اللهفة والشوق يأخذاه في موجة عاتية وتلقي به إلى الجبال دونما استعداد أو زاد. تذكر ذلك مع الجوع الذي عصف به دون سابق إنذار. أتاه دفعة واحدة دون تمهيد أو إشارة، ولكنه زاره لقاء جهده الكبير إثر صعوده الجبل الأول الذي اكتشف مع ضيهبه تبدد الظلمة مع إطلالة شمس محتشمة من مرقدها كأنها عروس ترقبه مستحية من وراء طرفها الغضيض. لم يكن يملك إختيارا إذ كان صوت أمه يدفعه إلى تناسي جوعه الفتاك ويحثه على الإسراع ما استطاع. كأن أمه كانت تدرك أن أخاه في خطر داهم. عجل يابني، عجل. زاد شعوره ذاك من انقباض صدره المرتج مع نزوله السفح راكضا يسابق ظله المتواري خلفه معاندا جوعه وبدايات تعبه. لم يكن جبله الأول الذي اقتحمه إلا خطوته الأولى لما قد سيأتي، وفتح شهية لما سيلاقي. انحدر حتى إذا بلغ سفحه مع انتصاب الشمس في سمائه، ازداد عطشا وجوعا مزجا بشدة التعب والإعياء والشمس المحرقة، حرقة مكان تواجد أخيه "لاوي". الإرهاق امتد أيضا حتى ناظريه وهو يشخص إلى قمة الجبل الذي يقابله في عناد وتحد وقد أظهر مخالبه وأشهرها يعلن استعداده دفاعه عن نفسه إذ نتأت صخوره وبرزت لتبعث الخشية والرهبة أمام كل متحد. وعر هو في صعوده، ومحتاج إلى القوة والصلابة والشدة. فمن أين له بكل ذلك وهو على تلك الحالة؟ وزاده الوحيد كلمات أمه، ولهفته على إعادة أخيه. فذاك مأكله ومشربه ومكمن قوته ومنبع طاقته التي أخذت تدفع به إلى القمة المرجوة. لاشك أنه يدرك الآن لم نعتت هذه الجبال بحفر الموت. فلكم غيبت من أبناء أراضيه ممن أخذتهم حماسة الشباب والإصرار على الوقوف بوجهها، ولا أحد يقف بوجه الموت. والجبال كلها عناوين للموت، لانعدام أسباب الحياة بها. فلا ماء ولا نبت. الحجارة والشمس والضواري والفخاخ غير المعلومة. كانت خطواته دفاعا عن أمر علق برأسه بأن "لاوي" مازال حيا. حجته على ذلك أمه التي مافتئت توصيه بنجدته. قد يكون على وشك الموت، لذلك طلبت منه التعجيل، وذاك ما يحاول فعله الآن قدر استطاعته. لم تكن خشيته على نفسه بقدر خشيته على حياة أخيه. لأجل ذلك نفذ الوصية ومنطوق الرؤيا، ما يجعله الآن عرضة للموت هو أيضا. أخذت الشمس تزحف إلى حتفها حين كان دنيا من القمة التي أحسها باردة من تسلل ذلك إلى جسده مع شدة ما عاناه من حر طيلة يومه القائض، وعند مغربها كان قد بلغ قمة كل شيء، التعب والجوع والعطش والبرد واللهفة والشوق والجبل. منزو "سرمد" على نفسه في دجنات الليل الموحش واليأس يطوقه من كل جانب، حتى ليكاد يهجم عليه ويصرعه. وفي حمأة شعوره بالوحدة، صرخ بأعلى صوته:
- "لاوي".
رددت الجبال صدى صرخته، ووصلت صماخيه مع ضوء بلغه كابيا ينبعث من سفح الجبل الذي يعتليه. أتراه سراب الجبل والجوع والبرد والوحدة والوحشة؟
ما يملك غير تصديق سرابه، فإما يصيب الضوء ومنبعثه أو يقضي هنالك؟
قام مترنحا يقصد مصدر الضوء، محاذرا السقوط ونتوءات الصخر تفعل فعلها في قدميه الداميتين.
كلمات أمه ملتصقة به، أن عجل يا بني، عجل إلى أخيك. سقط مغشيا عليه، وهوى في طريق نزوله نحو الضوء الخافت البعيد، وصوت دافئ آخر يتردد بين جوانحه.
- لا تثق بأحد، واحذر كل الناس.
