فصل -15 -

22 0 00

تمر الأيام بطيئة ثقيلة، كأنها سنوات طوال وايزادورا تقف في شرفتها في انتظار حضور حابي، لكنه لا يأتي، تشعر بالإحباط، فقد ضاعت أمانيها سدى وتحولت أحلامها إلى كوابيس مزعجة، يزداد قلقها وخوفها على حابي خشية أن يكون قد حدث له مكروه، أو يكون طرفا في الثورة والتمرد الذي أصبح سمة هذه الأيام، وهذا ما يعرضه لسخط المسئولين وفي مقدمتهم والدها،

باتت ليلتها تفكر في طريقة تمكنها من الاتصال به، وكلما خطرت لها فكرة استبعدتها ووجدتها غير صالحة، فكل الطرق مسدودة وكل الأبواب موصدة.

أخيرا بعد أن أعياها البحث قررت أن تذهب إليه بنفسها في بلدته حيث يسكن على الشاطئ الأخر لنهر النيل، وليكن ما يكن فالحياة بدونه لا تساوي شيئا، ولكن.. كيف تستطيع تخطي الحراسة المشددة على أبواب القصر ؟ لابد من حيلة بحيث لا يكتشف خروجها، وبدأت تفكر من جديد.

أثناء زيارة ارسنوي لها وهي الصديقة الوحيدة التي سمح لها كريتياس بزيارة ابنته بعد أن أصدر فرمانه الأخير بأن تبقى ايزادورا حبيسة القصر دون أن تقرب أبوابه أو تبرح أسواره، ولا تزور ولا تزار، ثم خفف الحصار قليلا بعد نصيحة مستشاره وتوسلات زوجته وسمح لها بالنزول للحديقة مع صديقتها ارسنوي فقط.

انشغل الحاكم بالتصدي للمتظاهرين الثائرين المطالبين بحقوقهم التي أهدرها رجاله المتسلطون، بينما تغافل هو وصم أذنيه عن الاستماع إليهم وبحث شكواهم، حتى تفاقم الوضع وبدأ الانفجار.

في هذه الأثناء كانت فكرة الهروب من القصر قد اكتملت في ذهن ايزادورا بعد أن استبد بها الشوق إلى حابي، وفكرت أن تستعين بصديقتها ارسنوي

وصرحت لها بما تنوي عمله، بعد تردد تعاطفت ارسنوي مع ايزادورا ووافقت على مساعدتها في الخروج من القصر.

بعد تفكير وبحث تم الوصل إلى طريقة للخروج دون أن يشك أحد من الحرس أو العاملين بالقصر، فتنكرت ايزادورا في ملابس جارية، وخرجت بصحبة ارسنوي أثناء خروجها بعد انتهاء زيارتها، وسارت خلفها على أنها جاريتها، وكان تنكرها متقنا فلم تلفت أنظار الحرس إليها ولم يشك أيّ منهم في تلك الجارية التي تصحب ارسنوي.

خرجت الفتاتان من باب القصر بأمان دون أن يتعرض لهما أحد، وركبت ارسنوي العربة التي كانت تنتظرها خارج القصر وبجوارها ايزادورا في زي جارية وأشارت ارسنوي للسائق أن يتجه إلى شاطئ النهر، فسار بهما حتى وصل للشاطئ وهناك نزلت ايزادورا من العربة وودعت صديقتها وأوصتها بكتمان الأمر، وعادت ارسنوي إلى قصر أبيها بعد أن وعدت صديقتها بكتمان الأمر وحفظ السر.

وقفت ايزادورا على الشاطئ الشرقي لنهر النيل تنظر حولها وهي متخفية في زي جارية، رأت بعض القوارب الراسية على مرسى قريب منها، ويقف بجوارها بعض البحارة، فاتجهت إيه واستأجرت منه قاربا ودفعت له عددا من العملات الذهبية على شرط أن يبقى القارب معها طوال الليل وتعيده إليه عند الفجر، فرح الرجل بالنقود الذهبية وأعارها القارب دون تردد متمنيا لها نزهة سعيدة وعودة سالمة.

استقلت ايزادورا القارب وأمسكت بالمجداف وأبحرت إلى الجانب الغربي للنيل، كان الوقت قبيل الغروب، ما أن وصلت للضفة الأخرى عند بلدة خمنو وهي بلدة حابي، راحت تبحث عنه و تسأل من تجده في طريقها، فأخبرها أحدهم أنه يأتي كل يوم في مثل هذا الوقت وأشار إلى إحدى الأشجار قائلا: إنه يجلس دائما بمفرده تحت تلك الشجرة باكيا حزينا يناجي القمر وينظم الأشعار، ولا يبرح مكانه هذا حتى ينقضي الليل ويبزغ الفجر فيعود إلى بيته، ثم أضاف: سوف يأتي الآن إنه لا يخلف موعده أبدا.

