الحياة لا تصفو دائما للمحبين، ولا تخلو من الحاسدين الحاقدين، فها هي الجارية الإغريقية رودجين التي تحقد على نفرت وتبغضها لثقة الحاكم كريتياس وزوجه بلوتينا بها حتى أنهما عهدا إليها بتربية ابنتهما الوحيدة، لكن رودجين ترى إنها أحق من نفرت بهذه الثقة لأنها إغريقية مثلهما وليست فلاحة مصرية مثل نفرت، ولكم حاولت الإيقاع بين نفرت وسادة القصر، غير أن محاولاتها جميعا باءت بالفشل، لذا قررت أن تتحين الفرص للانتقام من نفرت وظلت تتجسس عليها وتتابع تحركاتها خلسة، حتى عرفت وتأكدت بتسترها على لقاءات حابي وايزادورا بل تسهيل ومباركة هذه اللقاءات، فكادت تطير فرحا بهذه الأخبار التي جاء بها أحد جواسيسها، الآن أصبحت الفرصة مواتية، ولديها المعلومات المؤكدة لتنتقم من غريمتها نفرت وتزيحها من طريقها إلى الأبد.
انتظرت رودجين حتى خلا مجلس الحاكم من الزوار، واستأذنت في الدخول لأمر هام وعاجل وخطير يتعلق بسيدتها ايزادورا، وقصت عليه ما علمت به وما شاهدته بنفسها من تشجيع نفرت لحابي على الانفراد بابنته وقيام علاقة حب بينهما، وأضافت قائلة: إن سيدتي ايزادورا طيبة وبريئة وما زالت صغيرة، ولكن اللوم كله يقع على نفرت الخبيثة هذه الفلاحة التي لا تصلح لتربية أبناء الحكام والسادة وعلى هذا الشاب الذي خان الأمانة ولم يكن أهلا للثقة التي أوليته إياها.
ثار كريتياس في وجه رودجين وأنكر عليها ما تقول وذكرها بافتراءاتها السابقة ضد نفرت واتهاماتها لها بغير دليل لمجرد الكيد لها، حقدا وكرها وحسدا منها، لأن نفرت تتميز عليها وتفضلها في كل شييء، ثم نظر إليها وصاح فيها: أنسيت يوم اتهامك لها بالسرقة ثم وجدنا المسروقات في حجرتك ! ويوم ادعيت عليها إفشاء أسرار سيدتها أمام الحرس ثم كذبوك جميعا ! واليوم تأتين بكذبة جديدة !!
لكن رودجين أكدت أنها تملك الدليل هذه المرة، وأخبرت سيدها أن بإمكانه
التحقق بنفسه مما تقول وحينئذ سوف يتأكد من صدقها، وحرصها على
سيدتها ايزادورا من الوقوع في شرك هذا الضابط الفلاح الطامع في التقرب من القصر حتى يحقق مأربه في الحصول على المناصب العليا والمزايا الأخرى، مع أنه من عامة الشعب ولا يليق بابنة الحاكم ذات الأصول الإغريقية العريقة.
كظم كريتياس غيظه وغضبه، ونظر إلى الجارية بحدة وتوعدها قائلا: سوف أرجئ حسابك حتى أتحقق مما تقولين بنفسي، فإن ثبت كذبك كالمعتاد سيكون عقابك عسيرا، وإن كان ما تقولين صدقا فسوف يكون لي شأن آخر مع نفرت وحابي، والآن اغربي عن وجهي أيتها اللعينة.
خرجت رودجين وهي تبتسم، وتحدث نفسها، لن تفلت نفرت من العقاب هذه المرة، سوف يتأكد الحاكم مما أقول، وسيعرف أنني صادقة وأن نفرت ليست أهلا للأمانة 0
جلس كريتياس حائرا يفكر، هل يعقل ما تقوله رودجين ! لا لا إنها جارية حاقدة لن أنسى مؤامراتها التي ما فتئت تحيكها ضد نفرت بالذات، فمرة تدعي أنها جاسوسة على القصر وأنها تنقل أخبار سادتها إلى خصومهم، ومرة تزعم أنها حينما تصحب ايزادورا في نزهة تتركها تختلط بالعوام والسوقة ومرة تتهمها بالتقصير في مسئولياتها داخل القصر ثم يثبت أن ادعاءاتها كاذبة وأن شكاواها كيدية ولا أساس لها من الصحة.
و في كل مرة أوشك أن أفتك بها وأريح القصر من شرها لولا تدخل زوجتي بلوتينا طلبا للصفح عنها حفظا لجميل أمها التي كانت مربية بلوتينا وأخلصت في خدمتها، وقد أوصتها عند موتها برعاية ابنتها رودجين من بعدها، فليس لها أحد غيرها، فأعفو عنها مضطرا نزولا على رغبة زوجتي، ولكن لن أتسامح معها هذه المرة.
وقف كريتياس ودار حول مكتبه، وقد بدا الشك يتسرب إلى نفسه، ماذا لو كانت رودجين صادقة هذه المرة، إنها تتحدث بثقة لم أعهدها تتحدث بها
من قبل، آآه.. من هذه الماكرة اللعينة، التي لا تكف عن تدبير المكائد وتصيد الأخطاء للآخرين.
قرر أن يقطع الشك باليقين، ويقف على الحقيقة بعيدا عن تلك الجارية الخبيثة الحاقدة.
