بات الجنرال كريتياس حاكم الإقليم ساهرا ساهدا لمدة ليلتين متتابعتين في انتظار أن يأتي الفرج، وما أن طلع نهار اليوم الثالث حتى انطلقت أصوات صفارات الإنذار، وجلبة الخيل وحركة العربات الحربية، فعرف أن المدد العسكري قد وصل، هب واقفا وهو يردد لا بد أن أشكر الوالي على سرعة استجابته لطلبنا.
على الفورأمر باستدعاء قائد الجيش القادم من طرف الوالي للترحيب به والتباحث معه حول كيفية القضاء على التمرد ووضع الخطة اللازمة لذلك.
دخل الضابط الشاب بملابسه العسكرية رشيق القوام، أسمر اللون، وسيم القسمات، يبتسم في هدوء وثقة لم يعهدهما الحاكم في وجوه ضباطه خاصة وقت الأزمات.
بادر الضابط بالتحية العسكرية فور دخوله، أشار له الحاكم بالجلوس. كانت ملامحه تدل على أنه مصري، تأمل كريتياس في وجهه قليلا ثم سأله ما اسمك ؟
أجاب الضابط في هدوء اسمي حابي، صمت الحاكم لحظات يفكر وتذكر أن هذا الاسم لقب لنهر النيل الذي يقدسه المصريون لأنه واهب الخصب والنماء ولأنه مصدر حياتهم.
بذكائه اللماح أدرك الضابط ما يدور في عقل الحاكم عندما سمع اسمه، فأضاف قائلا:
لقد ولدت في موسم الفيضان على الشاطئ الغربي للنهر حيث توجد بلدتي خمنو ومنازل عائلتي لذا أسموني حابي تيمنا بهذا النهر المبارك،
ـ حسنا هل تعرف المهمة التي أتيت من أجلها ؟
ـ نعم سيدي علمت أن بالإقليم حركة تمرد واسعة.
ـ إذن المطلوب منك ردع هؤلاء المتمردين الذين أقلقوا راحتي وعطلوا حياة الناس، عليك أن تعيد الأمن للمدينة، هذا هو الدور المنوط بك القيام به، ونرجو أن تتمكن من تحقيقه بالتعاون مع صاحب الشرطة.
في هدوء وثقة يرد حابي قائلا:
ـ سيدي اترك لي هذه المهمة وحدي فأنا أقدر على التعامل مع الثائرين بطريقتي فهم أهل بلدي وأعرف كيف أتعامل معهم، ليس بالقوة وحدها تحل المشاكل، توجد طرق أخرى أكثر جدوى وأعظم نفعا من العنف والقتال فلماذا لا نجربها حقنا للدماء وحرصا على سلامة المجتمع ؟
ـ سوف أفوض لك الأمر في حرية التصرف وفق ما ترى، المهم أن تنهي هذه الأزمة بما يعيد الأمن والهدوء والاستقرار إلى الإقليم، وأتمنى أن تنجح في ذلك، هيا أنجز مهمتك.
انطلق حابي وخلفه الفرقة العسكرية التي أرسلها الوالي وعهد إليه بقيادتها. وحينما وصلوا إلى الأجورا مركز التجمع، طلب من الفرقة الوقوف بعيدا انتظارا لأوامره، وتقدم منفردا وتحدث برفق مع الثائرين قائلا: إخوتي وأبناء شعبي أنا واحد منكم، أنا مصري مثلكم، إن عائلي تقيم هناك على الشاطئ الغربي للنهر، حيث ولدت ونشأت وأنتم جميعا أهلي، أخبروني ماذا تريدون ؟ حدثوني عن معاناتكم، وسوف أتولى عنكم توصيل مطالبكم للحاكم وأولي الأمر والمطالبة بحقوقكم وحل مشكلاتكم، ثقوا بي ولنتعاون معا من أجل دفع الضرر عن شعبنا العظيم، وأمن بلادنا وسعادة أهلنا.