غشاوة دكناء تلك التي استلقت على عينيه، وثقل كبير تنوء به كتفاه، وهم أثقل يرزح تحته. كان يقاوم عبثا الظلام المتلبد حوله، يحاول طرده، وتبديد سكونه بحركة حياة من أحد أطرافه المتوجعة. كان يدرك في قراره الغائر أنه ما يزال حيا، بيد أن جسده لا يطيع أوامره إليه. أذناه اللتان تعملان بشكل عادي التقطتا حركة غريبة عنه، لعلها لأحد الضواري المستوطنة الجبل، يدنو منه ليفترسه. كان الصوت خافتا ثم بدأ يقترب أكثر. حاول مقاومة موت وشيك بيد أنه عجز عن الحركة، ولبث متكوما على نفسه ينتظر نهايته مع بداية الهجوم عليه. لم يدم ذلك طويلا، إذ هرعت الأحداث إليه مسرعة، وحانت نهايته التي أفزعته فزعا رهيبا. كان هجوم المفترس عليه، قدر كبير من الماء البارد، صب عليه فأصاب وجهه، وأماط دثر السواد عن عينيه، والعجز عن حركته، فانتصب متحفزا متوثبا لمصدر الهجوم. ولما أن طال انتظاره، جعل يدعك عينيه.
الصورة التي قفزت إلى عينيه، كانت غير واضحة تماما يغمرها الضباب، وتراقص داخلها شخص يقف أمامه والقدر بيده. استقرت ملامحه مع بداية انقشاع الضباب عنها فإذا هو أخنف أحدب قصير جدا حد التقزم. أخذ يشير إلى طبق تمر وقدر لبن وضعا أمامه. حاول الإستفسار بصوته الأرجف.
- من أنت، وماذا أفعل هنا؟
بدا وكانه لم يسمعه، وهو يشير ويلح عليه أن يأكل مما أمامه. عاود السؤال وكرره عبثا، كأنه لا يفقه كلامه أو لا يسمعه. شدت عنايته هنا إلى أذنيه فإذا هو أصلم أيضا. ولما أضناه ذلك منه، وأمام إلحاح الجوع الشديد، أصاب مما وضع أمامه دون أن يبقي منه شيئا ودون أن يتحرج من الأخنف الذي ظل واقفا بمكانه يرقب نهمه الشديد، وسرعة التهامه. ولما أطفأ جوعه، أوقدت نار تلك الأسئلة من جديد، إذ اكتشف أنه بواد أخضر يحاذيه نهر رقراق.
كيف جئت إلى هنا؟ ومن أتى بي؟ أيعقل أن يكون هذا الأخنف الصغير الضعيف من فعلها؟ وكم أمضيت في غيبتي عن رشدي؟
كل هذا والأخنف يرقبه، ويهز رأسه هزا غير مفهوم. قام متخاذلا وقد استرجع بعض قواه، فقصد النهر، وطفق يغتسل منه، ويمسح بقع الدم المنثورة على ساقيه وقدميه وساعديه. حسب ساعتها أنه لا تكاد تخلو منطقة من جسده لم تصب بخدش، وجرح. وعادت إليه أسئلته مرة أخرى، وكأن الماء أفاقها من سباتها.
أيعقل أن تتوارى هذه الخضرة خلف هذي الجبال، وهذا الجمال خلف تلك القسوة، وهذي الحياة خلف ذاك الهلاك؟
التفت إلى الأخنف، فألفاه يقف غير بعيد عنه، فاجأه بأن قال إذ تحرر لسانه كما بدا من عقاله، وفتح فمه الذي اكتشفه أدردا.
- تأخرت كثيرا، يا "سرمد".
رمقه بنظرة متفحصة حملت الشك والريبة.
- كيف عرفت اسمي؟ ومن تكون؟ وماذا أفعل هنا؟ وما هذا المكان الذي نحن فيه؟
قال هادئا، وبسمة تكسو نصف وجهه الكبير.
- لا تتعب نفسك بكثرة السؤال فإنك الوحيد صاحب ردودها، وما أنا إلا محطة سفر، أزودك بما يعينك على المواصلة، لتقابل سلطان الجبال.
- سلطان الجبال؟ تقصد "لاوي" أخي؟ هل هو سلطان جبالكم؟
رد بالهدوء نفسه الذي لا يتناسب والنار التي تأكل محدثه.
