بدهشة المكتشف ونظرة العالم، وقف عالم الآثار المصري، متفحصا بعقله النابه ونظره الثاقب، ذلك الاكتشاف الذي تم على يديه، ظل شاردا وهو يتأمل الموقع ويحدث نفسه: ما أروع هذه المقبرة الصغيرة الفريدة في طرازها، لقد ظلت مدفونة تحت الرمال مع مثيلاتها من قبور الفراعنة لكنها.. بنيت بشكل مختلف لم نعهده من قبل في المباني الجنائزية.
يتنهد وينظر حوله في الفضاء الواسع، حيث تناثرت بيوت الأبدية تتحدى الزمن، بقاء وشموخا، آآه..أخيرا يا تونا الجبل تبوحين بأسرارك، وتكشفين بعض كنوزك، ترى كم تخفين من كنوز أثارنا الخالدة، لكم تستهويني هذه المقبرة ذات الحجرتين الصغيرتين التي تضم مومياء تلك الصبية الجميلة الغضة ايزادورا ابنة حاكم الإقليم المسمى الآن محافظة المنيا، بصعيد مصر الأوسط، يفرد ورقة بردي في يده وينظر فيها ويكمل تحكي نقوش المعابد أن هذا الإقليم - كان قديما - يسمى منعت، اختصارا لمنعت خوفو الذي وجد منقوشا على آثار بني حسن. وفي العصر القبطي سمى موني ثم حرف في العصر الإسلامي إلى منيا.
يعاود النظر إلى المقبرة محدثا نفسه، سوف أصعد الدرج الذي يكاد يكون رأسيا لأرى ما بداخل المقبرة وألقي السلام على روح صاحبتها، ها هي الحجرة الأولى وقد زينت جدرانها على جانبي الباب المؤدي إلى الحجرة الداخلية، حيث ترقد ايزادورا بقصائد الرثاء التي كتبت باللغة الإغريقية، سوف أقوم بقراءة وترجمة هذه البكائيات.
يتوقف الأثري الباحث ويقرأ في همس وقد بدا على وجهه التأثر والتعاطف العميق مع ذلك المشهد الحزين.
أيتها الصغيرة الجميلة
أيتها الطيبة البريئة
والزهرة الناضرة التي ذبلت في ربيع العمر
يا ملاكي الطاهر الذي رحل دون وداع
لقد أدميت قلب أبيك برحيلك المفاجئ
لقد اختطفك حابي بأمواجه الهادرة
سامحيني يا ايزادورا - يا هبة ايزيس
ها أنت يا حبيبة الفؤاد
تنامين في دار الأبدية
ترعاك عين الأ لهة
وتحرسك روح ايزيس المقدسة
يا عطية ايزيس
ويبقى أباك مهموما حزينا
إلى أن يلحق بك في الأفق الأعلى
إن لوعة الفراق تمزق قلبي
تدمع عينا العالم الأثري، آآه.. ما أقسى لوعة هذا الأب المكلوم وما أعظم فجيعته في فقد ابنته، يدلف إلى الغرفة الداخلية، فيرى مومياء ايزادورا
ممددة على سرير فاخر تعلوه قوقعة جميلة من الجص الأبيض، مزينة برسومات للربة ايزيس، ينظر إلي أعلى ويدقق النظر في سطح المقبرة وجدرانها فيؤلمه ما جرى، ويصيح يا إلهي ماذا فعل لصوص المقابر بدارك يا شهيدة الحب ! لقد اقضوا مضجعك ونقبوا سقف المقبرة المقبب، فانهار علي جثمانك وسريرك الجنائزي حتى تهشم وتهشمت معه مومياؤك، كما سرقوا الكنوز النفيسة التي وضعها الوالد المحزون والأم الثكلى.
آآه.. لكم عانيت الظلم في الحياة وفي الممات، حين أقلق اللصوص راحتك، لا سامحهم الله.
