الوجه الخامس والعشرون

19 0 00

ذرع صخرتها البطحاء تلك، إلى نبع السفح الذي عب منه قبل المغيب، يبغي التأكد مما قالته أمه عن مكر وخداع الطيف الأول فإذا هو كما قالت، وهم وسراب لا وجود له، داخله العجب من ذلك إذ أنه ياقن من أنه شرب منه حتى إن ماءه مازال يعلن عن وجوده داخله. وجعل يطوق بالمكان يريد أن يعرف إن كان قد أصابه فعلا أم أخطأه. كان هو عينه، ولكن بلا نبع، ولا أخوات ثلاث يسكن بمحاذاته. تأكد من ذلك أكثر من مرة إذ وعلى الرغم من الليل وظلامه، فلقد أطل عليه وهج من قمة الجبل ينير سبيله.

لم يداخله شعوره القديم بالتعب والجوع، بل أحس نفسه كطائر يسبح عابرا تلك الجبال التي تفصله عن أراضيه، والضوء المنير يتعقبه أيان اتجه، وفي كل مرة كان يتفحص مكان من قابل لكن دون أثر لأحد منهم، ولا لشيء جمعه بهم، فعندما مر من مكان لقيا المرأة المطرودة وابنتها التي كانت بلهاء، لم يجد بيتهما بله المرأتين، بيد أنه عند اقترابه من جنة الأخنف الأولى التي كانت وهما كما رأى، وكما قالت له أمه صاحبة الطيف الثاني، ألفى مكان وهم الجنة، رجلا حسن الوجه والمظهر وهالة من نور تحيط به يلبس لباس الأخنف حاول أن يفكر في شيء يبغي مخاطبته بيد أنه لم يستطع وكأنه شل عن تلك الإرادة الخفية والحركة الداخلية، وإذا المرأة الطريدة وابنتها تظهران وذاك النورنفسه يحيط بهما، إحاطته بالفتاة التي تشبه زوجه "حنين"، والفتاتان الأولى التي دلته على مكان تواجد أختها التي وقفت حذاءها، والكل يرقبه بعين رضية. هز لهم رأسه هزا خفيفا خفيا، كأنه يفهم قصدهم جميعا، ويدركه ودون كلام أو توديع. اختفوا جميعهم كما ظهروا تباعا وكان آخرالمغادرين أول الظاهرين، الأخنف الذي خلاه إلى ظلمة قاسية باردة، أصابت جسده بموجات برد لافح، وأصابت رأسه بالدوار فسقط حيث هو، وصرخ صرخة مدوية ظنها شقت صدره كما شقت ليله.

قام فزعا من نومه مضطربا، وصدره يرتج، ونبض قلبه متواتر كأنه عاد عدوا لتوه من مكان سحيق، وقال لنفسه:

- يا له من كابوس!

وإذا بصوت يهمس له في أذنه بشيء لم يستطع تبينه.

 

قام، ووقف بجانب مدخل خبائه متخفيا، وقد استل خنجره، وجعل ينتظر. لم يكد يمضي وقت طويل حتى بلغ إلى أذنيه اليقظتين، وقع خطوات حذرة تدنو من مدخله، فتجمد في مكانه، وتحفز لصد الخطر القادم إليه. وفجأة انقض الشبح بخفة على مرقده يحسبه هنالك، وجعل يسدد طعنات قاتلة إلى غطائه في مواضع متفرقة وانقض بدوره على الشبح دون أن يمهله وقتا وتله بضربة خنجر واحدة. فسمع هدير صوت نسائي صار يحفظ نبرته جيدا وكان لأمه التي أوصته بالعودة إلى أراضيهم. أضاء قنديله، قربه من وجه الهاجم فكان "للاوي" أخيه. زفر بشدة، وهو ينظر إلى جثة أخيه المسجاة أمامه وقد استشعر حزنا أليما على قتله، فقال والمرارة تكسو نبرة صوته.