- ألم أقل لك ألا فائدة ترجى من أسئلتك؟ لكن لابأس، قد يكون هو، وقد تكون أنت، وربما أنا.
ازداد حنق "سرمد" وتميزه، وهو يقول محدثا نفسه يحاول إخفاء ذلك عنه:
- الملعون يهزأ بي.
قاطعه وقد ابتسم له بمكر، رافعا سبابته محذرا:
- لا تسب فأنا أسمعك.
رسمت البغتة على ملامحه برهة، ثم عاد فاستهان الأمر كله، وقال في نفسه كأن ذلك أعجبه
- وفم أهتم أيضا، كم من حسنة جمعت يا صاح.
أحنى رأسه كأنه سمعه، ثم قال:
- الآن وقد استعدت نشاطك وقوتك وروح دعابتك، أطلب منك أن ترحل.
جنة عذراء غريبة استترت خلف باسق نخيلها وعذب مائها وخضرة أرضها عن العيون وتوارت خلف هذه الجبال الوعرة المسلك والعبور، وشخص أخنف حارسها وصاحبها وحاكمها، ينفذ إلى أعماقك فيطلع على ما حوت من أسرار، ويقرأ ما تفكر فيه وتنوي قوله وفعله. هو بلا شك يملك قوى خفية أخرى وملكات لا قبل له على مواجهتها. قد يكون له جيش من أشباهه الخنفاء الأقزام لا يظهرون إلا عند اشتداد الخطر على زعيمهم، قال "سرمد" مذعنا للأمر المنتظر.
- على كل، أشكرك فلقد أنقذت حياتي. كانت جنتك الغناء هذه نقطة الضوء البعيدة التي تراءت لي قبل أن أهوي مغشيا علي، لعلها نار ليلك.
أجابه مستغربا:
- ضوء ونار؟ أنت مخطئ ولا شك، فأنا لست بحاجتها إذ لا ليل لي عزيزي كما ترى، قد يكون هيئ لك أو أنك تصورت الأمر كله وحلمت به إذ تمنيته، ولكن لا بأس عليك، مادام قد أنقذ حياتك.
- لا فائدة ترجى من الحديث مع هذا...
ألجم فمه مخافة أن يُسمعه تفكيره فيسلط عليه بعض جنده يجزوا رقبته ويردوه رديا، فابتلعه مع ريقه وغضبه وتساؤلاته. غريب هذا الرجل وغريب كلامه غرابة جنته وشكله. عندما انتبه إليه مجددا كان قد ابتلع هو أيضا لسانه كأنما نفذت كلماته، إذ اكتفى بإشارة من يده إلى اتجاه عليه أن يقصده. هز "سرمد" يده محييا، ببرود ودون كلمة، وقصد الجبل مستعيدا ثقته الأولى بنفسه، وكأنما أعطاه لقاؤه لهذا الأخنف شحنة أخرى، أو جدد داعيه الأول لسفره ورحلته مع صورة أمه من جديد، أن عجل يا بني، فلا وقت نملكه. بيد أنه بغت لشيء لم ينتبه له قبلا، إذ وبعد ابتعاده عن جنة الأخنف اكتشف أن النهر الذي اغتسل به سلفا كان يحد تلك الأرض من كل جانب، فهو ليس نهرا ولا واديا، وإنما بركة كبيرة أو بحيرة عظيمة، جف ما بداخلها وأقيمت عليها واحة الجبل على ذلك النحو العجيب ولم يجد مندوحة من عبور الماء، إلى الضفة الأخرى إن أراد مواصلة طريقه مع بقايا صوت الأخنف يعيد:
- لك أن تختار، إما أن تبقى هاهنا وإما أن تتحدى الصعاب لملاقاة سلطان الجبال، وما رأيت وما عشت إلا نتفا يسيرا من الأهوال والمخاطر التي تنتظرك، فانظر ماذا ترى؟، الكل بيدك.