يضع الباحث يديه في جيوب سترته ويأخذ نفسا عميقا ثم يستطرد: يقول التاريخ المدون أن المقبرة بنيت في عام مئة وعشرين بعد الميلاد في عهد الأمبراطور الروماني ( هادريان ) ثم خرج من المقبرة وهو في ذهول.
على حجر كبير قديم وجد قبالة المقبرة، جلس صامتا يفكر ويسترجع في مخيلته قصة هذه الفتاة صاحبة المقبرة، ويصغي إلى صوت التاريخ.
وإذا برمال تونا الجبل تحولت إلى مسرح كبير تجري عليه أحداث القصة
فاستجمع حواسه وأبحر بخياله عبر التاريخ، وعاد بالزمن إلى الوراء واستغرق في مشاهدة ما يجري أمامه من أحداث.
هذا هو الضابط - كريتياس - والد إيزا دورا قبل أن تولد ايزادورا، إنه يجلس صامتا حزينا مكتئبا، وها هو أحد معاونيه يقترب منه ويسأله:
ـ سيدي أراك مهموما دائما ولا تبوح لأحد بما في داخلك، هل بوسعي أن أفعل شيئا لمساعدتك ؟
ـ آآه.. لو تعرف ما بداخلي يا برديكاس، لكم أشتاق أن يكون لي ابنا أو ابنة لكي أسعد ببراءة الأطفال، حينما أشاهد الأطفال مع ذويهم أتمنى لو كنت واحدا من العامة ولدي أطفال مثلهم.
ـ ولماذا لا تذهب إلى المعابد وتقدم القرابين للإلهة وتدعوها أن تهبك الأبناء. ؟
ـ في العام الماضي حينما زرت أثينا ذهبت وزوجتي بلوتينا إلى معبديّ دلفي والومبيا وقدمنا القرابين للإله زيوس وطلبنا من الكاهنة أن تدعو لنا وتصلي من أجلنا وتعطينا بعض التعاويذ، يتنهد بعمق وأسى، ثم يكمل ولكن.. دون فائدة، ولست أدري ماذا أفعل.
ـ أعتقد يا سيدي القائد أن ايزيس المقدسة أولى أن تتجه إليها فهي رمز الوفاء والعطاء.
ـ ايزيس !! نعم لقد سمعت المصريين يتحدثون كثيرا عن معجزاتها.
ـ إن ايزيس سيدة الربات في مصر، أنصحك بالتوجه إليها.
ـ حسنا يا برديكاس، أنت مستشار مخلص، سوف أتوجه من الغد إلى معبد ايزيس مع زوجتي بلوتينا لنقدم القرابين ونؤدي طقوس العبادة، فلكم سمعت عن ايزيس وزوجها وابنها وعرفت أنهم يقدمون الخير للشعب ويساعدون المحتاجين، سأطلب من كهنة معبدها مساعدتي في تحقيق رغبتي والدعاء لي ولزوجي بالإنجاب، فعسى يتحقق حلمي وحلم زوجتي اليائسة.
ـ رعتك الآلهة يا سيدي القائد وأنعمت عليك بما تريد.
ـ نعم النصيحة يا برديكاس إن ايزيس مقدسة عندنا أيضا ولها معابد في أثينا وروما إن شهرتها لا تخفي.ولذا سأخبر بلوتينا بهذه النصيحة، لا شك أنها ستسعد بذلك، أنا أشعر أنها بحاجة لمن يبعث الأمل بداخلها.
ـ أن كل من بالقصر يدعون لك وللسيدة بلوتينا، فلا تيأس من يدري ربما تتحقق الأمنيات قريبا، فكم من المعجزات تحدث دون توقع.
ـ صدقت يا برديكاس، فكم من الأمنيات بدت مستحيلة ثم تحققت، وكم من الأمنيات تبدو لنا سهلة قريبة، لكنها في الحقيقة صعبة المنال.
ـ تلك هي شئون الحياة يا سيدي القائد، فما يخفى عنا أكثر مما يظهر لنا وتدركه أبصارنا.