- بعت نفسك لهواك، وما عاد شيء يرضيك إلا الموت، فارض الآن، وطب خاطرا فإني لم أعد كما عهدتني جبانا، أفر منك.

خرج متوترا، مرتبكا إلى خباء أبيه يطلب لقاءه، متمنيا أن يجده مستفيقا إذ كان الوقت ليلا، فبغت لما سمع صوته يدعوه إليه، إذ بلغ مدخله.

- ادخل "سرمد" يا بني. فعلتها إذن.

قال بصوته المرتجف.

- نعم "أبانا"، كان يود قتلي.

عاد صوته الهادئ يخرج من فيه باتزان ورصانة:

- لا تحسب كوني أعمى لا أبصر، فقد كنت أنتظرك يا بني، فاقصص علي ما حدث معك في الجبل.

تساءل "سرمد"، وقد داخله العجب.

- أتطلع على أحلامي أيضا، "أبانا"؟

- أحلام؟ أية أحلام تقصد يا بني؟ يبدو لي أنك لم تتعلم شيئا، فاحكي لي ما جرى.

تنفس بعمق، وقال:

- شيء غريب لا يصدق، في بضع ليلة عشت أكثرمن يوم، ونمت أكثر من مرة، وقابلت الموت حتى تعرفته وتعرفني، وشاهدت نفسي على أكثر من صورة وتعلمت شيئا وأشياء، فأما الذهاب على طوله، كان شيئي وأما الإياب على قصره كانت أشيائي.

هز "أبانا" الحكيم رأسه، ومرر يمناه على لحيته البيضاء المرسلة حتى صدره ثم قال:

- سررت بشيئك وأشيائك، ومادمت قد نجوت بنفسك فلأنك أدركت من تكون أمك فعلا فكيف عرفت ذلك؟

- كان ذلك "أبانا"، شيء ذهابي وهو الذي دلني عليها بسهولة ويسر، أدركت خلال رحلة ذهابي أن الخير والشر منبعهما القلب الواحد، يتصارعان داخله صراعا أبديا لا نهاية له، والخير يخاطب الخير ويسمعه، والقلب يحدث القلب حديثا لا تسمعه الآذان، كلماته مشاعر صادقة، لذلك وعندما وقفتا أمامي، قلت في نفسي:

- مادامت الأخت الشريرة لم تسمع حديثي مع أختها، فلأن الشر يوقر آذان قلبها، وذاك سبيلي لمعرفة أمي، حينذاك سمعت همسا في داخلي، صافيا كلبن الأخنف الذي أشربنيه أول مرة، وذقته من بعد لدى المرأة وابنتها، وماء نبع السفح بعد ذلك مع الأخوات الثلاثة. أتاني صوتها عذبا:

- ذاك المؤمل والمرجو فيك، أيها الإبن البار.

تطلعت فيهما، وأنا حائر بينهما، ثم ركزت نظري على المرأة الأولى التي كانت تقف يميني، فسمعت صوتها مجددا:

- كذاك القلوب ترشد الأبصار، إنها أنا أمك يا بني، فسايرها في كل ما ما تريده، واسمع قولي جيدا، ولا تدع ذرة شك واحدة تفسد علينا الأمر كله. أعددت لك هذه االرحلة، ويسرت لك كل ما شاهدت، والتي ستصر على إزالتها الليلة، لأن الليل سلطانها وقوتها، أما سحائب النور التي ستلمحها فهي لقوة في أصحابها لا يبصرها إلا الأخيار، وعند عودتك تظاهر بالبحث في مواقع كل ما مررت به، وتظاهر بالعجب والسخط علي، حتى تعود.

قاطعتها متسائلا:

- لمَ هذه الرحلة الشاقة المتعبة؟

ردت بحنو أم ملهوفة، غمرني وأنعشني فيض حبها الدافق.

