تم بناء المقبرة، ونقل جثمان ايزادورا إلى مثواها الأخير بعد التحنيط ووضع في تابوت فخم صمم على شكل سرير فاخر، وتفنن الأب في كتابة مرثيتين من الشعر الحزين باللغة الإغريقية،
تصور الحالة النفسية للأب بعد فراق ابنته، وراح يسجل قصتها للزمان متضمنة تاريخ وفاتها وإنشاء المقبرة - مائة وعشرون بعد الميلاد -
ما أسوء هذا التاريخ في حياتك يا كريتياس، ليتني لم أعش ولم أر هذا اليوم، هذى الأشعار الحزينة تنطلق من قلب أبيك يا ايزادورا إنها تنطق باللوعة والأسى والإحساس الطاغي بآلام الفقد والبكاء عليك أيتها الحبيبة الغالية، ثم أفاض الأب في سرد صفاتها فهي، الطيبة، الحنونة، الشفيقة، البريئة، الطاهرة، الفريدة، الحورية الجميلة، بهية الطلعة، قرينة فينوس، عروس السماء، محبوبة الجميع،هبة ايزيس.
استغرق كريتياس في وصف ابنته الشهيدة بقلب يعتصر ألما وحسرة، وعيون دامعة، وبداخله شعور قاتل بالذنب لما بدر منه من قسوة عليها والتفريق بينها وبين حابي، وظل يردد وهو ينتحب: كم كنت قاسيا ظالما، فلولا قراراتي الجائرة بحبسها داخل القصر لما هربت، إنني المسئول عن غرقها والمتسبب في موتها، بعد أن حرمتها من الحنان والحب والسعادة.
أظلمت مدينة انطونيو بولس بعد أن أطفئت أنوارها ورفعت رايات الحداد السوداء فوق مبانيها، وانعكست مسحة من الحزن على الإقليم كله، فقد كانت ايزادورا محبوبة من الجميع فحزن عليها كل من يعرفها وكل من شاهدها أو سمع بها، وتعاطف معها كل من عرف قصتها .
اهتز كيان كريتياس وصحا ضميره النائم، وعاد عدله الغائب بعد أن شاهد أبنته الغريقة ترقد كالزهرة الذابلة رقدتها الأخيرة في بيتها الجنائزي، وقف أمام المقبرة وكأنه في حساب مع النفس، وعاهدها وعاهد نفسه أن يكفر عن ذنوبه السابقة، ويصلح أحوال الناس، عساه بهذا يصير حاكما صالحا وعسى أن ترضى عنه ايزيس وترضى عنه ايزادورا في رحاب الأبدية.
بعد ذلك أمر بإطلاق سراح نفرت وعودتها إلى عملها بالقصر بجوار سيدتها بلوتينا كما كانت من قبل، ثم أمر رجالة بإجابة مطالب الثوار ورعاية مصالحهم، وتحقيق العدالة بين أبناء الشعب، ومحاكمة كل من يثبت أنه ظلم أو أفسد أو تخاذل عن أداء دوره، كذلك شرع في تلبية احتياجات الإقليم وتقديم المساعدات العاجلة للمحتاجين، فلعل هذا يسعد روح ايزادورا الطيبة التي كانت دائما تطالبه بذلك وتلح عليه ويا ليته استمع إليها، لكنه.. للأسف اعتاد أن يستخف برأيها معتقدا أنها صغيرة لا تعرف شيئا في شئون الحياة والحكم ومعاملة الناس، ويا ليته تخلى عن عناده واستبداده برأيه واستمع إلى مشورة المخلصين وفي مقدمتهم ايزادورا ومستشاره الأمين برديكاس، ولكن.. هيهات أن ينفع الندم بعد فوات الأوان
أمر بالعفو عن حابي وعودته إلى عمله السابق في معيته وعدم التعرض له والسماح له بالدخول عليه في أيّ وقت يشاء، كما أمر بتقديم اعتذارا له عما لحقه من معاناة وظلم وغمط حقوقه.
لكن.. حابي رفض العودة إلى عمله في حرس الحاكم، ولم يكن له حاجة عنده تدعوه للدخول عليه، بل لم يعد يرغب في رؤيته بعد ما كان منه.
كان موت ايزادورا مرحلة جديدة في حياة كريتياس وفي أسلوب حكمة وأصبحت مأساة فقد ابنته نقمة عليه ونعمة على الشعب، فقد أفاق من غروره وبدأ يستمع إلى الأصوات المخلصة التي تريد الصلاح والخير، ولكن الحزن ظل رفيقا له مقيما معه لا يفارقه أبدا.