فصل 5

18 0 00

مر أسبوع أو أكثر على لقاءي برفاييل. أشعر برغبة شديدة في فعل شيء جديد أو تغيير شكل حياتي. ربما هي الحاجة الي الزواج. لكم أتمنى أن أقضي بعض الوقت مع أكرم دون مناقشات و مجادلات. فقط بعض الوقت مع الشخص الوحيد الذي يمكن أن أصنفه على أنه صديقي. و لكن هذا شيء صعب إن لم يكن مستحيل. لابد من الجدال و المناقشات التي لا تنتهي.

يمكنني أن أقنعه بأن يقوم بهذه التضحية الصغيرة من أجلي. أعلم أنه يحبني و أنه طيب القلب على الرغم من عصابيته و انفعاله.

 

لم أشعر بنفسي إلا و أنا أطرق باب منزله. فتحت زوجته الباب و نظرت الي في تهيب. قلت لها في شيء من الخجل:

 

-" معذرة لقدومي بدون موعد مسبق و لكن... ".

-"مرحبا بك في أي وقت يا سيد خالد. تفضل بالدخول".

 

دخلت الي الردهة و جلست هناك بينما دخلت هي الي المنزل لتستدعي أكرم. بعد لحظات جاء أكرم و قبل أن يفتح فمه بكلمة قلت له:

 

-"اسمعني أولا. أنا في أشد الحاجة إليك. لا تناقشني في موضوع العاب الواقع هذا، فأنا لا أستطيع احتمال مثل هذه المناقشات، على الأقل ليس الآن. أنا الآن بحاجة الي صديق، و لا أعلم لي في هذا الكون صديق سواك. أنا الآن هش تماما كطفل رضيع، فهل أجد لديك الصدر الرحب لتسمعني"؟

-"ماذا بك يا خالد؟ هل أنت مريض؟ هل أنت مشاكل مالية؟ هل...

-" لا يوجد شيء من هذا".

-"ماذا إذا؟ كلامك مقلق للغاية. إن كان في يدي شيء أساعدك به فلن أتأخر بالطبع".

-"أنا واثق من هذا. فقط أنا بحاجة الي صديق يستمع الي، و لا أعلم لي صديق سواك في هذا الكون".

-"تكلم يا خالد دون أن تزيد من قلقي".

-"لا أعلم كيف أبدأ معك الحديث أو ماذا يمكن أن أقول. يمكن لي أن ألخص الموضوع في الاكتئاب، و لكني أشعر أن ما أمر به هو أكبر و أصعب من الاكتئاب".

-"الاكتئاب ليس بالمرض الهين. إنه أخطر من الكثير من الأمراض العضوية".

-"ربما كان ما أمر به نوع من الاكتئاب. لا أدري بالضبط فأنا لست طبيباً نفسيا، فقط أشعر أن حياتي خاوية. لقد مللت الشهرة. أشعر أنها بلا معني. ما معني أن تكون شهيرا في لعبة من العاب التسلية؟ و الأدهى أنها ليست تسلية بريئة بل هي مدمرة. و فوق كل هذا لها أغراض خفية على مستوي المجتمع.

-"أنت الذي يتحدث الآن عن الألعاب و ليس أنا".

-"ليست الألعاب في حد ذاتها و لكن حياتي ككل. كلما توغلت في الألعاب صار الأمر صعباً. قتل الناس ليس بالشيء الهين أو الممتع بالنسبة لي كما قد يتبادر الي ذهنك. في بعض الأحيان أشعر أن المقابل المادي الضخم للألعاب لا يكاد يساوي الضغط النفسي المريع الذي أتعرض له في كل لعبة و أنا أقتل أشخاصاً ليس بيني و بينهم أي عداء أو كراهية من أي نوع. و لكن دعنا من الألعاب فليست هي محور النقاش. بعيداً عن الألعاب، حياتي نفسها بلا أي معني. أعيش وحيدا بلا هدف. اليوم مثل غدا مثل الأمس. لم تعد الشهرة و المال أشياء مغرية كما كانت قديما. أقضي الوقت مقسما بين تدريباتي و قراءاتي، بدون... لا أدري كيف أصف لك هذا. بدون أي شيء معنوي. اتفهم ما أقصده؟"

 

نظر لي أكرم طويلا ثم قال في حذر و كأنما يحاول أن يتحكم في نفسه لكي لا يتطرق لموضوع الألعاب:

