لو دققت النظر أكثر في "رافان"، ولو كنت حاضرا ساعتها للمحت شررا عجيبا يطفر من عينيه. النظرات تفضح صاحبها دوما، لكنك رضخت لأمر الإمبراطور، فكذاك كان. ومجموعته تستمد روحها من روحه المسكونة بهاجس الربح المستمر والمتواصل. أنظاره مشرئبة على الدوام إلى أسواق جديدة. والعولمة أو الكوكبة لم تدع له مجالا لطول تفكير. إن أردت البقاء، عليك أن تكون كبيرا. والعالم لم يعد يعترف بالصغار. عرف فيما عرف بفلسفة اقتصادية قديمة، تقليدية لكنها فاعلة، بسيطة لكنها عميقة. الدرهم الذي تملكه ولا ينسل لك دراهم أخرى، هو درهم عقيم، وجوده لديك كعدمه. لأجل ذلك جمع ثروة مهولة. يتربع الآن فوق عرشها "رافان" بعد أن كان أبوك صاحبها، وانداحت إمبراطوريته في كل البلاد. وبلغت منتوجاتكم أقاصي الأرض وأدانيها. لم تدع مجالا يدرالربح لم تلجه بكل ثقلها، والكل يخضع خلالها للجودة المرتقبة والثمن الخفيض. معادلة استوعبها والدك جيدا، فحقق نجاحاته وفتوحاته. كذلك كان أبوك. لم تدافع بشراسة على مقترحك كما عهدك، ولم يرتفع صوتك الغاضب ليغادر قاعة الاجتماعات ككل مرة دافعت فيها عن شيء آمنت واقتنعت به. لذلك من الحضور من استغرب في سره تغير طبعك. كانت سيماء السهاد والشرود طافية على صفحة وجهك. لم تكن حاضرا تماما في الإجتماع. لقد أحبوا فيك برودك الذي لم ينغص عليهم قرارهم. كنت نصف حاضر، إذ كان نصف اهتمامك الأكبر مع بطلة مسرحية حلمك التي اجتاحته صورتها حيثما وليت وجهك، وأيان التفت تجدها ترمقك بنظرات حانية، تزين ثغرها ابتسامة رضى واستكانة. عبثا حاولت التخلص من صورتها وإزاحة طيفها الذي ظل يسكنك رغما عنك، فاستأذنت في الانصراف من الإجتماع باكرا، وغادرت المجموعة على غير عادتك قبل موعدك، تقصد سيارتك رأسا إلى سلا المحروسة."بركاتك للا فاطنة بنت النعام" "أنت تقول لها آجي، وهي تقول لك نعام".
وتتفحص في وجوه المارة بلا جدوى. منذ العاشرة والنصف وأنت قرب مدخل الثانوية التي قالت إنها تدرس بها. أنفقت أكثر من ساعة ونصف الساعة على مثل حالك ذاك من الترقب والإنتظار بلا نتيجة. وكنت قد عمدت إلى ركن قصي إذ خجلت أن تفعل فعل المراهقين الذين يجدون سعادة لا توصف في الإنتظار. وكنت قد أوقفت سيارتك بعيدا حتى لا تفضح كذبة الليلة الماضية التي ظلت كغصة تشرق بها. كنت تعلم في سرك أن داء الشرود المزمن دواؤك، وكنت تدرك أيضا أنها فرصتك الوحيدة لتبسط لها كل الذي تحمل لها رغم أنك لم ترها إلا مرة واحدة. ولكن أليست المرة الواحدة كفيلة بإدخالك جنان الحب؟
وخاب ظنك مجددا إذ لم تظهر، كأنك كنت تنتظر طيفا من مواطني العدم والسراب. بهرتك صورته وسحرك صوته، وتنازلت عن خجلك إذ اقتربت أكثر من البوابة المخصصة للطلاب عند خروجهم دفعة واحدة كسيل منهمر.