نظر الثوار إلى بعضهم والدهشة تكاد تعقد ألسنتهم، فهم لم يعتادوا هذا الخطاب وهذه النبرة من رجال السلطة من قبل،
هدأت الأصوات الثائرة وتقدم زعماء المتظاهرين إلى الضابط حابي وأوجزوا له مطالب العمال والفلاحين وهي:ـ
أولا - كف أيد أتباع الحاكم عن ظلمهم والاعتداء عليهم لأتفه الأسباب.
ثانيا - زيادة أجور العاملين في مؤسسات الدولة.
ثالثا - تخفيض الضرائب التي يجبيها رجال الحكام من الشعب والتي تفوق طاقة الكثيرين وتثقل كاهلهم .
رابعا - إصلاح الطرق والخدمات العامة، ومساعدة الفلاحين في تسويق محاصيلهم.
خامسا - تعيين ممثلين عنهم، من بينهم في المجالس والمؤسسات، يعبرون عن مطالبهم، ويكونون حلقة وصل بينهم وبين الحاكم.
استمع حابي جيدا ووعدهم أنه سوف يقدم مطالبهم لحاكم الإقليم ويتدارسها مع المسئولين لإقناعهم بعدالتها، وفي حال عدم الاستجابة سيصعدها للوالي ويتولى الدفاع عنها بنفسه ومتابعة تنفيذها مقابل أن يعودوا إلى ديارهم ومزارعهم حفاظا على أرواحهم وحتى لا يتعطل العمل ويتكدر الأمن، وكرر عليهم ما قاله ثم دعاهم إلى الانصراف حتى تستقر الأحوال ويعود الهدوء، وافق الثائرون بشرط أن ينتظروا ليروا نتيجة لقائه وتباحثه مع الحاكم بشأن مطالبهم.
حينما عاد حابي إلى حاكم الإقليم عرض عليه مطالب الثوار وشروطهم لإنهاء اعتصامهم، و أخبره أن الحل في استقرار البلد وعودة الأمور إلى سيرتها الأولى يكمن في إجابة مطالب الثوار ما دامت عادلة ومقنعة فمن حقهم الحصول عليها، بل من واجب الحاكم رعاية شعبه وتوفير الحياة الكريمة له، ورفع الظلم عن المظلومين - وتحقيق العدالة بين الرعية، كما يجب على الحكومة التكفل برعاية الفقراء والمحتاجين وتلبية حاجاتهم وخاصة الضروري منها.
استمر الحوار و الجدل بين حاكم الإقليم والضابط حابي حتى استطاع الأخير أن ينتزع الموافقة من الحاكم على معظم المطالب مؤكدا أن ذلك كفيل بتجنب البلاد الدخول في معارك بين الشعب والسلطة.
تردد كريتياس قليلا، لم يكن مقتنعا بجدوى أسلوب الحوار والخضوع لإرادة الشعب، فذكره حابي أنه وعده بأن يترك له حرية التصرف في هذا الأمر، وأوضح له أنه إذا قوبلت المظاهرات بالعنف وقضي عليها اليوم فسوف تثور من جديد بعد حين، والحل الأمثل هو نزول الحاكم على إرادة شعبه فينال رضاه ويتجنب الكثير من المشاكل والمتاعب التي تنجم عن العناد واستعمال العنف.
عاد حابي إلى الثوار وأخبرهم أن الحاكم قبل مطالبهم، وسوف يبدأ من الغد في تنفيذ ما وعد به، وطلب من الجميع أن ينصرفوا إلى شئونهم، وهو ضامن ومتعهد بإتمام الأمر ومسئول أمامهم.
هتف الجميع بحياة حابي وانصرفوا واستقر الأمن، ومكث حابي في مدينة انطونيوبولس حتى تتم إجابة مطالب الشعب التي وعده الحاكم بتحقيقها.
