لم يكن رئيس الشرطة يملك الحكمة وحسن التصرف مثل حابي، فأساء إلى أبناء الشعب، وكان فظا غليظ القلب فانفضوا من حوله، إذ تمادى في التنكيل بالشعب لأتفه الأسباب، وتعنت في جباية الأموال المفروضة عليهم من قبل الدولة، ومن يتعثر في السداد يساق إلى السجن ومن يعترض أو ينتقد يتعرض للعقاب، مما أشعر الناس بالظلم ودفعهم إلى الثورة من جديد واشتعلت الاضطرابات في الإقليم مثلما كانت قبل مجيء حابي، وعمت الفوضى مدينة انطونيوبولس والإقليم كله.
سيطر الهم والقلق على كريتياس وأصبح مهددا داخل قصره، ولم تفلح محاولات التهدئة التي قام بها البعض، وأصبح استخدام القوة والبطش هو سيد الموقف ونتج عن ذلك وقوع عدة اغتيالات لكبار رجال الحاكم، بسبب ظلمهم وقسوتهم مما دفع الناس إلى الانتقام منهم،
هنا تذكر كريتياس حابي ودوره في تهدئة الثائرين، وكيف استطاع أن يعيد الأمن للإقليم دون إراقة قطرة دم واحدة، وأعطى الحقوق لأصحابها، وحفظ هيبة الحاكم، مما جعل الشعب يحييه ويهتف باسمه، وهذا ما عجز عن تحقيقه كل رؤساء الشرطة والضباط الذين كانوا قبل حابي والذين جاءوا بعده.
شعر المستشار برديكاس بحاجة الحاكم إلى حابي وربما ندمه على نقله من خدمته، لذا انتهز الفرصة لمحاولة إقناعه بعودة حابي والعفو عنه إنقاذا للموقف المتأزم، وأثنى على خلقه وإخلاصه في عمله وحكمته في التعامل مع المتمردين، ثم أضاف ما المانع في قبوله زوجا لايزادورا، انه محبوب من الشعب وأرى أنه قادر على وأد الفتنة وإنقاذ البلاد من التخريب، وعودة الأمن والاستقرار للإقليم وخاصة مدينة انطونيوبولس عاصمة الإقليم ومقر الحاكم وقصره المنيف على شاطئ النيل.
صمت كريتباس وأصغى جيدا لحديث مستشاره برديكاس ثم وعده بالتفكير الجدي في الأمر.
كذلك لم تتوقف محاولات بلوتينا في الدفاع عن حابي، وواجهت زوجها بشجاعة و بصراحة قائلة: إن حب حابي لايزادورا ليس جريمة ولا خطأ، ولابد من مراعاة مشاعر ابنتنا الوحيدة التي تعلق قلبها بهذا الشاب الطيب المخلص الذي لا يقل كفاءة عن أمهر ضباطك، وظلت تتوسل إليه أن يرحم قلب الفتاة الذي كاد ينفطر حزنا وألما على فراق من أحبته، وأنهت حديثها بأن دعته أن يفكر في سعادة ابنته بدلا من أن يجلب عليها التعاسة والعناء، فسعادة ايزادورا أهم كثيرا من التفكير في المال والسلطة والمستوى الطبقي
غير أن كريتياس كان عنيدا مستبدا برأيه، فلم يستجب لنصيحة مستشاره أو استعطاف زوجته، وأعلن أنه لن يسمح لحابي بالعودة للعمل في المدينة ثانية، ولن يقبل بزواجه من ابنته، ولن يسمح لايزادورا أن تلتقى به.
بعد هذه اللاءات الثلاثة التي أعلنها صريحة، أمر بتشديد الرقابة على ابنته، وتكثيف الحراسة على مداخل القصر ومخارجه، وحرمت ايزادورا من النزول إلى حديقة القصر إلاّ بعد استئذان الحاكم وهو غالبا ما يرفض أو يقبل على مضض بعد توسلات بلوتينا وبكاء ايزادورا، فقد كان يخشى أن تجد ايزادورا وسيلة ما لمقابلة حابي إن هي خرجت من القصر.
انهمك الحاكم في اجتماعات متواصلة بعد أن زادت حدة الاضطرابات وأضرب الموظفون عن العمل تضامنا مع العمال والفلاحين بعد ما رأوا ما يتعرضون له من قسوة رجال السلطة وما يقع عليهم من ظلم فادح، وكلما زاد العنف زادت المقاومة، وباتت الأجورا - مركز التجمع - تغص بالآلاف من الثائرين والرافضين ويزداد العدد بها يوما بعد يوم للتعبير عن مطالبهم والهتاف ضد الحاكم، بعد أن كانت مركز الاحتفال بعيد الإله تحوت والمناسبات الشعبية والرسمية، وبعد أن كانت تزخر بالموسيقى والغناء والألعاب السحرية التي يسعد برؤيتها أبناء الشعب إلى جانب أهميتها كمركز للبيع والشراء، فإذا بها صارت مركزا للثورة ضد الحاكم وأعوانه الذين أصبحوا بنظر الثوار أعداء الشعب وناهبي ثرواته وظالمي أبنائه،
فكانت الاحتجاجات تهدأ قليلا ثم تثور من جديد، دون أن يلوح في الأفق أي بوادر لحل الأزمة.
كان أكثر ما يخشاه كريتياس أن يعرف الوالي بعجزه عن مواجهة الموقف فيعزله من منصب حاكم الإقليم، بعد تكرار الاضطرابات والمظاهرات لذا رفض نصيحة صاحب الشرطة بشأن طلب المساعدة من الوالي كما فعل من قبل قائلا: لقد استعنا بجند الوالي أكثر من مرة حتى أصبح موقفي حرجا يوحي بضعف قدرتي على السيطرة وهذا يسيء لمكانتي وموقعي كحاكم للإقليم.
وهذا ما جعل كريتياس يفقد أعصابه في كثير من الأحيان وانعكس ذلك على المحيطين به،