أكنت لتتيه عنها وقد سكنك وجهها واستعمرتك ملامحها؟
ألا تعقلها وقد نزعت الكرى عن جفنيك الليلة الماضية بعد أن تمثلت لك في بطلة مسرحية أحلامك؟ كنت تراها مفتوح العينين ومطبقهما، في نومك كما في اليقظة. وقلبك في ذلك كله، ألا يستشعر وجود قلبها بقربه فيرسل موجات حارة يخبرك بأنها قريبة منك، ويمنحك دفئا، فيعلمك بمكانها وإن استترت عنك أو حاولت؟
كانت زيارتك الأولى لسلا المحروسة فشلا ذريعا، ترك أثره العميق في نفسك. بدون شك أو إمعان في التشاؤم، لم يكن اليوم يوم سعدك. رحت تراكم فيه الخيبات. شيء غير مبين ذاك الذي صرت تحمله لها بعد تلك اللحظة، وألقى بك في أغوار اليأس والحسرة، وضاقت بك السبل. أتراها كذبت عليك هي أيضا، لتتخلص من ملاحقتك لها؟
بين الحب والبغض حدود وهمية، لا تحتاج للخروج من هذا والدخول في ذاك إلى جواز عبور أو تأشيرة مرور. إحساس غير معروف يفصل بين العاطفتين. وكان ما أصابك في تلك اللحظة، مزيج من التميز والشوق. تمنيت لو أنك رأيتها إذن لأشبعتها كلاما جارحا. الكاذبة المخادعة، ضحكت عليك وما نبوت في حقها إلا أن أغرمت بها. لو صدق ورأيتها الآن ل... ضممتها إليك بقوة الملهوف وحرارة المشتاق، ولما تركتها قبل أن تعرف كل شيء عنها. أين تقطن؟ وهي سالبة قلبك بلا شك. أين تدرس؟ وهي معلمتك في مدرسة العشق. الهاتف. البريد العادي. البريد الإلكتروني. البريد الذي سيخترع مستقبلا. لن تدعها أبدا، قبل أن تتأكد من صدق كل شيء حولها. ولكن أين هي الآن؟
ولما استيأست من ظهورها، تقهقرت نحو سيارتك بخطواتك العصبية، خائبا منكسرا، وجلست داخلها والغبن إلى جوارك. شرعت تحك رتبتك وتدعك خاتم بنصرك حتى لتكاد تزيله من أصبعك، ثم طفقت تخاطب نفسك.
- ما الذي حدث لك حتى بدأت تتصرف كالمجانين تجري خلف صبية، لا تعلم إن كانت إنسية أم جنية؟ لا تعرف عنها غير الإسم "وعد". كأنها وعد عذاب، ووعد سراب بدا لك في صحراء حياتك عند اشتداد العطش؟
العطش؟ من قال إنك ظمآن لذة، و خيرة الفتيات يتسابقن لمجاورتك، أم أنها نزوة طيش عمياء لا تدري أين تقودك؟ وابتسمت بمرارة واستسلام وأنت تضيف حالما:
- ولكنها نزوة لذيذة مجنونة، تكاد تعصف بعقلي.
لحظتها بدأ شيء داخلك يهتز اهتزاز هاتفك في جيب سترتك.
- آلو من؟
- ......
- أهلا "آمال".
لقد كانت "آمال" إذن، تخطو خطواتها الأولى في أول أيام رهانها.
-........
- أنا أيضا أحتاج لمن أحدثه. إذا شئت...
-.......
- حسنا ستجدينني هناك في انتظارك.
مكالمة "آمال" أتت تعضد الذي كنت تقوله لنفسك. فالحسان يتقربن منك بكل ما أوتين من حيلة وقوة إغراء، وينتحلن الأعذار في سبيل الإلتقاء بك رغم صيتك الذائع من أنك لا تطيل عشرتهن، لذلك صدق حملك للقبك. بيد أنهن اخطأن كثيرا، و"آمال" من بينهن، فقد صرت الآن في خدمة الملكة مستعدا للتضحية بأي شيء في سبيلها.