 

-"ألم تفكر في الزواج؟"

-"و من تلك التي يمكن أن أتزوجها؟ لا يمكن لشخص مثلي عمله يتلخص في المخاطرة بحياته يمكنه الزواج. دعك من أني لا أجد من أرضي بها زوجة لي. هناك الكثير من البلهاوات اللائي يحلمن بي كزوج، و تقضي كل منها الساعات الطويلة في أحلام اليقظة متمنية أن أخوض معركة من أجل عينيها، ثم لا يلبث أن تنتهي هذه الأحلام عندما يأتي أول أحمق يطلب الزواج منها. المشكلة أني لا أريد فتاة بلهاء منبهرة بخالد بطل ألعاب الواقع، بل فتاة أحترم عقلها و شخصيتها تريد الزواج من خالد الإنسان.

 

ثم ضحكت في عصبية و قلت:

 

- "هذه متناقضة لا حل لها، فأنا لا أحترم أي فتاة تحترم أو تعجب بشخص يمتهن مهنة مثل مهنتي. الفتاة التي تعجب بي أو تقبل بي زوجا إما سفاحة تتسلي بامتصاص دماء الأطفال الصغار ليلاً أو بلهاء أو مزيج من هذا و ذاك".

-"دعني أسألك سؤالاًً و لكن بدون أن تغضب".

-"سل ما بدا لك".

-"هل تصلي أو تقرأ القرآن بانتظام"؟

-"كلا. منذ فترة طويلة و أنا لا أمارس أي من الشعائر الدينية. بل إن منزلي ليس به مصحف على ما أذكر".

-"لماذا لا تجرب كبداية لتغيير حياتك أن تعود للمواظبة على الصلاة؟ ألا بذكر الله تطمئن القلوب".

-"أكرم أنا أتحدث معك عن مشاكل أخري ليس عن الصلاة أو القرآن. ثم إن هناك نقطة هامة. أنا دوما تحت الأضواء. لو تسرب خبر أني أصلي أو أقرأ القرآن سيكون في هذا مجال للشائعات و القيل و القال و سيكون في هذا الكثير من المشاكل لي.

-"و ما دخل الناس بك إن كنت تصلي أم لا؟ هذا شيء لا يخالف القانون على ما أعلم".

-"أنت لا تعلم الطبقة العلى ا من المجتمع. ربما يمكنك هنا في هذا الجزء من المدينة أن تصلي و تمارس شعائرك الدينية بلا مشاكل، و لكن حيث أعيش انا، ممارسة أي شعيرة دينية يضعك موضع اشتباه. هذا قانون غير مكتوب".

-"لا أدري يا خالد. أعتقد أن سلامتك النفسية تستحق هذه التضحية البسيطة. جرب و لن تخسر شيئا و بإذن الله سيكون في هذا بداية تغيير الي الأحسن في حياتك".

 

فكرت قليلا ثم قلت له:

 

-"حسنا. سأجرب و لو لفترة قليلة".

-"عظيم. عن إذنك لحظة واحدة"

 

غاب أكرم في داخل المنزل لدقائق ثم عاد و في يده بعض الكتب:

-"هذا مصحف، و هذه بعض الكتب الدينية التي أتمنى أن تعجبك. أدعو الله أن تكون هذه بداية تغيير جدي في حياتك نحو ما هو أحسن".

 

قضيت بعض الوقت مع أكرم ثم استأذنته في الانصراف. قبل أن أنصرف نظرت له طويلا و قلت له:

 

-" أشكرك يا أكرم على كل ما فعلته من أجلي".

-"أنا لم أفعل شيئا ذا بال “.

-"بل فعلت الكثير. لن يمكنك أن تتخيل كم كنت محتاجا الي هذه اللحظات التي قضيتها معك. لقد استمعت الي بصدر رحب و هذا ليس بالشيء الهين أو البسيط، و حاولت أن تساعدني. الآن أشعر أن هناك على الأقل شخص واحد في هذا العالم يهتم بأمري.

 

تلعثم أكرم و ارتبك:

 

-"أنا.... لم .... ".

"و الآن أستأذنك في الانصراف. مرة أخري شكراً لك".

 

نزلت و ركبت سيارتي. وضعت المصحف و الكتب على المقعد المجاور لي، ثم عدلت عن هذا ووضعتهم في درج السيارة. لا أريد أن يراني صحفي ما أو يستوقفني شرطي ثم يجد هذه الكتب الي جواري. لن يكون الأمر ظريفاً حينئذ.