لكم يكره أن يطلع الأخرين على تردده ومكامن ضعفه، لأجل ذلك ودونما إطالة التفكير، إرتمى في أحضان الماء، وعينه على الضفة الأخرى ياقنا ومصمما، بل ومتشبثا بملامستها. كان يحسب حساب الغرق إذ لا سابق علم له بفن العوم، فآثر أن يخاطر ويغامر على الإنتكاس نحو الأخنف بيد أن مخاوفه لم يكن لها من داع، فمنسوب المياه بلغ صدره ولم تكن المشكلة ثم، بل كانت في قعره المطمي اللزج، وجعل يتمهل مخافة الانزلاق الذي فيه هلاكه. ولم يكن يتقدم نصف خطوة إلا بعد أن يتأكد من ثباتها. "سرمد" يا أبنائي لم يعد يعبأ بالأحجار المترسبة في قعره، والتي كانت تصيب قدميه، كأنه تعود الخدوش وما تصحبها من آلام. وأزجى في عبوره وقتا غير يسير، يخترق الماء، ويقاوم شراك قعره حتى بلغ سالما ضفته المنشودة، غير أن التعب كان قد نال منه كل منال. لكأن تلك البحيرة ضاهت عناء عبور الجبلين في الجهد والتعب، لكنه لم يحفل بذلك قط وانتصب أمامه جبل يشبه أول جبل عبره. لم يتردد كثيرا، أو يمهل نفسه وقتا لإستعادة قواه التائهة إلى مرابضها، بل قصده رأسا وهو يردد في داخله:
- لن أكون أضحوكة لك أيها الأخنف.
تمثل أمامه، يشرع فمه الأدرد وهو يقول:
- أنا أسمع كل ما تفكر به.
هز كتفيه بلا مبالاة.
- وما يضيرك أن أسميك أخنفا أو أدردا وأنت كذلك أم تريد أن أناديك كامل الأسنان؟
وأتاه همسا في أذنه، كأنه صوته وكان واضحا لم يتخيله:
- جد غيري لتتسلى به، ويكفيك ما أنت فيه.
كان قد بلغ منتصف الجبل فأجفل في مكانه، وتوقف عن المسير، ولأول مرة منذ أن غادر جنته الغريبة التفت إلى أخنفه فألفاه حيث تركه آخر مرة، لم ولا يتحرك كأنه صنم ثبت هنالك. وكان يبدو كنقطة سوداء وسط هالة الخضرة التى حفته من كل جانب، ولفرط صغره وسط ما يراه أمامه، فقد عده سرمد كتمرة من أطايب التمر الذي ضايفه به والذي لم يذق أجود منه طول عمره. فكر في دواخله مجددا:
- حقا تبدو لي كتمرة طيبة، أيها الأخنف. لاأقول ذلك تقربا منك أو لعلمي أنك تسمع ما أفكر به، ولكني ممتن لك، معترف بجميلك وحسن صنيعك.
شيء غريب رغم كل شيء يذكره دوما بذلك الكائن الغريب، ورابطة خفية رفضت أن تعلن وجودها، رغم علمه بأنها كائنة حقا، وجعل يتحسس موقع أذنه اليمنى مركزا انتباهه عليها عله يتلقى رده، لكن شيئا لم يصله عنه، فالتفت وعينه على قمة الجبل.
- يبدو أنك لا تسمع إلا ما يعجبك، إنك لماكر، ولكنك لطيف، فاسمعهما معا.
وعلى غير ما توقع، إذ كانت كلمات ألقاها دون أن يأمل في رد، أتاه أوضح عن ذي قبل، وكأن المسافة التي تفصلهما تزيد في قربهما:
- وإنك لمتسرع في أحكامك على الناس، هازئ بمشاعرهم.
أصابه الضيق لما وصله، ورغب عن التعليق والمواصلة في محادثته فواصل طريقه بعزمه الأول، بل أكثر ليظهر له أنه قوي قادر على التحمل عكس ما قد يتصوره، ولكنه ما إن أحس أنه غاب عن ناظريه حتى جعل يعاود التفكير مجددا محاذرا أن يصل شيء منه إلى الأحدب وخشية هزئه منه إذ طلب الراحة:
- ما الذي جاء بي إلى هذه الجبال الوعرة؟ وصية أمي أم أعمالي؟ كيف استطاع "لاوي" أن ينجو بنفسه من شراك الجبل وأن يعيش موغلا داخله؟
لإن كان زادي من التعب قوة إصراري وشدة عزيمتي، ما أفعل أمام الجوع؟ أما كان حري بي أن أطلب تمرا من صاحبي الذي ما أراه يردني وهو المضياف الكريم؟
لا حيوان هنا أصرعه وآكل لحمه، ولا حشائش أقتات منها. صحراء من الصخور الجرباء التي لا تزيدك إلا شعورا بالإنقباض والتبرم.