- لولا الصعاب، ما نعمت في خير وهناء. إنما فعلت ذلك لتقابل ماضيك يا بني، ولقطع دابر الشر الثاوي بيننا، لقد حاولت مع "لاوي" أخيك يا بني، بيد أنه باع نفسه لليل وظلامه، وإنه لمتسلل إليك الليلة لقتلك.

- لماذا يريد قتلي؟

- ولماذا لا يقتلك يا بني، وبذور الخير فيك ستحارب نوازع الشر داخله؟

- وهاته الشريرة التي تشبهك، أما تستطيع أن تقتلني، وهي كما قلت تملك جندا من أتباعها؟

- وأنا يا بني، أملك أيضا جندا من أتباعي المخلصين، إذن لقتلت "لاوي" ، ولحجبت شره عنك ولكني لا أستطيع كما لا تقدر هي. قتالنا يصعب أن تعيه، فعله أكثر من القتل وأكبر منه، وإنما تحثك هي الآن على العودة ليلا، لأنه ينتظرك فتيقظ وسايرها كي أطلعك على أسرار أخرى، وتظاهر بالتفكير.

طريق وصولك إلى هنا كان وعرا. شمس سمائه قائظه. عقبانه جائعة. عانيت ما عانيت فيه وصبرت، وأعنت المستغيث الملهوف. ذاك طريق الخير صعب إذا مشيت فيه، وآخره طيب المحمد، وسترى ذلك عند نهاية الأمر كله. بينما طريق عودتك سهلة يسيرة ستحملك لغرض في نفسها بسرعة إلى أماكن تشبه تلك التي مررت عبرها، ولكنها ليست هي. ستأخذك من مسالك الشر المظلمة المقفرة، وحتى أذهب عنك شكك، لعلمي أنك شكاك، سترى كل من قابلت عند جبلك الأخير، يودعونك متمنين لك النجاح.

سأل "أبانا" الحكيم:

- وهل رأيتهم؟

- بلى "أبانا" أبصرتهم، إلا الأخنف الذي قابلني بعد الجبلين الأولين، فقد رأيت رجلا حسن الوجه، كان مقدما على كل من عرفت، وكان رجلهم الوحيد بيد أنه كان يلبس لباس الأخنف.

قاطعه "أبانا" الحكيم:

- لقد رأيته أول مرة، كما تصوره داخلك مع نوازع الشك التي كانت تهب بداخلك. ذاك المخلوق الذي رأيته، وتصورته هو الحب.

سأل:

- الحب؟

- نعم يا بني. لقد تصورته أخنفا بشعا، ولم تحسن صورته لديك إلا بعدما عبرت من صورته الأولى إلى الضفة الأخرى، حيث حسن صنيعه وخيره العميم. لقد عميت عن حقيقته أول الأمر، رغم أنها كانت بادية وحجبت عنك.

ألم يحيي قلبك بعدما ظننت نبضه توقف؟ الحب يا بني كان بابك الذي أدخلك تلك الجنة، فتذوقت أطايب تمرها وخالص لبنها.

- أكان ذلك حبي "لحنين"؟

- لنفسك و"حنين" وأمك وللناس أجمعين.

للناس أجمعين يا بني كان حبك بعدما أدركت الحقيقة. واذكر أني جدتك، وأني لخيرك أسعى. بعد كل الذي عشت ورأيت، صرت أفرق بين الأصوات التي تصدر من داخلي، والتي تأتي من حولي فتنفذ في غوري. وأدركت دون حاجة أو جهد أن صاحبته، جالسة إلى يميني، فإذا أنا أتبينها بوضوح، إذ أن الغرفة التي كانت، أو كنت أحسبها رمادية اللون دنية من الظلمة، محسوبة على السواد، كانت حقيقة غامرة الأنوار، وإذا صاحبته امرأة مسنة تكومت على حزنها، والتفت بعباءة حنان فاض من كل جسمها، وأصاب كل من حولها وغمرتني أنفاسه العطرة، التي غدت مرئية، فارتميت في حضنها وأنا أجهش باكيا، متأثرا.