 

جلست ايزادورا تحت الشجرة، وأن هي إلاّ لحظات قليلة وأقبل حابي،

فأذهله منظر تلك الجارية التي تجلس في نفس المكان الذي اعتاد الجلوس فيه وكأنها تنتظره وتترقب حضوره، اقترب منها متعجبا وخاطبها: من أنت أيتها الجارية ؟ وما الذي أتى بك إلى هنا ؟ هل تعرفينني ؟

أزاحت ايزادورا رداء الجارية عن وجهها وألقت بنفسها في حضن حابي وهي تبكي، كانت المفاجأة مذهلة، وكادت الفرحة والدهشة معا يعقدان لسان حابي ويذهبان بعقله. ظل قلبه يخفق بشدة والدموع تتساقط من عينيه فرحا بحضورها وسألها كيف قامت بهذه المغامرة ؟

قصت ايزادورا على حابي كل ما حدث لها منذ أن رأته آخر مرة إلى أن وصلت إليه في هذه اللحظة.

ـ لكن يا حبيبتي أنت تعرضين نفسك للمخاطر بتصرفك هذا.

ـ فعلت ذلك من أجل أن أراك بعد أن طال انتظاري ويئست من حضورك.

ـ لم يكن بوسعي الحضور وكل العيون ترصدني وتحول بيني وبينك.

ـ خشيت أن يكون أصابك سوء.

ـ وهل يوجد أسوء من البعاد عنك والحرمان من لقائك يا منية النفس ومليكة الفؤاد.

طالت الأحاديث والنجوى بين الحبيبين العاشقين حتى انقضى الليل، لم يشعرا بمرور الوقت وكأنهما انفصلا عن الزمن في ليلة مقمرة تجلى فيها البدر وأمسى يرنو إليهما وكأنه حارس أمين يرعى حبهما.

مرت ساعات اللقاء سريعة وبدأت خيوط الفجر تظهر في السماء معلنة نهاية الليل، وقدوم الفجر، هنا وقفت ايزادورا وأخبرت حابي أنها لا بد أن تعود الآن كي تصل إلى القصر قبل طلوع الشمس حتى لا يكتشف أمر خروجها، حيث أن الجميع يظنون أنها نائمة.   

بدا القلق واضحا على وجهها، فقد خرجت متنكرة بصحبة ارسنوي، ولم يشك أحد من الحراس إنها جاريتها ولكن.. كيف تعود وتدخل القصر ؟

هذا ما لم تعمل حسابه، فقد كان كل همها الخروج ولقاء حابي، انتقل القلق منها إلى حابي وانتابه إحساس بأن هذا اللقاء قد يكون الأخير، فعانقها

وودعها وداعا حارا، وما أن قفزت داخل القارب حتى ارتجف حابي خوفا وإشفاقا عليها من عبور النهر بمفردها، وخاصة وهي على هذه الحالة من الارتباك فعرض عليها أن يبحر معها لتوصيلها ويتولي هو قيادة القارب، لكي يطمئن على وصولها سالمة، لكن ايزا دورا رفضت خشية أن يكتشف أمر لقائهما.

إذا شاهدهما أحد وانتقل الخبر إلى القصر.

أمسكت ايزادورا بالمجداف وبدأت الإبحار إلى الشاطئ الشرقي في طريق عودتها بينما ظل حابي واقفا يراقبها وهي تدفع القارب ودموعها تسيل على خديها، والتوتر يسيطر على نفسها وتحركاتها، وكلما نظرت خلفها رأت حابي يلوح لها بيديه فترد التحية وهي تبكي، وعندما وصلت بقاربها إلى منتصف النهر اختفى حابي عن ناظريها، فظلت تلتفت إلى الخلف و تنظر إلى الجهة التي يقف بها ثم تعاود التجديف وتعود وتنظر إلى الوراء مرة أخرى ثم تعتدل وتمضي في طريقها، استمرت هكذا حتى اختل توازنها وسقط المجداف من يديها، انحنت على حافة القارب كي تلتقطه لكن.. الأمواج ألقت به بعيدا فلم تستطع الوصول إليه، مدت يدها في إصرار على الإمساك به فانقلب بها القارب وسقطت في الماء.

لم تكن ايزادورا تجيد السباحة أو تعرف فن العوم فغاصت في الماء وابتلعتها الأمواج بعد أن ظلت تصارع حتى خارت قواها وامتلأ جوفها بالماء وسكتت أنفاسها.

عندما طلع النهار لاحظ البحار أن قاربه ومجدافه يعومان على سطح الماء، تدفعها الأمواج بدون الجارية التي استأجرتهما فظن أنها ربما نزلت بالشاطئ الأخر وتركت المجداف والقارب فدفعتهما الأمواج، فنزل الرجل وسبح حتى استقل القارب والتقط المجداف وعاد بهما إلى المرسى على

الشاطئ وهو في دهشة وتعجب من أمر هذه الجارية المجهولة، وصار يفكر: ترى من هي ! ولماذا لم تعد ! وكيف تركت القارب والمجداف هكذا!

لكنه أقنع نفسه أن الأمر لا يهم كثيرا، خاصة أنها دفعت له ثمنا مجزيا من العملات الذهبية، كي يعيرها قاربه لعدة ساعات وها هو قد عاد إليه، لا يهم إذن إن هي عادت أو لم تعد، لا يجب أن يشغل نفسه بأمور الناس.

رغم ذلك ظل أمر تلكم الجارية وتصرفها الغريب سرا محيرا يود أن يعرفه بعد أن عجز عن تفسيره.