أدرت السيارة ثم سرت في الطرقات الضيقة بسرعة بسيطة و أنا أتأمل الشوارع و...

 

-"اللعنة".

 

بينما أنا أسير ظهرت أمامي فجأة فتاة صغيرة السن. كانت تعبر الطريق دون أن تنتبه الي سيارتي. ضغطت مكابح السيارة بشدة فتوقفت السيارة قبل أن تصدمها، لحسن الحظ أني كنت أسير بسرعة منخفضة. الغريب الفتاة لم تلتفت الي السيارة أصلاً بل واصلت عبور الطريق و كأن شيئا لم يكن.

 

أخرجت رأسي من النافذة و هتفت في غضب:

 

-"غيري من نوع المخدر الذي تدمنيه. إن لم تفعلي فلن تعيشي لتأخذي جرعة أخري".

 

نظرت لي الفتاة بعينين ممتلئتين بالدموع ثم أكملت طريقها حتى وصلت الي الرصيف المقابل ثم جلست عليه ووضعت رأسها بين يديها و أخذت تبكي. لقد كانت حزينة الي درجة أنها لم تنتبه الي السيارة و لم تهتم بأن ترد على عبارتي الساخرة.

 

نزلت من السيارة و توجهت اليها. للدقة العمرية هي لم تكن فتاة بل طفلة يقترب عمرها من السنوات الأربع، واضح من ثيابها الفقر و عدم العناية، إذ لم تكن ثيابها أو وجهها آية في النظافة. على الرغم من هذا إلا أنها كانت تفوح برقة الطفولة و عذوبتها في تناقض صارخ مع ثيابها الممزقة المتسخة و شعرها غير المعتني به. لو كنت حاكما لهذه المدينة لأمرت بشنق أم هذه الفتاة على عامود نور في ميدان عام كما كان النازيون يفعلون برجال المقاومة في المدن التي احتلوها...

 

يمكن الحكم على أخلاقيات المجتمع من خلال ملاحظة مدي ما يقدمه من رعاية لأطفاله - ديتريتش بونهوفر.

 

كانت الفتاة صغيرة الجسد دقيقة الملامح، سوداء الشعر و العينين ولا أدري كيف أصف هذا، و لكن بها شيئا غريبا جذبني اليها. مظهرها كان كفيلاً بتغيير مشاعري فجأة، فبعد أن كنت على استعداد لتهشيم رأسها على أقرب جدار، شعرت بشفقة شديدة تغمرني تجاهها و رغبة في أن أوقف دموعها بأي ثمن. من الذي يمكنه أن يبكي مثل هذا الملاك الصغير؟ الأمر يتطلب قسوة غير عادية لفعل شيء كهذا. إن من أبكاها هو شخص جدير بدخول كتب التاريخ الي جوار النازيين و الإسرائيليين و المغول و كل السادة رقيقي المشاعر مرهفي الحس الذين يملؤون كتب التاريخ.

 

توجهت لها وثنيت ركبتي حتى صار وجهي على مستوي وجهها و قلت لها:

 

-"ما الذي يبكيك يا صغيرتي".

-"لقد انكسر ذراع أميرة و لن يمكنني أن أجد غيرها. لقد كنت أسير ثم سقطت على الأرض تحت قدمي. لن أستطيع أن أجد غيرها. صدقني يا سيدي انا لم أقصد أن.... ".

-"مهلاً يا عزيزتي مهلاً. من هي أميرة أولا؟"

-"هذه هي أميرة".

 

قالتها و رفعت يدها اليسرى بدمية صغيرة لم أنتبه اليها في البداية. هذا هو الموضوع إذاً. أمسكت الدمية و تفحصتها. في الواقع إن ذراع الدمية لم ينكسر، فقط انفصل عنها و يمكن إعادة تركيبه بسهولة، فقط الفتاة لم تفطن لهذا لصغر سنها.

نظرت لها و سألتها:

-" إن أصلحتها لك ماذا تعطيني في المقابل"؟

 

نظرت لي في شيء من عدم الفهم و كأنما تفكر في المقابل الذي يمكنها أن تمنحه لي، ثم قالت في شيء من التردد:

 

-" ليس لدي حلوي لأمنحها لك. أنا لا أشتري الحلوى، فأبي لا يعطيني المال. يقول لي أنه سيشتري به أشياء أخري، و لكنه...