- واعلمي، أني أحبك أكثر جدتي.

ضمتنيوصوتها يختلط بنحيبها:

- أهلا بك، يا بني في "آل العربي". لقبك، ماضيك، شهرة عائلتك.

قفر أسرني قره، وما استطعت فكاكا منه. بيت كان مخلصي، أتاني يسعى دافئا، فاردا ذراعيه، منشرح الصدر، باسم الثغر، عذب القسمات، زكي الأنفاس، حلو التقاطيع. بيت جذوره تغوص عميقا في الأرض، ولكنه أتاني يسعى مخلصا. منتشون نحن، نستمرئ لذلذات اللقاء. كل ما نفعله تعبير عن فرحتنا. الدموع، النحيب، اللوم، حتى أفراحنا، لا تختلف طرق الإحتفاء بها عن إظهار الحزن.

ورفع بيتنا أعلام الحبور والإبتهاج، وبدا كأن الناس لحظوا ذلك، فقصدونا وصدى جلبة يصلنا، فهرعنا مستطلعين، متحفزين، فإذا شيخ رث الثوب، طويل اللحية، غائر العينين منكسرهما. كان مثير الجلبة وقد تجمهر الناس حوله، وجعلوا يرقبونه، مبدين تبرمهم من منظره الغريب المنفر، ويسمعوا صوته الواهن.

- "عيشة"، "عيشة"، أريد "عيشة".

لمح جدتي، وارتمى على يدها يهم بتقبيلها لولا أنها منعته، مستغربة فعله، ثم جعلت تتفرس فيه، فقالت مستذكرة:

- "علي"؟

لم يكن يقوى على رفع ناظريه إليها مخافة أن يلاقي عينيها، فقال وعيناه أرضا:

- نعم، "عيشة"، إنه أنا "علي"، جئت لرؤيتك وطلب الصفح منك بعدما علمت بعودتك إلى هنا. لا تستغربي لحالي، فهذا ما جنيت من تآمري على أهلي. واليوم، وقد اجتمع حولي كل أهالينا، أطلب صفحهم وعفوهم أيضا، لقد أعماني الطمع والشراهة والغيرة، ودفعني غضبي الشديد إلى سلك دروب الشر المظلمة التي أوصلتني إلى ما أنا عليه الآن.

سأشرع لكم من البداية أحبتي، لقد آن الوقت لتعلموا أن من كنتم تسمونها الفاجرة، هي فاجرة حقا. لا تقولوا بأنكم نسيتموها، وهي من دبرت بمعيتي تلك الحيلة التي أحالت حياة "عيشة" العروس وزوجها وأهله جحيما مستعرا، إذ تربصت به وهو قادم من صلاة الفجر وأوهمت الجميع أنه اعتدى عليها، وما مسها العفيف الطاهر. أين الشيوخ؟ أين حفظة تاريخنا وسارديه؟ ليعلموا جميعا أن الرجل لم يفعل شيئا غير استجابة لنداء غوث، وإنما كان ذلك من كيد الشريرة ومكري، فلتغفروا لي. أحبتي، الفاجرة الشريرة هي ابنة أحد السحرة، ولقد أعماني سحرها فدخلت قبيلتنا وجعلت تدبر المكائد، وتثير النفوس للصراع والإقتتال بين قبيلتنا. كم كان ذلك يغبطها ويبهجها. ثم إنها إذ استفحلت العداوة بيننا، وثوت فينا تقتات من ضعفنا وسقمنا، انتقلت إلى أبناء القبيلة الواحدة، فأدخلت "الشيرا" إلى زراعتنا، وأزهقت الأرواح لأجل شبر أرض بين الأخوين. أترون أين كنا و أين صرنا؟ فلتسامحوني جميعكم، ولتسامحيني يا "عيشة". أترين الآن جزاء ما فعلته، ولقاء انغماسي في وحل الشر. الطرد بعد أن أحكموا قبضتهم على القبيلتين؟ طردت غصبا، كما طردت حيلة. وإني لعائد إلى أرضي، فعودي معي، وخذي حقك بقوة كما أنتزع منا. صاح شيخ بين الوقوف.

