فصل 8

19 0 00

في الأيام التالية كنت أقضي معظم الوقت مع سارة، بل و أتحيز الفرصة لكي أطيل الوقت الذي أقضيه معها. كنت قد اشتريت بعض من قصص الاطفال لكي أحكيها لها حين تنام في غرفتها التي فرشتها لها بأثاث أطفال أنيق، و ملأت جدرانها و أرضيتها بصور الشخصيات الكارتونية و الطيور المغردة و الأرانب الثرثارة التي تتجمع حول قدمي فتاة شقراء تسير في الغابة- يبدو أنها سنوهوايت-، و أقضي النهار معها في النزهات أو في اللعب في البيت، خصوصا في حمام السباحة الذي صارت سارة تعشقه الي حد الجنون.

فكرت في أن أبدأ في تعلى م سارة تعلى ماً منتظماً. نحن الآن في الصيف ولا توجد دراسة، و لكني فكرت في أن أقدم لها في أحدي المدارس الراقية مع بداية العام الدراسي المقبل.

الآن صارت لحياتي معني و هدف بشكل لم أشعر به من قبل. الآن انا أدخل الي الفراش لأنام و أنا أتحسر على الوقت الذي سيضيع في النوم بعيداً عن سارة، بعد أن كنت أذهب الي الفراش لأني لا أجد شيئاً أفضل أقوم به. أقضي الوقت معها أكتشف عالمها و عاداتها التي بدأت تتكون بالتدريج مثل التهام نوع معين من الشكولاتة أو مشاهدة حلقات الكارتون المفضلة لديها – دعك بالطبع من أميرة و طقوس العناية بها- و أشعر بشعور كولومبوس حين اكتشف العالم الجديد. في الحقيقة أنا لا أكتشف عالماً جديداً، بل أنا أري العالم بعينين جديدتين، عيني طفلة صغيرة، حيث يصير كل شيء مهما كان مألوفاً لغزاً جديداً يعاد اكتشافه من جديد. الآن صار لي هدف أتخيله و أسعى اليه، هو أن أري سارة و قد صارت فتاة ناضجة متميزة. متميزة على الصعيد الشخصي، الديني، الخلقي و العقلي أيضاً. هي صورة مبهمة ليست محددة الملامح، و لكنه صار هدفاً يملأني بشدة، حتى أني اشتريت بعض الكتب في التربية و تنمية القدرات العقلية للأطفال. من أول ما قرأته في هذه الكتب هو أن قابلية الناس للتعلم و استغلال ما يتعلموه تتفاوت. في رأيي، هذه الفتاة هي شخص صالح للتعلم كما يقول الغربيون Knowledgeable، بل لن أبالغ إن قلت إنها أكثر من رأيتهم في حياتي ذكاء. هذا الذكاء الفطري لابد من أن يستغل و ينمي.

بالإضافة الي العناية بسارة، صرت أقضي الوقت في قراءة القرآن و قراءة الكتب التي أعطانيها أكرم، و أقضي بعض الوقت في التأمل و التفكير في حياتي و ما آلت اليه. حين أتفكر في الأمر أجد أن الكثير من الأشياء التي كانت تسير في اتجاه خاطئ في حياتي قد بدأت في التحول نحو ما هو أفضل. المشكلة أن هناك أشياء أكثر– مثل مهنتي- التي تنتظر دورها في أن تتغير الي الأفضل، و لكني لا أجد في نفسي القوة الكافية لتغييرها. ليس الآن على الأقل.

 

في مساء أحد الأيام و بينما كنت أقرأ كتاباً و سارة تجلس بجواري تشاهد أحد أفلام الرسوم المتحركة في التلفاز، رن جرس الباب. لم أكن أتوقع أحداً في هذا الوقت، و لكني قمت و فتحت الباب، و كان الطارق هو آخر شخص يمكن أن يخطر ببالي. كان الطارق هو أكرم، و قد وقف مرتبكاً محاولاًً أن يبعد عينيه عن عيني. و قفت مذهولاً محدقاً في وجهه لا أدري ماذا أفعل. كانت الأفكار تتسابق في رأسي حتى أني لم أعد قادراً على اللحاق بأي منها. ما الذي جاء بأكرم الي منزلي؟ هل الموضوع يتعلق بسارة؟ هل أتصل به والدها و يريد أن يستعيدها؟ و لكنه يملك عنواني أنا و ليس عنوان أكرم. هل هي زيارة من صديق لصديقه؟ ربما أبدي أكرم نحوي قدراً من المودة في الفترة الأخيرة حين كنت أزوره، و لكن لن يصل الأمر بالتأكيد إلي أن يزورني في منزلي. مازال هناك الكثير من ال....

 

-"ألن تدعونا الي الدخول يا سيد خالد".

 

أخرجني الصوت من دوامة أفكاري. كان الصوت صوتاً أنثوياً. في هذه اللحظة انتبهت الي أن حنان زوجته تقف بجواره. لقد جاء مع زوجته أيضاً. أفسحت لهم الطريق و بصعوبة استجمعت شتات أفكاري لكي أستطيع الكلام.

 

-"تفضلوا، مرحباً بكم".

 

دلفوا الي بهو المنزل حيث كانت سارة تشاهد فيلم الرسوم المتحركة. نظرت إليهم سارة في صمت، بينما توجهت اليها حنان و صافحتها و أخذت تداعبها بألفاظ من طراز (هذه هي سارة إذا- يا لجمالها) الي اخر هذه الأشياء، بينما جذبني أكرم من ذراعي و همس في أذني:

 

-"يبدو أنك اعتنيت بها كثيراً".

