فصل -9 -

17 0 00

اليوم الاحتفال بعيد الإله تحوت رمز الحكمة والقلم، المدينة مزينة بالأعلام والرايات، وأصوات الأناشيد والتراتيل تعلو في المعابد، وانتشرت فرق الموسيقى والأغاني في الشوارع والميادين، الشعب كله يرتدي ملابس الأعياد، ويحمل باقات اللوتس، احتفالا بالمعبود تحوت مخترع الكتابة والمسيطر على الحروف، والمشرف على تقسيم الزمن، وحامي الكتبة وقلب رع.

خرجت ايزادورا مع مربيتها نفرت لمشاهدة هذا المهرجان السنوي الديني كانت شغوفة لرؤية الألعاب السحرية التي يجريها السحرة ويتسابقون فيما بينهم لانتزاع الإعجاب والتصفيق من الجمهور المحتشد في الأجورا، التي تعد سوقا رئيسيا صممت على الطريقة الإغريقية، فكان المصريون يعرفونها بالسوق اليونانية، بينما اليونانيون والرومان يسمونها الأجورا.

وقفت ايزا دورا تشاهد ما يجري، ووقف إلى جوارها الضابط حابي بتكليف من والدها دون أن تدري، بينما وقفت نفرت على الجانب الأخر وأمسكت بيد ايزادورا حتى لا تتوه في الزحام، بدت ايزادورا في نظر حابي وكأنها حورية جاءت من الجنة أو ملاك هبط من السماء، كلما التقت عيناه بعينيها دق قلبه بقوة وازداد انجذابا إليها، رأى فيها مثالا فريدا من الجمال والنبل والبراءة، وكان حابي شاعرا رقيق الشعور جياش العاطفة، فأصبحت ايزادورا مصدر إلهامه.

انتبهت الفتاة إلى أن هذا الضابط الواقف إلى جوارها يتابعها باهتمام في كل تحركاتها ولاحظت متابعته لها بعد ذلك كلما خرجت من القصر دون جميع ضباط الحراسة الذين تعرفهم، أخبرت مربيتها نفرت التي صرحت لها بأنه ضابط جديد مكلف بحراستها من قبل والدها،

كلما تمر الأيام يزداد إعجاب حابي بايزادورا وتعلقه بها فراح يصوغ فيها أشعاره التي تفيض حبا وشوقا وهياما بهذه المخلوقة الرقيقة الوديعة التي يراها ألطف الكائنات وأجملها، وأصبح وجوده إلى جوارها قمة السعادة وغاية المنى.  

فطنت ايزادورا إلى اهتمام حابي بها، وكم يطيل النظر إليها كأنه لا يرى غيرها، ونظراته تحمل كل معاني الحب والإعجاب، وتدل قسماته على طيبته ونبله فتعلق قلبها الغض بهذا الشاب الذي بدا في عينيها فارسا نبيلا  اجتمعت فيه الرجولة والشهامة والعفة والوسامة، إضافة إلى عذوبة حديثه

اعتادت نفرت أن تنسحب بعيدا كي تتيح لهما بعض الوقت للخلوة كلما سنحت الفرصة للقائهما وتكتفي بمراقبتهما من بعيد، بعد أن لاحظت التقارب بينها في الطباع والمشاعر، فهي محبة لايزادورا منذ ولدت وكلفت بتربيتها ورعايتها ثقة فيها لإخلاصها وأمانتها وحسن تصرفها، كما أنها ترى في حابي شاب حنون ومحب صادق وشاعر رقيق.

أما حابي فقد تغيرت حياته منذ أن وقعت عيناه على ايزادورا أول مرة في السوق اليونانية فاحتلت وجدانه وامتلكت مشاعره، ثم تعددت اللقاءات وباح لها بمكنون فؤاده، وعرف أنها تبادله حبا بحب.

اشتعلت الأشواق بين الحبيبين وأصبح كل أملهما في السعادة هو اللقاء عند شاطئ النهر الذي يشعر حابي أنه يرتبط به ارتباطا روحيا لانتسابه الاسمي إليه، إضافة لمنزلة النهر ومكانته في نفوس المصريين جميعا.

