فصل -16 -

18 0 00

أشرقت الشمس وانتشرت أشعتها الذهبية على القصر وشرفاته وحديقته،

استيقظت بلوتينا من نومها مهمومة خائفة، وضعت إحدى يديها على صدرها والأخرى على رأسها وهي تحدث نفسها: ما هذا الكابوس المفزع !! أي شياطين ألقت إليّ بتلك الأفكار السوداء، ساعديني يا ايزيس، أحفظي ابنتي أيتها الحكيمة المقدسة، آآ..ه يا لها من ليلة ليلاء، أكاد أجن لو تحقق ما رأيته، لا لا إنها مخاوفي تصور لي أشياءَ غريبة، سأذهب إلى حجرة ايزادورا الآن كي يطمئن قلبي.

نهضت من سريرها واتجهت إلى الباب لتفتحه، فاستوقفها زوجها عائدا من جولته الصباحية للتريض بين الحدائق وسألها عن مصدر القلق البادي على وجهها فأجابته بصوت خافت: رأيت في منامي أن ابنتي تغرق في النيل وتختفي بين الأمواج ولا أحد ينقذها.

صمت كريتياس قليلا ثم ربت على كتفها قائلا: اهدئي اهدئي لا تنزعجي إنها مجرد هواجس وأضغاث أحلام، سوف تجدينها نائمة في سريرها كعادتها كل يوم في هذا الموعد.

لكن بلوتينا لم تهدأ ومضت إلي حجرة ابنتها، بينما ظل كريتياس واقفا في انتظارها، طرقت الباب فلم تفتح ايزادورا ولم ترد على الطارق، دفعت الباب واتجهت إلى مخدعها فلم تجدها، زاد قلقها، تجولت في أرجاء الغرفة وملحقاتها ثم اتجهت إلى الشرفة وظلت تنظر حولها بعدها خرجت وصاحت أين ايزادورا ؟ ابحثوا عن ايزادورا، أقبل كريتياس يجري نحوها قلقا مستفسرا.

واحتشد الحرس والجواري وكل العاملين في القصر وانطلقوا يبحثون في طرقات القصر وحجراته ثم الحديقة المحيطة به، علها تتجول للتريض أو للتسرية عن نفسها أو جلست تنتظر مجيء صديقتها أرسنوي لزيارتها أو أو، افتراضات كثيرة خطرت ببالهم وهم يبحثون عنها في كل ركن وزاوية دون أن يعثروا لها على أثر، اختفت ايزادورا و لم تظهر، وأكد الجميع أنهم لم يشاهدوها منذ الأمس .

أمر كريتياس الجند بالبحث عنها في المدينة كلها وسؤال كل من يعرفها.

لم يسفر البحث عن شيء، وأصبح اختفاء ايزادورا لغزا محيرا، ولم تجرؤ ارسنوي أن تصرح بهروبها واتجاهها نحو النهر لمقابلة حابي.

هي الوحيدة التي تعرف أين ذهبت ايزادورا ولكنها وعدتها بكتمان السر، ثم إنها قد تتعرض للعقاب هي وأبيها إذا علم كريتياس بمساعدتها لابنته في 

الهروب والخروج من القصر، لذا لزمت الصمت ولم تبح بشيء.

خيم الحزن على القصر ومن فيه، ولم تكف بلوتينا عن البكاء، وترك كريتياس كل مشاغله وتفرغ للبحث عن ابنته التي اختفت في ظروف غامضة ومحيرة للجميع، كل أجهزة الحكم في الإقليم تفرغت للبحث عن ايزادورا.

طال البحث، وزاد القلق والخوف على ايزادورا، رصد الحاكم مكافأة كبيرة لمن يعثر عليها أو يدلي بمعلومات توصل لمعرفة مكانها.

خرج المنادون يطوفون في شوارع المدينة ويعلنون عن المكافأة الكبيرة لمن يجد الفتاة ثم ويدلون بأوصافها.

