في مدينة انطونيوبولس وأمام حديقة قصره الفاخر، المطل على الشاطئ الشرقي لنهر النيل الخالد، وقف الجنرال كريتياس حاكم إقليم منعت يتأمل النهر وقت الأصيل، وفد انعكست أشعة الشمس الذهبية على صفحة النهر فبدت المياه وكأنها نضار سائل يتماوج في حركة خفيفة متتابعة مع هبوب النسيم، يبتسم كريتياس في عفوية محدثا نفسه: ما أروع هذا النهر وما أعظم قيمته لسكان هذا الوادي، لعله من أهم أسباب نشوء الحضارة في هذا البلد الكريم العامر بالخيرات.
يختفي قرص الشمس وتتلون المياه باللون الأحمر، فيتجه ببصره إلى السماء ليرصد ظهور الشفق في صفحة الأفق، تتناهي إلى سمعه أصوات قادمة من جهة النهر، حفيف الأشجار، نقيق الضفادع، اصطفاق المجاديف، شقشقة العصافير وهي تطير في أسراب عائدة إلى أعشاشها، يتبعها أصوات غناء، يعود ببصره إلى صفحة الماء ويدقق النظر فيرى على البعد غلامين يقودان قاربهما، ويحركان مجدافيهما في مهارة فائقة وهما ينشدان الأغنيات والمواويل الشعبية البديعة التي طالما سمعها من أبناء الشعب خاصة في الأعياد والاحتفالات الرسمية.
يغني الأول بصوته الرخيم:
يا حابيً العظيم ْ - من فيضك العميمْ
تخضوضر الأزهار ْـ وتنضج الثمار ْ
ويرد الثاني مترنما:
يا صاحب العطاءْ - يا واهب النماءْ
بمائك الطهورْ - تنتشي الطيـور ْ
ثم يصدحان معا:
نحن بناة الهرم ْ - وأرضنا مهد النعم ْ
فيها الأصالة والكرم ْـ وشعبنا خير الأممْ
بعد ذلك يمجدان النيل بدعوات أشبه بالصلوات:
( الحمد لك أيها النيل الذي ينبع من الأرض، والذي يأتي ليطعم مصر،
صاحب الطبيعة الخفية...
الذي يرعى المراعي، والذي خلقه رع ليغذي كل الماشية.
والذي يعطي الشراب الأماكن المقفرة النائية عن الماء، ونداه هو الذي ينزل من السماء، محبوب جب، رب السمك والذي يجعل طيور الماء تذهب إلى أعالي النهر )
كان كريتياس يصغي لغناء ودعاء الغلامين في انبهار شديد، وظل يراقبهما حتى مضى القارب بعيدا و غاب عن عينيه، فعاد إلى حديقة قصره يمشي وئيدا. لم يشأ حراسه أن يقطعوا عليه خلوته، وكانوا يراقبونه عن بعد، فقد عرف عنه رغبته في الخلوة بنفسه، حيث يقف أو يجلس صامتا شاردا في حالة من التأمل وكأنه يؤدي عبادة أو مستغرق في تفكير عميق على عادة فلاسفة اليونان.
في فناء الحديقة اتخذ له مقعدا وثيرا، بين الأزاهير والرياحين، وتوالت الذكريات على ذهنه، يا إلآهي ما أروع هذه المدينة، لقد أحسن الأمبراطورهادريان صنعا حين اختار هذا الموقع لبناء هذي المدينة الجميلة التي لا تضاهيها جمالا وفخامة في تلك البلاد سوى مدينة الإسكندرية.
يمد يده ويقطف وردة حمراء، يستنشق عبيرها قليلا ثم يتابع ذكرياته، يبدو أن هادريان أرادها أن تنافس مدينة الإسكندر.
يتنهد ويلتفت يمينا ويسارا فيفهم الجميع أنه أفاق من شروده، فيقبل عليه مستشاره برديكاس قائلا:
ـ نعمت مساء سيدي الحاكم.
ـ تفضل أيها المستشار الحكيم.
ـ ماذا يشغل بال سيدي الحاكم ؟ لقد ظننت أن هناك مشكلة تعكر صفوك.
ـ لاشيء يا برديكاس فقط تذكرت الأمبراطور هادريان الذي ابتنى هذه المدينة الرائعة، في هذا الموقع الساحر على ضفاف النيل.
ـ يؤكد المقربون من الأمبراطور أنه بناها تخليدا لذكرى غلامه انطونيوبولس الذي مات غرقا قبالة هذه المنطقة، أثناء رحلة نهرية قام بها الأمبراطور هادريان وبصحبته غلامه لتفقد آثار مصر العظيمة.
ـ نعم كل ذلك صحيح، ولذا أنشأ هذه المدينة وأطلق عليها اسم غلامه العزيز عليه وجعلها عاصمة للإقليم.
ـ أنت دائما تذكره بالخير وتثني عليه كثيرا كلما ذكرته.
ـ لا أنسى أنه هو الذي اختارني حاكما لإقليم منعت رغم كونه روما نيا، وأنا من سلالة البطالمة ذات الأصول الإغريقية، تقديرا لمكانتي فقد كنت ضابطا متميزا، لذا كافأني بها المنصب بعد انتهاء خدمتي العسكرية، ضمن مجموعة من القادة العظام بمناسبة عيد تتويجه.
ـ أنت أهل لكل تكريم يا سيدي الحاكم، وسجلك حافل بالإنجازات العظيمة والجميع يعرفون ذلك، ليت كل الناس مثلك يحفظون الجميل لمن أسدى إليهم معروفا، إنه وفاء منك، بل هو الوفاء ذاته.
ـ صدقت يا برديكاس ليت كل الناس يحفظون الجميل كما أحفظه لهادريان
ولكن في هذا الزمان قل العرفان وزاد الجحود.
ـ لقد اشتهر هادريان بحبه للعمارة والتشييد والبناء.
ـ نعم لذا أقام الكثير من المعابد والسدود والقصور وتفنن في تزيينها بالنافورات والتماثيل كما أنشأ المسارح والحدائق.
ـ يبدو أنه كان شاعرا أو فنانا.
فيعلق الحاكم: نعم هو كذلك.
يستمر الحوار بين الحاكم ومستشاره في مسائل كثيرة وأمور شتى، فقد كان كريتياس يرى في برديكاس أخلص أعوانه وأقربهم إليه ويعده كاتم أسراره الأمين، لذا فهو يستريح للحديث معه ولا يخفي عنه شيئا صغيرا كان أو كبيرا.