-"لا أريد حلوي. إن أصلحت لك الدمية فهل تصبحين صديقتي؟

-"كيف أصبح صديقتك؟ أنا صغيرة و أنت كبير؟

 

ضحكت بعمق. ما أعذب براءة الأطفال.

ركبت لها ذراع الدمية في ثوان. لم يكن الأمر صعبا. لاحظت أن الدمية شديدة النظافة. لابد أن الفتاة تعتبر أميرة ابنة لها و تعتني بها بشدة. لو أن أم هذه الفتاة اعتبرت ابنتها دمية فلربما اعتنت بها بعض الشيء.

ما أن مددت ذراعي للفتاة بالدمية حتى أمسكتها و تأكدت أن ذراعها بخير بأن أدارته حول مفصل الكتف مرتين، ثم قفزت في الهواء و أخذت تصيح:

 

-"لقد أصلح أميرة. لقد أصلح أميرة".

 

ثم قفزت و قبلتني قبلة صغيرة على خدي الأيمن. لم أتصور أن يسعدها هذا الي هذه الدرجة. جلست على الرصيف و أجلستها بجواري بعد أن هدأت قليلا.

 

-"ما أسمك يا صغيرتي".

-"سارة".

-"كم عمرك؟"

 

نظرت لي في استغراب و قالت:

 

"ما معني عمر"؟

 

غريب هذا. الفتاة صغيرة السن و لكن على ما أعتقد يعرف من هم في مثل سنها سنوات عمرهم. من الواضح أن الفتاة لا تلقي أي عناية عقلية أو تعلى مية من أي نوع. تجاوزت هذا السؤال و قلت لها:

 

-"أترغبين في بعض الحلوى؟"

-"أنا أحب الحلوى جداً. ذات مرة جاءت هدي الي لنلعب. و كان معها بعض الحلوى. هدي أعطتني بعض الحلوى. في هذا اليوم كانت هدي تلعب مع أميرة بينما أنا كنت ألعب في... ".

 

ثم أكملت حديثها –الذي لا أذكره- و الذي كان ينتقل من نقطة لأخري على عادة الأطفال. كانت تتحدث في حماس غريب. لابد أن نابليون لم يشعر بهذا الحماس و هو يقص أمجاده العسكرية. تذكرت كلمة لأحد الكتاب قال فيها يمكنك أن تعرف أنك صرت كبيراً حين تبدأ في الشعور بالملل. الأطفال فقط هم الذين يجدون في كل شيء نقطة مثيرة لا يراها الكبار لهذا لا يشعرون بالممل. كانت سارة تتحدث بحماس في كل الموضوعات، إلا أني كنت أستمتع بحديثها الي أقصي درجة. ربما هو ذلك الكم الهائل من البراءة و البساطة و التي لم أعتد أن أراها. ربما هو نوع من التغيير أن تجري حديثا مع طفلة صغيرة. لا أدري بالضبط. ما أعرفه هو أني كنت في غاية السعادة و أنا أستمع الي حديثها في هذه اللحظات.

 

ركنت السيارة في شارع جانبي ثم أمسكت بيدها و سرت في الطرقات الضيقة و الشوارع القذرة أبحث عن محل يمكنني أن أشتري منه بعض الحلوى لها.

وجدت بقالة صغيرة، يديرها شاب مراهق، في السادسة عشر من العمر تقريباً. نظر الينا في دهشة و كأنما يتساءل عن ما يمكن أن يجمع بين شاب يظهر عليه الثراء و رغد العيش و فتاة فقيرة قذرة في الرابعة من العمر. لم أعره انتباها و نظرت اليها و سألتها:

 

-"ما هي الحلوى التي تحبينها؟ أتحبين الشكولاتة؟

 

نظرت لي في استغراب و دهشة. في البداية ظننت أنها تري السؤال بديهيا، إذ أن كل الأطفال يحبون الشكولاتة، ثم فطنت الي أنها لم تسمع الكلمة من قبل أساساً. لا أدري هل هذا بسبب فقرها أم صغر سنها.