- كما حافظنا على دارك وأرضك وأراضي ودور الغائبين، إنا لقادرون إن اتحدنا أن نمنع أي متسلل إلينا مهما كانت قوته وطرد أي محتل لملك غير مشروع مهما كان جبروته. لتعد "عيشة" إلى دار أبيها، ولنعد إلى أنفسنا نحاسبها على عثراتها، وعلاتها، وكفانا ما أتلفته الفرقة والشقاق.

والتفت حول الشيخ الجموع والعزائم، وتوحدت وجهتنا، إذ عبرنا الوادي عبر جسره الصغير بخطوات واثقة ترسخ على الحق، حتى إذا بلغنا مقصدنا وجدناها خالية وقد رحل عنها غاصبوها. قطعنا إلى الضفة المقابلة حيث جزء منا هنالك. أكانوا يعلمون بمقدمنا فغادروا قبل وصولنا؟ لاشك أنهم إن فعلوا، مطلعون على ما ننوي القيام به مستقبلا، أم أننا كنا نخشى أشباحا لا وجود لها إلا في جغرافية ضعفنا وممالك كوابيسنا التي أدخلنا سجونها مجبرين، وعشنا داخلها واهمين أنها الحقيقة؟ والنتيجة واضحة، لكن الأسباب غير مهمة، الفرحة، بلغت أقصى درجاتها لدينا، لكن أحدا لم يسأل عن الغاصبين.

هل فروا جبنا كما اعتقد الكل، أم امتصهم وأذابهم بإراداتهم جسدنا المعتل؟

وإذا بي أستشعر اهتزازا داخليا، لم يكن استعدادا لسفر جديد، بل هو هاتفي النقال يرتعش فرحا لفرحتنا، فتحت الخط فإذا صوت نسائي يأتيني عميقا:

- "قاسم"؟ "قاسم الشرقي"؟

كنت أود أن أعقب، أن أصحح، "قاسم العربي"، لكني أحجمت، لمعرفة المتحدث:

- نعم، من المتحدث؟

فقالت والتردد باد على صوتها.

- إنها أنا "ليليان" يا ولدي. أتصل بك لأعتذر عن طيش ابني الذي أعماه غضبه فتصرف معكم بذلك السوء وأنتم أهله، فأرجو أن تقبل عذري، وتأتي إلى هنا لجبر ما أتلفه ذاك المعتوه. وأحسب أننا أسرة واحدة. أرجوك أن تقبل عذري ودعوتي. أرجوك، عجل يا بني.

لم تكن تنتظر مني ردا، إذ قالت كل ما لديها دفعة واحدة، وأقفلت الخط. كأنها أدت كل مهمتها بنجاح، وخلتني أقدح زناد فكري، والهاتف بيدي وقد ذكرتني بوجود هذه الوسيلة معي، التي استخذمتها لصالحها، لغاية في نفسها، وكلماتها مازالت تطن في أذني، أن عجل يا بني، عجل. جعلت أعبث بذاكرة هاتفي، فإذا بي أقع على رقم، أحالني على وجه أليف جدا، حامله محام شهير من أصدقاء والدي المقربين، فطلبته معلنا رغبتي في رفع دعوى قضائية ضد "رافان"، زوج أختي السابق، أتهمه فيها بقتل أبي، و"آمال"، وخيانة الأمانة، واحتلال ملك الغير، والتزوير والإختلاس، ووجدت سابق علم له بالأمر، إذ أخبرني أنه كان ينوي الإتصال بي لنصحي أن أفعل الشيء ذاته، بعدما التقى محامي المجموعة، صديقه أيضا، فأعلمه أنه يملك أدلة تدين المجرم المحتال. وكنت قد أسقطت محامي المجموعة من حساباتي إذ توهمت أنه أضحى محسوبا على "رافان" خاضعا لعطاياه وهباته، وظلمت الرجل.

