فصل 6

19 0 00

ما أن أشرق صباح اليوم التالي حتى كنت أستعد للخروج. توضأت و صليت الصبح و دعوت الله أن يوفقني فيما أنا مقدم عليه. خرجت دون أن أتناول طعام الإفطار. لا أستطيع أن أصبر على أن أفعل ما أنوي فعله، و لا أستطيع ترتيب أفكاري أو التحكم فيها. لابد من أن أفعل شيئاً لهذه الفتاة و تتضارب في ذهني الوسائل التي يمكن أن أفيدها بها. لابد من عقل آخر يفكر معي و إلا جننت. لا أعرف عقلاً في هذا العالم إلا عقلي أكرم و رفاييل أهارون. بالطبع لا أستطيع أن أستشير رفاييل في كيفية معاونة فتاة فقيرة. سيكون هذا مشهداً كوميدياً لا ينسي.

ركبت سيارتي و قدتها بسرعة عبر شوارع المدينة متجهاً الي جانبها الفقير. عرجت على منزل أكرم و صعدت درجات السلم المتآكلة وثباً ثم ضغطت زر الجرس. لحظات و فتح أكرم الباب. نظرة اندهاش و قلق واضحة على وجهه و كأنما يتساءل عن السبب الذي من أجله أطرق بابه في هذه الساعة المبكرة من الصباح. قبل أن يقول شيئاً بادرته بالكلام:

 

-"هناك أمر هام أرغب في أن أستشيرك فيه. لا تقلق فأنا لم أقحم نفسي في مشاكل و لا أي شيء مما يدور في ذهنك. فقط أنا بحاجة الي عقلك لنصف الساعة".

 

ابتسم و أفسح لي الطريق الي داخل منزله بدون أن يتفوه بكلمة واحدة. قادني الي ردهة المنزل ثم قال:

 

-"انتظر قليلاً ريثما أعد إفطاراً سريعاً و أعود إليك".

-"أنت تتناول الأقطار كل يوم في الصباح، اليس كذلك؟"

 

نظر الي مندهشا من السؤال ثم قال في حذر:

 

-"نعم. كل الناس يفعلون هذا".

-"عظيم. لا داعي للإفطار اليوم على سبيل تغيير روتينك اليومي. أيضا هذا يجعلك متميزاً عن الآخرين. اجلس و استمع إليّ".

 

نظر الي محملقاً ثم انفجر ضاحكاً و جلس على المقعد المواجه لي و قال:

 

-"هل وصل الأمر الي هذه الدرجة؟ فلنرى ما يدور برأسك".

 

قصصت عليه الموضوع في ربع ساعة. صمت أكرم لبعض الوقت مفكراً فيما حكيت له ثم قال:

 

-"و لكن كيف يمكنك أن تقدم شيئاً لهذه الفتاة؟ لا أعتقد أن القانون به نص يسمح ب.. "

-"دعك من القانون. لا يوجد قانون في هذه المدينة. أنا أعرف من يمكنهم أن يفعلوا أي شيء أطلبه منهم بدون الحاجة الي قانون. المشكلة أنهم لن يتحمسوا كثيراً لفكرة مساعدة فتاة من الطبقة الفقيرة في المجتمع. ربما كان من الأفضل أن أحدثهم عن كلب مشرد في الشوارع، هذا قد يثير حماستهم أكثر".

-"ما الحل إذاً".

-"سآخذ هذه الفتاة لتعيش معي في بيتي".

-" هل ستخطفها"؟

-"لو تطلب الأمر ذلك سأفعله، إلا أنه هناك طرق أسهل لحسن الحظ. سآخذ هذه الفتاة من أبيها و برضاه التام و سعادته أيضا".

-"كيف أيها الذكي؟ هل ستقنعه أنك ستوفر لها مستوي مادي أفضل و تعلى ماً مدرسياً و ما الي ذلك؟ لا أظن أن شخصاً مثل الذي وصفته الآن سيبالي بشيء من هذا".

-"بالطبع لن يبالي بهذا. سأقنعه بوسيلة أخري".

-"ما هي هذه الوسيلة أيها العبقري؟"

-"ارتدي ملابسك و تعال معي و ستري".

-"و ما علاقتي أنا بهذا؟ أعطني سبباً واحداً ل .... ".