أعجب كريتياس بحابي وحسن تصرفه، وكيف استطاع هذا الضابط الشاب في ساعات قليلة أن يحل الأزمة ويقضي على الفتنة التي أقلقت راحته وكادت تعصف بالأمن وتطيح بحكومته، لقد انتهت الأزمة دون خسائر بين الشعب الثائر والسلطة، بل على العكس تحسنت العلاقة وزادت الثقة بين الحاكم ورعاياه حتى أنهم هتفوا باسمه شاكرين له تحقيق مطالبهم،
لذا عرض الحاكم على حابي أن ينضم إلى حرسه الخاص وسوف يستأذن الوالي كي يسمح بنقله من العمل في حاشية الوالي إلى العمل في معيته ووعده بكثير من المزايا مقابل العمل في خدمته كضابط حراسة.
رحب حابي بهذا العرض، فقد كان يريد أن يبقي بالقرب من بلدته وبين أهله وها قد جاءته الفرصة فاقتنصها ورحب بها ووافق على الفور.
أرسل الحاكم رسولا إلى الوالي في الإسكندرية ومعه رسالة بدأها بشكر الوالي على استجابته لطلب المساعدة، وفحواها طلب الموافقة على نقل الضابط حابي للعمل في معية حاكم إقليم منعت، وبعد أيام عاد الرسول
بالموافقة وأصبح حابي منذ ذلك الوقت ضابطا في حرس كريتياس.
كلما تمر الأيام يزداد إعجاب الحاكم بحابي فقد رأى فيه الكفاءة وسرعة الإنجاز والثقة بالنفس دون غرور أو تعالي في معاملة الآخرين، لذا عهد إليه بحراسة أبنته وخاطبه قائلا: اسمع يا حابي إن ايزادورا عندي أغلى من نفسي، لقد أنجبتها بعد سنوات طويلة من الزواج، وبعد أن مللت الانتظار وفقدت الأمل، ولولا قدرة الربة العظيمة ايزيس ما أنجبتها، ولولا ثقتي في أمانتك وإخلاصك ما عهدت إليك بهذا الأمر، لذا أرجو أن تهتم برعايتها وتوليها كل اهتمامك، لا تنس أنها هبة ايزيس.
ـ نعم سيدي الحاكم سوف أبذل قصارى جهدي في حراستها والحفاظ عليها، لقد تعودت على القيام بمسئولياتي على أفضل وجه، ولكن أسمح لي أنني مع تقديري لايزيس التي يقدرها المصريون جميعا ومعها كل الآلهة المصرية، فأنا أرى أنهم جميعا مجرد أسباب ورموز لإلّه واحد في السماء هو الخالق والقادرعلى العطاء والآخرون مجرد أسماء لا أكثر، هذا ما تعلمته من قراءة تاريخ جدي اخناتون الذي توصل إلى معرفة أن للكون ربا واحدا ورمز له بقرص الشمس أتون، الذي تخرج منه يدا أدمية توزع الخير على البشر وتضئ الكون بنورها، وقد أنشأ في هذه المنطقة مركزا
لعبادة أتون الإله الواحد، لقد عاش جدي اخناتون هنا وتوارثت عائلتي عنه ديانة التوحيد وحتى بعد وفاة صاحب الدعوة وتحول الناس إلى عبادة أمون ظلت بعض العائلات مؤمنة بعقيدة التوحيد سرا وإن اخفت إيمانها خوفا من بطش السلطة، لكن.. الإيمان ظل في أعماقها وإن اختلفت الرموز والتسميات، إن الإيمان بالبعث والحساب والخلود أكبر دليل على الإيمان الروحي بخالق عظيم واهب كل شيء، لذا كان اهتمام المصريين بالقيم الإنسانية العليا والتحلي بالفضائل والأخلاق الحسنة،
ـ اعتقد ما شئت يا حابي هذا شأنك، ولكن ما يهمّني أيها الضابط الشجاع أن تكون حريصا على ابنتي دون إزعاجها أو إشعارها بأنني أفرض عليها قيودا، فقط عليك أن تتفانى في الحفاظ عليها وأنا واثق في إخلاصك ومروءتك، وسوف تسهل لك مهمتك المربية نفرت فهي مصرية مثلك وشديدة الحب لايزادورا.