-"ألا تستحق".

-"بل هي تستحق ما هو أكثر".

 

ربتت على كتفه و قلت له في مودة:

 

-"مرحبا بك".

نظر الي و لم يقل شيئاً و لكن نظرته قالت الكثير. ما زلت أمتلك صديقاً عزيزاً مخلصاً بعد كل هذه الأيام.

دخلت الي المطبخ و أعددت لهم بعض المشروبات الباردة و الحلوى ووضعتها على صينية صغيرة و خرجت إليهم. وجدت سارة تجلس على ساقي حنان التي أخذت تتبادل معها حديثاً هامساً. يبدو أن حنان نجحت في أن تصنع من نفسها صديقة لسارة في هذا الوقت القصير.

 

بعد أن تبادلنا بعض الحديث في موضوعات عامة، تنحنحت حنان ثم قالت بأسلوبها الديبلوماسي المجامل:

 

-"أعتقد أنك تتساءل عن سبب زيارتنا لك يا سيد خالد. أنا أعلم أن هناك... لنقل بعض الخلاف في وجهات النظر بينك و بين أكرم...

 

لا داعي لاختيار الألفاظ، انا أعلم أكرم من قبل أن تعرفيه بسنوات و أعرف كيف يفكر.

 

.. و لكنك و أكرم أصدقاء، و بعد ما قمت به مؤخراً لرعاية سارة، شعر أكرم برغبة في أن يعيد علاقتكما لما كانت عليه في الماضي...

 

ليس أكرم بل أنت يا حنان من أصر على هذا. أكرم لا يقبل بأنصاف الحلول، و أنت من أتي به الي هنا. سأتظاهر بأني أصدق ما تقولين و لكني أشكرك بشدة على دفع أكرم لهذه الخطوة.

 

.. و أن تتجاوزا هذا الخلاف بينكما.

 

-" شكراً لك يا أكرم".

 

أطرق أكرم بوجهه الي الأرض و تمتم بكلمات غير مسموعة. إنه حتى عاجز عن التظاهر بأنه تجاوز الامر تماماً. و لكن لا بأس، تكفيني زيارته لي، على الأقل تكفيني في الوقت الحالي.

 

أمسك أكرم بالكتاب الذي كنت أقرأه قبل أن يأتي. كان كتاباً قديماً يقارن بين المذاهب الفكرية المختلفة – التي كانت سائدة وقت كتابته- و يقارنها بالإسلام من منظور أكاديمي بحثي بحت.

 

-"مذاهب فكرية معاصرة؟ من أين جئت بهذا الكتاب؟ انا لم أسمع به من قبل".

-"من أحد المحال المتخصصة في بيع الكتب القديمة- لهذا تلاحظ أن الكتاب مهترئ مصفر الأوراق. أنت تعلم أن الكتب ذات المحتوي الديني غير مسموح بطباعتها غالباً و على من يريد أن يقرأ كتاباً دينياً متعمقاً أن يبحث قليلاً. لقد كلفني هذا الكتاب مبلغاً لا بأس به".

 

بالطبع لم أخبره بالحيل التي قمت بها من أجل أن أشتري كتاباً ذو محتوي ديني دون أن يعلم البائع أن مشتري الكتاب هو خالد حسني.

 

تصفح خالد الكتاب سريعاً ثم قال:

 

-"و لكن الكتاب قديم للغاية. أعني أن محتواه قديم، فلم يعد هناك مثلاً من يتحدث عن الشيوعية الآن".

 

-"و لكن هناك شيء ثابت لم يتغير منذ العصر الروماني الي اليوم. في الواقع هو لم يتغير منذ العصر الحجري الي اليوم. اتعلم ما هو هذا الشيء"

 

فكرت قليلا ثم قلت:

 

-"الإنسان".

 

-"و لكنه يتعرض للكثير من الأفكار التي دائماً ما تثور و تنتشر أحيانا مثل الإلحاد. ثم أن الأمر الهام في هذا الموضوع هو أنه يقارن بين المنهج الذي يضعه البشر – أيا ما كان هذا المنهج - و المنهج المنزل من الله".

 

نظر الي أكرم طويلاً دون أن ينطق، و لكني أعلم السؤال الذي يدور في ذهنه:

 

ما دمت تفكر بهذه الطريقة، كيف تستمر في ما تقوم به؟

 

مشكلة أكرم أنه لا يعلم متي يصمت و متي يتكلم. هذا عيب قاتل إن أردت رأيي. حتى حين يصمت فإن أفكاره تصلني كأفضل ما يكون. أرجوك يا أكرم توقف قليلاً عن أن تكون ضميراً لي يحاسبني على كل ما يدور في عقلي.

 

أبعدت عيني عنه و نظرت الي سارة التي كانت تجلس بجوارنا تلتهم الشكولاتة المفضلة لديها و تلعب بدميتها الأثيرة. لا أعلم كيف مرت هذه الجلسة و لكن في النهاية قام أكرم و حنان لينصرفا. قمت و صحبتهما الي الباب، و بينما هم لدي الباب قالت لي حنان:

 

-"ما قمت به مع هذه الفتاة ليس بسيطاً. أنت أنقذتها من حاضر بشع و مستقبل مظلم. لقد جعلك الله نجدة لها مما كانت فيه".

-"لا أدري من منا كان نجدة للآخر".

 

نظر الي أكرم ثم صافحني و انصرف مع زوجته.