-"علاقتك بهذا أنك صديقي، هذا سبب وجيه. ليكن هذا لك درس لكي لا تصادق أمثالي فيما بعد. و الآن أمامك خمس دقائق لتغير فيها ثيابك و سأنتظرك في سيارتي أسفل المنزل. لا تتأخر".

نزلت من المنزل قبل أن أمنحه فرصة لمزيد من الاعتراض. بعدها بقليل نزل أكرم و قد استبدل ثيابه. ركب السيارة جواري و لم ينس أن يقل في لهجة ذات مغزى:

 

-"سيارتك جميلة حقاً".

-"لا وقت لهذا الكلام الآن يا أكرم".

 

قدت السيارة الي منطقة قريبة من منزل الفتاة ثم نزلنا منها و ترجلنا. لا تستطيع السيارة دخول الحواري الضيقة القذرة هنا.

و صلنا الي منزل سارة و طرقت الباب. لحظات و انفتح الباب و ظهر خلفه أبيها. نظر الي و لم يبد أنه يتذكر أنه رآني أصلاً. قلت له بدون أي مقدمات:

 

-"أنا أرغب في أن آخذ ابنتك لتعيش مع أبنتي لتسليها. إن ابنتي ليس لها إخوة أو أخوات و لقد رأيت ابنتك و فكرت أنه ربما يمكن أن تأتي لتعيش مع ابنتي، إذ أنها في مثل عمرها تقريباً".

 

ارتسمت على وجه أكرم نظرة مذهولة لحسن الحظ أن أبا الفتاة لم ينتبه اليها. تماسك قليلاً يا أحمق و لا تفسد الأمر.

نظر إلى أبيها في غيظ ثم قال في غضب:

 

-"ماذا تظن يا هذا؟ هل يمكن لأب أن... ".

-"سأدفع لك خمسمائة جنيه شهرياً".

 

في ثانية واحدة تلاشي الغضب من على وجهه و بدا على وجهه شيء من التردد ثم ارتسمت في عينيه نظرة جشع و قال:

 

- "و كيف لي أن أبتعد عن صغيرتي؟ و هل يوجد من هو أحب الي منها؟ إن.... ".

-"سبعمائة جنيه و هذا آخر عرض سأقدمه فأنا لا أحب إطالة الحديث. إما أن تقبل و إما أن ترفض، و ليكن هذا الآن على الفور".

-"موافق".

 

مددت يدي في جيبي و أخرجت بعض المال. قدمته اليه و قلت:

 

-"هذه سبعمائة جنيه لأول شهر. سأعطيك مثلها أول كل شهر".

 

أخذ مني المال في لهفه و سعادة و أخذ يعده. من داخل المنزل جاءت امرأته التي كانت تسترق السمع و حاولت أن تأخذ منه المال إلا أنه أبعده عن يدها و صاح فيها أن تبتعد عن المال. انشغلا في الشجار سويا بينما ناديت سارة. جاءت من الداخل تحمل أميرة كالمعتاد و سلمت على ثم نظرت الي أكرم في تردد. في هذه الأثناء كان أكرم يشاهد ما يحدث و هو فاغر فاه في صورة تصلح لأن توضع في المعجم و تحتها كلمة مذهول. لو أنه رأي ديناصورين يتصارعان في غرفة نومه لما ارتسم على وجهه هذه القدر من الذهول. جذبته من ذراعه لألفت انتباهه الي سارة. مد يده اليها فمدت يدها في شيء من التردد. هذا معتاد لدي الأطفال طبعاً لأنها تراه لأول مرة.

داعبها أكرم قليلاً بينما الرجل و أمرأته يتصارعان من أجل المال. نظر أكرم اليّ مبتسماً و قال:

 

-"أهذه هي سارة؟ في الحقيقة هي تستحق الوصف الذي وصفتها به و أكثر".

 

أمسكت بيد سارة و سرنا أنا و هي و أكرم في اتجاه سيارتي. الطريف أن الفتاة لم تسأل إلى اين نحن ذاهبون، لا أدري هل لأنها صارت تألفني أم لأن أي مكان نذهب اليه هو أفضل من بيتها.

 

بعد أن سرنا خطوات قليلة حتى جاء صوت ابيها من خلفنا يهتف في غضب:

 

-"إلى أين أنت ذاهب يا هذا؟"

 

نظرت له في تساؤل فقال:

 

-"أنت لم تعطني عنوانك".