هي ذي "آمال" لا تشذ عن قاعدة من عرفت قبلها. لقد كنت تشعر أنها تتقرب منك منذ مدة وتجاهد لأجل ذلك جهادا دائما. فلتكن هي من تنسيك وعدا كاذبا، اسمه الحب، وهي كفيلة بذلك، إذ أنها تملك قوام ذلك. جمالها الآسر وروحها الخفيفة وظلها اللطيف. كل الأسلحة صالحة في الحرب والحب. و"آمال" كانت مستعدة لاستخدامها جميعا لتمتلكك. لم تكن تحبك كما علمت متأخرا. كانت تود امتلاكك، أو امتلاك ما ستملك بعد أبيك.
أدرت محرك سيارتك، تداعب نفسك المضطربة آمال في "آمال". وداعا سلا!
كانت "آمال" منفاك الاختياري من وطن ساعة أنجبك أغرمت به، ونأيه عنك أجبرك على الرحيل وكأنك رددت ما قاله شاعرغاضب.
وإذا نبت بك بلاد فأرحل فكل بلاد الله أوطان.
شيء تبغضه دوما. ثقيل على قلبك، إسمه الإنتظار. لم تتعود عليه قط، وترى اليوم مشروعك محال عليه، ولقاء "وعد" انتظار وهم، وأنت جالس في بهو الهلتون تنتظر قدرا محتوما، "آمال" التي حركتك يد الأقدار إليها كدمية لا تملك من أمرها شيئا إذ تعسرت السبل وضاقت الجنبات. هي الآن تمارس عليك أقدم ألاعيب النساء وأفتك سلاح يمتلكنه، الغنج وهي أستاذة الفتنة الزائفة والدلال المفبرك. نصف ساعة تزجيها ثم تأتيك زغرودة أمعائك تبشرك بمولود تختار له إسما، الجوع. تتذكر أنك لم تأكل شيئا على غير عادتك منذ إفطارك الخفيف في الصباح الباكر.
الكل اسثثناء اليوم. صبيحتك كانت إستثناء. تعقد عزمك على المغادرة، تريد أن تفعل لولا أنك تبصرها، بدلالها الإستثنائي تلج في كامل بهرجها. متغندرة في ثوبها القاني القصير، وانسدال شعرها العاجي المموج على كتفيها كشال حريري. أحمر الشفاه الذي أصبغ ثغرها الشهي البهي شدك إليه شدا. ظمآن أنت لتينك العينين الخمريتين الصافيتين اللتين طفقت تغرف منهما وترتوي من لحظهما. كانت تلك "آمال" التي أغرقت شبابا لا حصر لهم في بحرها ولم تبق لهم ذكرا.
- آسفة إن تأخرت قليلا.
همست وهي ترميك بقبلة أودعتها سحر فتنتها امتزج بعطرها، المدوخ.
- كنت على وشك المغادرة يكاد يقتلني الجوع.
- أنا أيضا لما أتناول شيئا.
كان تصريحا منها لتدعوها، ما فعلت بسرعة.
- إذا أردت، فلنقصد مطعم الفندق.
وهزت رأسها إيجابا. صعب جدا أن تنتقل من عاطفة إلى أخرى، لكن من السهل جدا الإنتقال من إمرأة إلى أخرى. كنت متفكرا تقارن بين السراب والحقيقة، بين التمنع والإيباح، ذاك طيف تمكن منك ومن أحلامك، وهذا كائن ليلي مستعد ليستلقي على فراشك ب... وبدون دعوة.
- ألهذا الحد لا تروقك رفقتي؟
كلماتها اجثتك من غياهب الشرود، فأعلنت مداريا.
- لمَ تقولين ذلك؟
نظراتها الجريئة تشعرها تغوص عميقا في نفسك تود إقتلاعك إلى الأبد.