بعد أيام قلائل حضر إلي القصر أحد الصيادين وطلب مقابلة الحاكم، وأكد أن لديه معلومات هامة عن الفتاة المختفية، أمسك به زينون كبير الحرس وأدخله على الفور إلى الحاكم الذي سأله - في لهفة - عما لديه من معلومات: فأخبره أنه أثناء مزاولة عمله في الصيد عثر على جثة فتاة تطفو على سطح الماء، فقام بانتشالها ولاحظ أن صفاتها تتفق تماما مع الصفات التي أعلن عنها المنادي، فسأله الحاكم وهو يرتجف أذكر لي صفاتها بدقة، فأجاب الصياد إنها بيضاء البشرة، ذهبية الشعر، زرقاء العينين، ترتدي ملابس فاخرة وتدل سماتها على أنها أميرة ولكن.. الغريب في الأمر أنها ترتدي - فوق ملابسها الفاخرة - رداء جارية.

هب كريتياس وخلفه الجند والحرس وذهبوا بصحبة الصياد إلى مكان الجثة، وكانت المفاجأة.. إنها جثة ايزادورا ابنة حاكم الإقليم .

حمل الحراس الجثة وعادوا بها إلى القصر وهم يبكون ويندبون.

انهار كريتياس و بلوتينا عندما شاهدا ابنتهما ممددة أمامهما جثة هامدة بعد أن فقدت حرارة الحياة، وراحت بلوتينا تلقي باللوم على زوجها ذلك الأب القاسي متهمة إياه بأنه السبب في موت ابنتهما حينما فرق بينها وبين حبيبها

حابي الشاب الطيب المخلص الذي أحبها بصدق وتعلقت به.

انهمر كريتياس في البكاء وشعر بفجيعته ومصيبته في فقد ابنته الوحيدة الغالية التي أحبها أكثر من حياته، والذي كان يظن أنه بتصرفه هذا يعمل لصالحها، ويحافظ عليها، وكلما زاد حزنه زاد ندمه على موقفه من حابي وعدم تقديره لمشاعر الحبيبين البريئة، فكان ذلك سببا في ظلم حابي وتدمير حياته وموت ابنته غرفا.           

انحنى الوالد المكلوم والأم المحزونة على جثمان ابنتهما المسجى يبكيان بحرقة، ثم تسلم الكهنة جثمان الفتاة وبدأت عملية التحنيط.

قرر كريتياس أن يبني لابنته الغريقة مقبرة فاخرة ذات طراز متميز ومختلف عن كل المقابر المعروفة، وإن كانت صغيرة في حجمها مثل صاحبتها الصبية الغضة التي اختطفها الموت في ريعان صباها، وهي لم تتعد التاسعة عشرة من عمرها وفي ظروف مفجعة بكل ما تعنيه الكلمة من الحزن والألم وأوجاع الفراق.

لم يكن بيت الأبدية التي تسكنه ايزادورا فاخرا من حيث البناء والزخرفة فحسب، بل أشارت بلوتينا على زوجها قائلة: احك قصة ابنتنا وسجلها على جدران مقبرتها، لكي تقرئها الأجيال القادمة علهم يتعظون ويكفون عن ظلم بناتهم ووأد المشاعر الطاهرة البريئة، احك قصة ايزادورا وسجلها ليحفظها التاريخ، فتعيش في وجدان وقلوب الناس تخليدا لهذا الحب العفيف البريء الذي نما في قلبين نقيين، ذلك الحب الصادق الصامد حتى الموت.

ـ سأفعل يا بلوتينا سأحكي قصة ايزادورا الجميلة شهيدة الحب، وسأسجلها شعرا يعبر عما أعانيه من لوعة الفراق، ويظهر طيبة ايزادورا وحبها للخير وللناس.

ـ كانت ابنتي رمزا لجمال الشكل والروح، فهي طيبة حنونة بريئة نبيلة.

ـ نعم هكذا كانت ابنتي الحبيبة الراحلة، حفظت روحها الآلهة ورعتها ايزيس في عالم الأبدية حيث الخلود.

ـ سأودع معها في عالمها الأخير أفخر ثيابها وأغلى حليّها وأنفس عطورها وبديع زينتها وكل ما يليق بعروس السماء كما كانت عروس الأرض، ثم أغرقت عيناها بالدموع ودخلت في بكاء متواصل، بينما جلس كريتياس بجوارها حزينا صامتا لا يجد ما يقوله، ولا يجد ما يعزي به زوجته ولا ما يعزي به نفسه، ولا يعوضهما عن فقد ابنتهما الحبيبة الغالية ايزادورا. عطية ايزيس.