 

ثم أكمل و على وجهه ابتسامة صفراء مقيتة:

 

-"كيف سآتي اليك في أول كل شهر لآخذ السبعمائة جنيه؟"

 

يا للخنزير. و انا الذي كنت أظنه سيسأل عن المكان الذي ستكون فيه ابنته ليطمئن عليها من وقت لآخر فإذا به فقط يهتم بالمكان الذي سيقبض منه المال ....

 

أن يكون لديك طفل لا يجعل منك أباً بأكثر مما يجعلك امتلاك البيانو موسيقار.

مايكل ليفين

 

أعطيته عنوان منزلي ثم انصرفنا. ما أن ركبنا سيارتي حتى اندفع أكرم في أسألته و كأنما كان ينتظر فقط أن نبتعد قليلاً:

 

-"ما هذا الذي حدث الآن؟ إن الرجل يؤجر ابنته بالمال. هذا هو المعني الحرفي لما حدث. إنه لا يهتم بما قد تفعله أنت بابنته، و لم يسأل إن كنت ستحسن رعايتها. لم يسألك عن أسمك، بل إنه حتى لم.... "

 

ثم اختنقت الكلمات في حلقه من فرط الانفعال. قلت له:

 

-"بالطبع المال هو كل ما يهمه من الحياة. لو أني كنت طلبت حياته هو مقابل المال فلربما أعطانيها بعد مساومة قصيرة. أنا كنت على استعداد لأن أدفع كل ما أملك مقابل أن أفوز بها، و لكن لحسن الحظ أنه لم يدرك هذا و إلا لطالب بالفعل بكل ما أملك. أما عن رعايتي لابنته، فلن أسيء معاملتها و العناية بها بأكثر مما يفعل هو. أعلم أن هذا شيء قاس، و لكن لن يستطع أي شخص أن يسيء معاملة هذه الفتاة بأكثر مما يفعل أبيها. ربما كان القتل أكثر رحمة و هوناً من أن يهين آدمتها و طفولتها يومياً بانتظام.

-"هناك شيء آخر. أنت قلت إنه رآك بالأمس. لم يبد عليه أنه رآك في أي مكان من قبل. و حتى لو لم يكن رآك، انت شخصية شهيرة و معروفة، و لكن على الرغم من هذا لم يبد ما يدل على أنه تعرفك".

-"عندما رآني بالأمس كان متعاطيا لمخدر من نوع ما. الخمر و بعض أنواع المخدرات لها هذا التأثير، ففي الفترة التي يكون فيها الكحول أو المخدر في جسدك تصبح شخصاً آخر غير ما أنت عليه بدون المخدر. عندما ينتهي مفعول المخدر أو الكحول تنسي كل ما مررت به و ما فعلته و أنت تحت تأثير الكحول أو المخدر. عندما تتعاطي الكحول أو المخدر ثانية تتذكر ما مر بك في المرة الأولي عندما تناولت الكحول أو المخدر. بعبارة أخري، إذا تعاطي هذا الرجل أقراصه المخدرة الآن فسيتذكرني. أعلم أن هذا يبدو مضحكاً و لكنه حقيقي".

 

نظر إلي أكرم في عدم تصديق إلا أني أكملت:

 

-"أما بالنسبة لكوني شخصاً شهيراً فهذا الرجل ليس لديه جهاز تليفزيون ليشاهد عليه الألعاب، و حتى إن كان لديه جهاز تليفزيون أو رآني في أحد المعلقات الإعلانية أو ما شابه، فلا أعتقد أن مخه الذي تآكل من فرط الإدمان قادر على أن ينتبه الي أو يعرفني إذا ما رآني".

 

نظر إلي في عدم اقتناع و لم يتفوه بكلمة حتى و صلنا الي بيته. أوقفت السيارة أمام باب البيت فنزل من السيارة دون أن يقول شيئاً و قد بدا عليه الإرهاق. لم تتحمل عقليته التي تعيش في المدينة الفاضلة – على الرغم من كل ما رآه و يراه يومياً- ما رآه الآن.

هتفت به:

 

-"شكراً يا أكرم".

 

لوح بيده في حركة غير ذات معني ثم أكمل السير الي منزله في تثاقل.

نظرت الي سارة التي جلست في المقعد الخلفي تلعب بدميتها غير مبالية بحديثنا و حمدت الله على أن وفقني الي أن انتشلتها مما كانت فيه.

أمامنا أيام قادمة من المرح سوياً يا صغيرتي.