اقترح حابي على ايزادورا أن يستقلا قاربا صغيرا ويبحران وحدها في النيل بعيدا عن صخب الحياة وضجيجها.         

سعدت ايزادورا بهذا الاقتراح ورحبت به، وطلبت من مربيتها نفرت أن تنتظرها على الشاطئ حتى تعود من نزهتها برفقة حابي، رفضت نفرت في البداية خوفا عليها وأفهمتها أن هذا يعرضها للعقاب من الحاكم إذا حدث ما لا تحمد عقباه، أو علم بمخالفتها لتعليماته، التي تخالفها سرا حبا وإرضاء لها ولكن في الحدود البعيدة عن الخطر.

أصرت ايزادورا على ركوب القارب مع حابي، وعندها أذعنت نفرت ووافقت على مضض وبقيت على الشاطئ تنتظر عودة الحبيبان.  

ظل حابي يحرك المجداف ويدفع القارب بمهارة أبهرت ايزادورا إلى أن وصلا إلى جزيرة في وسط النهر وتوقفا عندها، وهبطا على أرضها، وفوق العشب وتحت ظلال الأشجار الملتفة وبين الأزهار والرياحين جلس الحبيبان، وبدأ حابي يبثها أشواقه الملتهبة المتدفقة كالجدول الرقراق الذي يفيض حبا وحنانا، تشابكت الأيدي وتلاقت العيون وعزفت القلوب لحن الغزل والمشاعر الجياشة، فيهمس حابي بصوت يملؤه الوجد:

( أيها الفريدة، أنت يا زهرة يانعة ْ

طلعت في باكورة سنة سعيدةْ

ضياؤها فائق، وجلدها وضاء

جميلة العينين عندما تصوبهما.

حلوة الشفتين عندما تنطق بهما.

شعرها أشقر لامع، وأصابعها كأنها زهرة البشنين

ذراعاها تفوقان الذهب طلاوة

ساقاها تنمان عن جمالها، تجعل أعناق كل الرجال

تنثني عنها لانبهارهم عند رؤيتها ) 

ظلت ايزادورا في حالة من الصمت الحالم وهي تصغي إلى حابي بصوته الهامس المتقطع من شدة الوجد والوله والهيام بها، ثم أحاطها بذراعيه وضمها إيى صدره وقبل جبينها وثغرها.

انتزعت ايزادورا نفسها من حضن حبيبها وهبت واقفة تريد العودة، فطوق خصرها بذراعه وسارا سويا إلى مرسى القارب على طرف الجزيرة وامسك حابي بيدها فخطت داخل القارب وجلست على حافته، حاولت أن تمد يدها وتعبث بالماء، لكن حابي منعها خوفا من سقوطها في النهر، وهنا طلبت ايزادورا من حابي أن يدربها على استخدام المجداف وتحريك القارب بمفردها، فوعدها بذلك في المرات القادمة.    

على الشاطئ كانت نفرت واقفة تنتظر وقد سيطر عليها الخوف والقلق 

وهي تتساءل ماذا أفعل لو أصاب ايزادورا سوء؟ سوف يعاقبني الحاكم أبشع عقاب ويقتلني شر قتلة، وراحت تلوم نفسها بشدة و تردد كمن يهذي: 

لقد أخطأت بموافقتي على إبحارها مع حابي، كان ينبغي أن أكون حازمة في رفضي صلبة، في قراري وهذا لن يغضب الحاكم بل يسعده ويبعدني عن المساءلة، والأهم من ذلك يبعد ايزادورا عن المخاطر،

عندما وصل العاشقان إلى الشاطئ وجدا نفرت على هذه الحالة من الفزع، نظرت إليهما بعتاب ثم أقسمت بايزيس إنها لن تسمح بذلك مرة أخرى، نظر الحبيبان إلى بعضهما وضحكا، ثم انصرف كل منهم في طريقه.