيين في اتساعهما، وإبراز سوادهما، حرست كل واحدة منهما أهداب طويلة، وأطل عليهما حاجبان طويلان أزجان استترا خلف خصلات شعر منساب تدلت حتى أخفت بعضا من وجنتيها.
ووقفت إلى جانبها نسخة عنها قبل عقدين على الأقل، أكثر امتلاء واكتنازا فما كان أحد ليضيع وقتا كثيرا مخمنا حتى يعلم أنها أمها. انطلقت المعزوفات المخلدة للحظة الميلاد تذوب وسطها أصوات الحضور المنشدة بطفولية مبتكرة، لتودع أنفاسها التي هبت على أنوار الشموع آخر أمانيها تحت وابل من التصفيق. تتقبل التهاني من أمها ثم من رجل إلى جانبها أخرج من جيبه هدية لها ناولها إياها وهو يلثمها هامسا:
- عقبى لألف سنة أخرى.
- أعيشها إلى جانبك حبيبي.
لهفي على المسكينة وأمها. لكأني أبصرهما الآن في قمة الإغتباط والسعادة في تلك الليلة، فإذا هما الآن جسدان بلا روح. الأولى تهذي بكلام غير مبين، والثانية شلت أطرافها، وأفلت نظراتها إلى مكان غير معروف. صعب ما تعرضتا له. إنها آلام السقوط، وتباريح رجة الخيانة الملعونة.
في أثناء نهزة استراحتها القصيرة، تدنو من الشابة التي لم تغفل عنها طوال السهرة فتتقدم نحوها وتقدم لها كأسا مترعة:
- تفضلي.
لم تكن تتوقع ذلك من أحد لذلك أحسستها تتراجع والربكة تخالج صوتها الخجول:
- لا أشرب.
فتحت عينيك، أو جاهدت متصنعا لتبدو مندهشا:
- لا تشربين؟
- لا أفعل.
لم تدعها تكمل، إذا غبت عنها برهة لتعود محملا بقطعة حلوى الحفلة، قدمتها لها، وأنت تقول في شبه إعجاز:
- لا تقولي بأنك لا تأكلين أيضا.
ابتسمت بدعة وهي تهز رأسها.
- لا تروقني حلوى الليل.
هززت منكبيك وأنت تنظر إلى الحلوى الشهية المنظر، ثم قلت باستسلام.
- أردت إرضاءك ولكنك كما يبدو لا ترغبين في شيء أو في أحد.
وصدمك ردها بعد ذلك. لم ترد أن تطيل لعبة الذهاب والعودة، وإلا لأحضرت لها شريحة لحم أو طبقا من صنوف ما حوت مائدة كبيرة تربعت وسط الحديقة.
- لعلك أخطأت تقديرك، فأنا لست مدعوة كما يمكن أن تظن. أنا هنا للعمل.
وأشارت إلى خشبة المسرح الصغير. لم تكن تدرك أن من بين أسباب دنوك منها عملها، موهبتها، صوتها الفردوسي المخدر.
- أعلم ذلك. وصوتك الساحر سبب انجذابي إليك.
صكت صماخيك بتبرمها.
- ولعلك أخطات، إذ أنى وباقي أعضاء فرقتي لا ننتمي إلى عالمكم البراق.
كان لزاما عليك التقرب منها، واستغلال كل ما تقوله. فقررت مجاراتها. ولأنك بالعادة تحسن التصنع، والزيف كان أول ما أخذت فقد قلت ببراءة.
- دعيني أصحح لك شيئا. أنا موظف بسيط، حضرت الحفلة مع أحد المدعوين.
نظرت ساعتها بارتياب لما ادعيت. تتفحص ثوبك النفيس الغالي المفند لما قلت. لحظت ذلك منها، فقلت مدافعا عن مظهرك الذي أوقعك في ورطة تتلمس أن تنفذ منها:
- استعرته حتى أبدو كما ترين. صدقيني.
ومددت يدك تقدم نفسك لها:
- "قاسم سعدون"، أخجل دوما من قول إني فقير. لكنك شجعتني على ذلك.
وتصافحتما. حرارة يدها أذابت ندف الثلج في شرايينك فإذا هي تغلي. وغشيتك سعادة ما تمنيت انصرامها. طيلة السهرة وصوتها يداعب روحك، أليف هو لك. لامست كفها لكنك لا تدري أنك وقتها لامست قلبها البكر. تعرفت هي أيضا على شيء جديد، حرارة لم تعتدها من قبل. شيء يجرها نحوك، ويجذبها إليك بقوة. وإحساس بألفة غريبة. سلت يدها برفق، رغما عنها. شيء للأنثى دوما أن تكون الخجلى والمبادرة بالتراجع.
- "وعد".
قلت بمرحك الطفولي.
- "وعد" بماذا؟
أشرق على محياها طيف ابتسامة شهية ككل شيء فيها.
- اسمي "وعد" ثم تراجعت أسفى بعد إذنك، انتهت فترة الاستراحة.
أعلم أنك ككل العاشقين الجدد، تكره لحظة الفراق الأولى التي تعقب لحظة اللقاء الأولى.
انسحبت مغادرة بدلال، أو حاولت إذ أمسكت بذراعها كالمستجير بها. لعلها كانت تتمنى ذلك من أعماقها.
- إذا أردت رؤيتك، ماذا أفعل؟
حينذاك أفرجت شفتاها عن ابتسامة وضاءة، وهي تقول:
- أنا طالبة في السنة النهائية، بثانوية "صلاح الدين الأيوبي"، سلا.
لكم تكون بضع كلمات بلسما مداويا للناس، كمن ينتظر حكم محكمة شك في براءته. وقد كنت المتهم وتنتظر من قاضيك تعاطفا. وما كلماتها الأخيرة تلك إلا تصريحا لك بأنها أعجبت بك أيضا.