بدت له السماء واطئة لشدة ارتفاع الجبل. تأملها يبحث من خلالها عن مخرج له أو مجيب لأسئلته الكثيرة، فإذا هي صافية إلا من شمسها المائلة إلى شوطها الثاني والتي خالها تلامس قفاه، وعقبان تدور حول الجبل فجفل لذلك من مكانه، وهو يقول:
- الملاعين، يعدونني وليمتهم المقبلة.
وقام يلتفت وراءه فإذا هم يحلقون بهدوئهم الساحر الذي يغيضه ويزيد في اضطرابه، ويحسب أنهم مطمئنون أنه وجبتهم، فتتحرك الهواجس في نفسه ويزيد من سرعته حتى إذا استقبله الجبل الثاني مرحبا، أحس أنفاسه تكاد تمزق صدره من فرط اهتزازه وشديد لهاثه.
فقد "سرمد" لفرط تعبه، إحساسه برجليه وباقي أطرافه، كما فقد إحساسه بالمسافة التي قطعها عدوا بين ارتفاع وانخفاض، إذ كان وعيه يغيب ويحضر إلى أن عم الظلام رؤيته، فسقط مغشيا عليه، متأكداً هذه المرة أنه جاوز نهايته. فألف ألف خطوة تقربه من الموت. إن لم يكن فريسة يسيرة المنال لضواري الجبل فالجوع والتعب قاتلاه. سقط بلا حراك، وهو يردد بين الصحو والغيبوبة:
- لو أن نورا امتد إلي مرة أخرى، لعرفت أن الأخنف منقذي، ولكن هيهات ليتني ما فرطت في أراضينا، أسيح بين الجبال ضائعا أبحث عن حتفي.
وإذا بصوت يهمس له كأنه للأخنف، وخال أنه هيئ له من فرط هذيانه:
- إنك قريب جدا من ضالتك، فتصبر وتتشجع.
وصوت أمه يعود مذكرا:
- عجل يا بني، عجل.
وصوت آخر يتماهى معه، ويظهر بوضوح:
- إحذر حتى لا تضيع، إحذر الجميع.
تداخلت الأصوات فيما بينها، قبل أن تصمت وتخرس جميعها دفعة واحدة، فأطبق عينيه وأصاخ لنفسه ينتظر مصيره المحتوم. لحظة الصمت والترقب لم تدم طويلا، أو أنه فقد زمنه وحركاته، واستمرت وقتا أكثر مما حسب إذ عادت إليه تلك الأصوات من جديد صاخبة هاذرة، بيد أن صوتا واحدا استطاع أن يسكتها ويخرسها جميعا وبدا له أنثوي ناعم:
- تظنينه حيا؟
وآخر يشبهه نعومة يرد:
- بلهاء، ألا ترين صدره المرتج. لهفي عليك يا بني، ما أقسى ما تعانيه في رحيلك هذا.
صمت الصوت ثم استدرك.
- محظوظ هو أني لم آكل طعامي بعد، وإلا لما وجد ما يسد به جوعه.
وأحس يدا مرتعشة تسنده، واستشعر لبنا باردا ينزل إلى جوفه، ويدا تتحسس شعره. قاوم الظلام مستبسلا، وفتح عينيه بعناد. انزاحت الغشاوة السوداء والستر المظلمة عنها لتبصرا وجهين لامرأة وفتاة، جعلتا ترقبان بتأثر واهتمام تطور حاله. انطفأت الصورة من أمامه فجأة إذ استسلم لإعيائه مطمئنا إذ أنه بأياد أمينة، وعادت إليه صورة الأخنف، وأمه كما يتصورها ويحلمها، وصورة لها كما سمع عن أوصافها، وصورة المرأة التي انطفأت لتوها رفقة تلك الفتاة. تزاحمت كل تلك الصور برأسه، وتداخلت فيما بينها، قبل أن تفر كلها دفعة واحدة، وتتركه وحيدا بلا أنيس. لحظة الوحشة والوحدة لم تدم طويلا، أو أنه فقد زمنه وحركاته، واستمرت وقتا أكثر مما حسب يبحث عن صورة يتمسك به، يتسلى بها وفجأة تأتى له ذلك ففتح عينيه مجددا فإذا هو منظر المرأتين نفسه ترقبان بالتأثر والإهتمام عينهما تطور حاله. كانت المرأة تسنده بينما أخذت الفتاة تداعب شعر رأسه. قام متثاقلا، فقالت المرأة:
- كنت تهذي عن رجل تبحث عنه هنا في الجبل، من يكون؟
قال بتراخ:
- إنه أخي، وقد غادر أراضينا قبل ثلاث سنوات.