أقفلت الخط، وقد انتابتني نوبة فرح زادت من شحن عزيمتي، أيحمل لي هذا الجهاز الصغير كل هذه الفرحة، ويمنحني كل تلك الحلول، وكأن "ليليان" ساعدتني من حيث لا تعلم، وإذا الهاتف يهتز مجددا مؤكدا دوره، فإذا الطالبة "ليلى". و"ليلى" اتصلت تخبرني علمها بأمر هام عن مقتل والدي، وأنها حضرت المكان الخطأ في التوقيت الخطأ فشهدت جريمة "رافان"، الذي قضى على "آمال" أيضا، فلبثت في بيتها مريضة لأجل ذلك، وقاومت خوفها وترددها، ورست سفينة تفكيرها على مرفأ مساعدتي، وأنها تقبل الشهادة إن دعيت لها، لتستعيد راحة نفسها وسكينتها. قبلت هاتفي، مخلصي، ومنجدي. أتكون الحلول قريبة منا، ولا نكاد نبصرها لشدة ربكتنا وخوفنا؟

وأذهلني تسارع الأحداث من حولي، وتلاحقها بتلك الوتيرة المتسارعة، فجلست إلى جدتي وأمكم وابنة عمي أروي لهن ما جرى معي، وما أنوي القيام به. فقصدنا الرباط ومازالت "وجد" تجلس جانبي، وتسرد علي ما اطلعت عليه من مخالفات "رافان" الكثيرة، التي ستدينه، حتما. وأدانته فعلا، إذ اعترف بجرائمه كلها، ما علمنا منها وما استتر في المجهول. ففضحها كلها، بعد ما حاصرته الحجج، وأوقعته بشهادة الشهود فانهار، وخر من عل على رأسه. وزاد من تعقد الأمر عليه، وعدم قدرته على تقبله لما علم بأن أمه قد تخلت عنه تماما ونفذت بجلدها دون أن تلتفت خلفها إذ فرت خارج البلاد إلى وجهة غير معلومة.

وأعيدت لنا أملاكنا كما أعيدت لنا حياتنا الماضية، وعادت الدماء إلى شرايين أمي والنبض إلى قلب أختي "سهد"، وانزاحت عن سمائنا غيمات الشر التي رحلت مطرودة دون رجعة، ودخلت مدننا التي تسكننا، وأعدنا بناءها وتصميمها، فأزلنا عنها أسوارها وأحزانها وانكفائها على جراحها، وانقسامها إلى ضفاف، فإذا هي أرض واحدة لا فاصل بينها ولا قاسم.

واستعادت الحياة خطوها، ونسينا مآسينا، وتلك الصور الأليمة التي كنا جزءا منها أو كدنا ننسى، إلى أن تذكرت يوما الوجه الثاني من الشريط العاشر فشغلته فإذا هو فارغ.

وأدركت حينها، أني كنت أعمى لدرجة أني لم أبصر جدتي وهي جالسة جانبي كما أني لم أتفطن إلى أن كل تلك الشرائط كانت فارغة عند مقدمي الأول، وقد سمعتها من جدتي مباشرة، في نفس الوقت الذي كانت "وجد" تسجل فيه، حتى إني لما أعدتها، لكأني أسمع أنفاسي، وأتلمس وجودي مع وجود "الجدة"، وآثرت اليوم أن أفعل الشيء ذاته معكم، حتى تحسوا أنكم كنتم معنيين بذلك، لدرجة حضورها في الذكرى الأولى لرحيل جدتنا "عيشة" الرضية، التي عاشت للحق، وعاشت به وعاشت معه. فاعلموا أن الحق مهما جبن وضعف سيأتيه النصر لأنه حق، وأن الباطل مهما كبر وتجبر سيصيبه الخذلان لأنه باطل.

 

النهاية