- لأنك تبدو متضايقا، محرجا، مترددا، لا أعلم. تفكر في أمر ذي بال، في عزيز.
أفرجت شفتاك عن ابتسامة متشنجة باهتة، ولم تحر جوابا. كنت كذلك فعلا، ولو أنك برفقة أجمل الكائنات الليلية التي عرفتها، لم تستطع بسحرها أن تجتذبك إليها، ولم يقو عطرها النفيس الغزير أن ينسيك عطرأنفاس "وعد"، الذي مازال يحتل خياشيمك. "وعد"، نعم ابنة سلا المحروسة عملت عملها فيك." بركاتك سيدي بوحاجة". تبرز عيناك فجأة، كانهما وقعتا على طيف عفريت أمامك. ترمي معصمك بنظرة بلهاء عاجلة، فإذا هي الثانية إلا ثلث. تنتفض من مكانك، بلا كلمة، ولا إذن كالمسحور. تنصرف مهرولا، وتذر "آمال" هناك مشدوهة كأنك صفعتها على حين غفلة منها، أو صببت عليها دلو ماء بارد فحاولت أن تناديك بعدما استفاقت.
- قاس...
لكنك ابتعدت عنها كفاية، لتبتلع ميم إسمك، وتبقيه أسيرا بداخلها، ويظل قاس، مفرجا عنه إلى حين. ندت عنها حركة عصبية، إذ ضربت يدها في الهواء حانقة ساخطة. صوت بداخلك كان قد همس لك باسمها، ودعاك إلى تصرفك ذاك، إذ فكرت بسرعة أنه قد لا تكون لديها حصة صباحية، وأنك ظلمتها. بدا لك وجهها الفردوسي، خال من الكذب والخداع، فلبيت النداء على عجل تستحث سيارتك اللاهثة تخترق جسر ما بين العدوتين مع أنها ساعة الذروة، إلا أنها أشد وأقوى من الجهة الأخرى، إذ أن السلاويين يعودون إلى أعمالهم يزحفون زحفا في زحام خانق، وصومعة حسان ترقب وجهها في أبي رقراق كحسناء تتجمل أمام مرآتها. وتصل إلى "صلاح الدين الأيوبي" فاتحا كما كان، في وقت قياسي. لم تنسك عجلتك ولهفتك الحذر، إذ أوقفت سيارتك بعيدا، بيد أنك تخليت عن خجلك الصباحي الأول، فإذا أنت واقف أمام مدخل الطلاب ترقب حضورها. وتتطلع في الوجوه بشغف، وإذا نبضات قلبك تتواتر مسرعة، إذ أبصرتها تتقدم رفقة شاب يصحبها فتندفع نحوها دون مقدمات لتلمح البغتة على وجهها والإضطراب. مددت يدك تصافحها متجاهلا من معها:
- "وعد".
عددت الزمن توقف لحظات، ويدك في الفراغ تنتظر إشارة منها أو حركة، قبل أن تفعل لتعاود الدنيا حركتها المسرعة جدا. قالت بارتباك جلي وخفوت ظاهر.
- أهلا.
- كنت أريد محادثتك.
بدا أنها بدأت تتغلب على بعض ارتباك دهشتها الاولى.
- لدي حصة الآن كما ترى.
قلت بلهفة.
- أنتظرك هنا حتى تفرغي منها.
كنت مستعدا أن تنتظرها عمرا آخر لو دعيت لذلك. انتبهت إلى طيف ابتسامة في عينيها وهي تقول مغادرة.
- الرابعة. إذن.
وانتبهت أكثر أنها ترافق شابا جعل يرقبكما بعين مرتابة وهو ينتظرها لدى الباب. وجهه مألوف لديك، لكنك أضعته في قمة الإنتشاء، وزحام وجوه معارفك. وسيطر وجه "وعد" التي أزاحت الجميع واستفردت بحكم مملكتك.
(يتبع)