قالت متحسرة:
- لا نعرف رجلا هنا، غير سلطان الجبل المتجبر.
تساءل:
- متجبر؟
قالت المرأة:
- نعم يا بني إنه لكذلك، أترى البيت هناك في السفح؟ لقد كنا نعيش داخله وزوجي.
فلما ظهر ذاك المتجبر، شبه ميت كحالك أغثناه وآويناه، وأقام بيننا وقتا إلى أن اشتد عوده، واستعاد قوته، فتسلط وتجبر، فقتل زوجي غدرا، واغتصب ابنتي هاته، وهي بعد صغيرة فأصابها مس كما ترى وطردنا من بيتنا ومنعنا عنه، وهددنا إن عدنا إليه، ووجدنا داخله سينكل بنا، ففررنا إلى هنا. لقد استبشرنا بك خيرا عندما لمحناك هنا إذ أنك الوحيد القادر على ردنا إلى بيتنا، فأنت لا تقل قوة وبأسا، كما أن الشجاعة لا تنقصك لتوغل في هذه الجبال وحيدا.
تساءل، يريد أن يغير الحديث:
- كيف كنتم تعيشون هنا في عزلة عن الناس؟
- صعبة حياة الجبال ياولدي، ولكن زوجي كان صيادا ماهرا، والجبل لا تنقصه الطرائد، وقد أقام لنا بئرا داخل بيتنا.
- وبعدما طردكما من بيتكما؟
- ذاك أمر عجيب يا ولدي، مازلت أفكر فيه دون أن أجد له تفسيرا، كل صباح أجد عند رأسينا قدرا تمر، وقدرا لبن، لا نعلم مصدرها. ولكنه طعامنا الوحيد، وهو شهي جدا.
هل أخبرك شيئا يا ولدي، لقد حاولت عبثا التظاهر بالنوم علي أعثرعلى صاحب اليد البيضاء والجميل العظيم، فأشكره، وفي كل مرة يغلبني النعاس، فلا يأخذ الامر إلا غفوة قصيرة، أنتبه بعدها لأجد الطعام، عند رأسينا.
فكر "سرمد" في نفسه:
- الأخنف وصل كرمه، وتمره إلى هنا أيضا!
- ماذا قلت يا ولدي؟
كاد يقفز من مكانه وقد تساءل في نفسه، أتملك هي أيضا قراءة كل ما يدور داخلي؟
هزت رأسها إيجابا، وبسمة حزينة تصدر عنها رغما عنها:
- طبعا يا ولدي، فدخائلك معلومة لا تخفى عن الخيرين، من الأخنف الكريم؟
زايلته البغتة إذ تأكد له يقينا قدرتها أمامه.
- لست أعلم، ولكنه يقيم بعيدا عنكما، وتفصله عنكما حواجز وموانع، فالماء والمسافات، وأكثر من جبل، وأنت كما تقولين يأتيكما الطعام كل ليلة. لا، صعب عليه الوصول إليكما، بل مستحيل.
تساءلت وهي تنظر إليه باستعطاف:
- أتساعدنا، ولدي؟
حانت منه التفاتة إلى الفتاة التي أذهبت صدمة الإغتصاب عقلها، ولكن ماذا لو كان المتجبر هو نفسه "لاوي"؟ أيجبر على قتال أخيه من أجل أغراب؟ ولكن الحق يقف بجانبهما فليدافع عن الحق، ولو يبذل في سبيله حياته كلها؟ ثم ماذا لو كان واهما؟ و"لاوي" لا يمكنه أن يكون غاصبا مغتصبا. لابد أنه أحد غيره.
هز رأسه بعزم، وتصميم:
- أساعدكما يا خالة، لكن علي الإحتياط قبلا. هل هو وحيد أم معه شركاء؟
هزت كتفيها، وقد ابتسمت ابتسامة ذات معنى.
- لست أدري يا ولدي، لم نره منذ طردنا، وكان ساعتها وحيدا.
- أخشى أن يكون في عصبة، فيتكاثروا علي وأهلك.
- ذرة خوف واحدة تفسد عليك أمرك كله، ولو لم أكن عاجزة كما ترى، لفعلت ذلك بنفسي، فانظر ماذا ترى؟
تقدم "سرمد" بخطوات حذرة، وقد أمسكت يداه على حجرة كانت سلاحه الوحيد، وشيء بداخله يدفعه بقوة وحماسة وحذر أيضا للمواجهة. لم يتوقف إلا وهو أمام باب البيت الحديدي.