أرسل في طلب واحدا من أخلص حراسه، وحينما حضر أمره قائلا: اسمع يا زينون أريد أن أكلفك بمهمة غاية في السرية، وعليك أن تخبرني بما تسمع وترى بكل أمانة وصدق، لا تخفي عني شيئا مهما يكن صغيرا أو كبيرا.
ـ مرني بما تشاء سيدي، ما المهمة التي تريد أن تكلفني بها ؟
ـ عليك بمراقبة ابنتي ايزادورا ومربيتها نفرت، في كل مكان خارج القصر، بحيث تكون متنكرا، لا تدع أحدا يراك أو يتعرف عليك، وعد سريعا وابلغني بما عرفت، وإياك أن تنسى شيئا.
ـ أمرك سيدي الحاكم، هذه مهمة سهلة، لا تشغل بالك، سوف أكون عند حسن ظنك، وسأعود إليك بالنبأ اليقين.
تتبع زينون خطوات نفرت وايزادورا وشاهدهما يتجهان نحو شاطئ النهر
فخرج متنكرا في زي صياد، ووقف عند الشاطئ وأمامه قارب صغير، وراح يتتبع خطوات نفرت وحابي وايزادورا ويسمع أحاديثهم، ثم شاهد انفراد حابي بايزادورا بعيدا عن نفرت، وكيف ظل حابي ينشدها أشعاره ويبثها غرامه.
عاد زينون في نهاية اليوم ليخبر الحاكم بكل ما سمعه و شاهده بكل دقة.
جن جنون كريتياس، وأصدر أوامره بعدم خروج ايزادورا من القصر وسجن نفرت، واستدعاء الضابط حابي للتحقيق معه.
ما أن وصل أمر الاستدعاء إلى حابي حتى أدرك أن الأمر جد خطير وأنه بعد الآن لن يستطيع أن يلتقي حبيبته، بل ربما يأمر الحاكم بإعدامه أو التخلص منه بطريقة ما، لذا شعر أن الوقت قد حان ليبادر بطلب الزواج من ايزادورا، وقرر الذهاب إلى الحاكم بصحبة بعض الوجهاء الذين لهم قدرا مرعيا عند الحاكم، هذا الطلب الذي تأجل كثيرا لعل الظروف تكون أفضل، بعد أن وعدته ايزادورا بتهيئة الظروف لإقناع أبيها بفكرة زواجها بمساعدة أمها ومربيتها، الآن لم يعد هناك وقت للتأجيل، ولم يعد هناك أمل في تحسن الظروف، والأهم من ذلك أنه لم يعد يطيق البعاد عن حبيبته.
ثلاث سنوات من الحب والسعادة، مرت كأنها سويعات قليلة، وبعدها خيم الحزن والحرمان على الحبيبين، وباعدت بينهما الأيام.
ذهب حابي إلى قصر الحاكم بصحبة بعض وجهاء وأعيان المدينة، الذين رافقوه مجاملة له وتعاطفا معه، رغم ثقتهم في رفض الحاكم لعدم التكافؤ.
بمجرد أن عرضوا على كريتياس طلب حابي للزواج من ابنته حتى ثار وفار وهب واقفا مستنكرا عليهم مجرد التفكير في هذا الأمر، واتهم حابي بخيانة الأمانة وأنه لم يكن أهلا للثقة التي أولاها له، ثم لوح بيده مشيرا إلى حابي في سخرية وتابع حديثه: لقد نسى هذا الضابط نفسه، كيف يصور له طموحه أن ابنة حاكم الإقليم ذات الأصول الإغريقية والتي تنتمي إلى أسرة بطلمية عريقة أن ترتبط بواحد من أبناء الفلاحين البسطاء، إنه لا يعدو أن يكون حارسا لها وحسبه هذا شرفا.
ثم التفت إلى حابي وصاح فيه بلهجة تحذيرية: منذ الآن انتهت خدمتك في حرسي وسوف تنقل للعمل في مكان آخر بعيدا عن المدينة، وإياك من محاولة الاتصال بابنتي أو الاقتراب منها، وإلاّ ستدفع حياتك ثمنا لتهورك.
صمت قليلا ثم اتجه إلى الحاضرين وأضاف قائلا: لولا أنني أحفظ له الجميل في القضاء على الفتنة والتمرد فيما مضى لقتلته جزاء جرأته في التطلع إلى المستحيل، وطمعه في أن يأخذ أكثر من حقه، ويصل إلى أكثر مما وصل إليه.
حاول الوجهاء تهدئته والدفاع عن حابي وتزكيته والحديث عن مآثره، لكنه رفض مجرد الاستماع إليهم، معتذرا لهم عن عدم قبول وساطتهم رغم تقديره لهم، لكن حابي وقف وتحدث منفعلا موجها حديثه لكريتياس قائلا:
إنني لست أقل شأنا من ابنتك، وإن كنت ضابطا صغيرا من أسرة بسيطة إلاّ أنني أنتمي إلي الفراعنة العظام، ملوك الدنيا وصانعي الحضارة الذين دانت لهم الأمم والممالك، إنني ابن مصر العظيمة، التي علمت العالم الحكمة والعلوم والمعارف وتتلمذ فلاسفة اليونان أجدادك الذين تفخر بهم الآن على يديّ كهنتها حكمائها، ولولا حبي لايزادورا ومكانتها في نفسي ما انتظرت لأسمع هذه الإهانة، ثم انطلق خارجا وخلفه الجميع الحضور وهم يأسفون لما حدث.