كان بيتا فسيحا واسعا من طابق واحد بغرف عديدة، وفسحة داخلية مربعة توسطها بئر كما وصفت له المرأة. كان الباب مشرعا، فدخل البيت متحفزا لكل خطر قد يباغته وقد أفزعه السكون المهيمن على البيت، بيد أن شكوكه ومخاوفه لم يكن لها من داع إذ كان خاليا تماما، وذاك ما تأكد منه بنفسه إذ عاد وتجول في البيت بخطى أكثر اطمئنانا ودعة.
خرج مهرولا، ثم أخذ يلوح لهما بإشارات النصر والظفر منتشيا بفرحتهما، وقد لحظ أن البنت قد عاد إليها رشدها، وهي تعاود الدخول إلى بيتهما المغتصب، فابتسمت له ابتسامة امتنان وشكر، وقالت في أولى كلماتها له عرفانا.
- الشكر لك إنك لشجاع حقا. لم تخب نظرة أمي، حين تنبأت بأنك مخلصنا.
هز كتفيه:
- لم أفعل شيئا يذكر، فالبيت كما رأيتما كان خاليا. ويبدو أن معذبكما وقاتل رجلكما قد رحل منذ زمن. عودا إلى حياتكما الهانئة.
قالت الأم معقبة:
- بل فعلت الكثير أيها الهمام. لقد لحظت استعدادك لمواجهة نفسك في سبيل الحق ولقد سمعت ما فكرت به وإني لأقدر كل ذلك.
ثم دعته للمكوث إذ قالت:
- تعلم أيها الشجاع ألا رجل يحمي ضعفنا. إذا شئت تقيم بيننا وتتكفل بنا بجلب الطرائد كما كان يفعل زوجي على أن أزوجك ابنتي هاته فماذا تقول؟
ابتسم شاكرا وقال معتذرا:
- إعلمي أيتها الخالة أن ابنتك هاته جميلة فاتنة، وأن المكوث بينكما كان سيسعدني لولا أني أبحث عن أخي التائه في هذه الجبال، ثم إن لي من ينتظرني بأراضينا، وإني إذ أرحل عنكما كأني باق بينكما.
- دعني إذن أدعو لك بالسلامة والنجاة في رحلتك يا بني، وأعيد شكرك على جميل صنيعك.
أمسك يدها بحرارة وقبلها، وهو يقول:
- أنا من أشكرك سيدتي لأنك أنقذت حياتي، ومنحتني فرصة أخرى للعيش.
فكر لحظة، كأنه تذكر أمرا سلا عنه، ثم تساءل:
- ولكن خبراني، كيف ستعيشان؟
ردت، وكأنها كانت تنتطر ذلك منه، وتعد له جوابا مسبقا.
- لا تخشى علينا يا ولدي، ما أظن تمرات ولبن الكريم الجواد تنقطع عنا، ويده الممدودة تمسك دوننا، وإذا ما حدث ذلك، تخرج ابنتي للصيد، ولطالما فعلت ذلك مع أبيها، فلا تستهن بها، فهي أقوى مما تبدو عليه، وقد عاد إليها رشدها.
ودعهما بحرارة وخرج، فتعقبته الفتاة وهي تقول:
- طريق سلطان الجبل من هنا.
وأشارت بيدها ثم أردفت:
- احرص على حياتك فإننا بحاجتك، وآخرين هم كذلك، وتذكر دوما، الحذر ثم الحذر من الجميع، فاحذر الناس، ولتكن السلامة رفيقتك.
شكرها على نصحها ببسمة رسمت على شفتيه، وراح يقد الطريق في الإتجاه الذي صوبته له.
- جميلة جدا هذه الفتاة وطيبة، لولا "حنين"، لبقيت إلى جوارها.
فهمس له صوت في أذنه، محذرا :
- لا تطل التفكير بي، فحنينك أحق بذلك مني.
أفرجت شفتاه عن ابتسامة عريضة، وضرب رأسه مازحا، وهو يفكر.
- وي بي، كيف نسيت أن أهالي الجبال يقرأون قراري، ولو وقفت بيننا المسافات؟ سلمي على أمك، وخذا حذركما أنتما أيضا.
(يتبع)