 

اخترت انا الحلوى بدلا منها، فمن الواضح أنها لم تري معظم هذه الأصناف من قبل. غادرنا المتجر الصغير و ازلت الغلاف الحيط بقالب من الشكولاتة و قدمته لها. أمسكته في تردد و نظرت الي و كأنما تسألني عن كنه هذا الشيء. قلت لها:

 

-"هذه تسمي شكولاتة. إنها لذيذة للغاية. تذوقيها و سترين".

 

قضمت قضمه صغيرة ولاكتها في حذر ثم راقت لها الشكولاتة. أخذت تأكل قالب الشكولاتة و نست كل ما يحيط بها. حتى أميرة التي كانت تبكي من أجلها منذ قليل صارت في آخر اهتماماتها.

شعرت أن إمساكها لأميرة بيديها الصغيرتين و أكلها الشكولاتة في نفس الوقت يضايقها قليلا، فقلت لها:

 

-" أعطني أميرة لأمسكها لك ريثما تأكلين الشكولاتة".

-"كلا. أميرة ملكي أنا".

-"سأعطيها لك حينما تفرغين من أكل الشكولاتة".

-"كلا. أنا لا أترك أميرة".

 

و كأني سأسرق اميرة لألعب بها. من الواضح أني كنت مخطئاً. هي ليست على استعداد لترك أميرة أطلاقا مهما حدث.

 

-"أين تسكنين؟"

-"بجوار هدي".

 

من الواضح أن هدي هي صديقتها المقربة. لا جدوى من أن أسألها عن عنوان بيتها، إذ لابد أنها تعرف الطريق الي منزلها و لكنها لا تعرف كيف تصف العنوان.

 

-"هل ستذهبين الي المنزل الآن؟"

-"نعم".

-"حسناً، هيا بنا نذهب سوياً".

 

و سرت معها في الطريق الي منزلها.

 

مازلت أذكر العالم كما يبدو في عيني طفل صغير..

تدريجيا حُجبت هذه الصورة بما أعرفه الآن..

أين ذهبت مشاعري و أفكاري..

تم إبدالها بالعالم الحقيقي في مبادلة غير عادلة..

أريد ان أعود لما كنت عليه في الماضي..

من الثقة في كل شيء و الجهل بكل الحقائق..

 

من أغنيةFields of Innocence لفريق Evanescence

 

الجانب الفقير من المدينة قذر مهمل. هذا شيء يعرفه أي أحمق، إلا أن المنقطة التي يقع فيها منزل سارة هي أكثر أجزاء الجانب الفقير قذارة و إهمالا. لن أستغرب لو كانت هذه البقعة هي أحقر و أقذر بقاع الأرض. لن أصف هذه المنطقة بالتفصيل، فقط سأقول أن باقي الجانب الشرقي من المدينة يبدو كمنتجع سياحي مقارنة بهذه البقعة، و سأترك الأمر لخيالك.

سرنا في الطرقات الضيقة بينما سارة تلتهم باقي أصناف الحلوى التي اشتريتها لها، حتى وصلنا إلى منزلها. كلمة منزل هي تفخيم لهذا الشيء، فهو أقرب الي كوخ ضيق من الطوب و له سقف من الصاج الصدئ المتآكل. فوق هذا الصدأ تتراكم أكوام من القمامة و المخلفات و الأتربة. هذا هو أحقر و أقذر منزل يمكن أن يسكن فيه إنسان. حتى الحيوانات تترفع عن أن تسكن في مكان مثل هذا.

طرقت سارة الباب المتهالك الذي يكاد يسقط من تلقاء ذاته. إنفتح الباب ليظهر خلفه رجل بدين ضيق العينين قصير القامة يرتدي زياً قذراً ممزقاً في أكثر من موضع، ذقنه غير حليقة و يسير مترنحاً. ما أن فتح الباب و رأي سارة حتى صاح فيها بلسان ملتو:

 

-"أين كنت يا ابنة الكلب؟ ألم آمرك ألا تبتعدي عن... "

 

ثم لم يلبث أن انتبه الي وجودي. ما أن رأي وجهي حتى صمت في شيء من الاندهاش ثم لم يلبث أن أكمل في هياج:

 

-"ألم آمرك أن تتوقفي عن مضايقة الناس و جلب المشاكل على أم رأسي؟ هل انتهت جميع مشاكلي و لم يعد لي هم سواك؟"

 

قالها ثم هوي على وجه سارة بصفعة عنيفة، لحسن الحظ أني أسرعت وتلقيتها على راحة يدي قبل أن تسقط على وجه الفتاة.

يا له من وغد. كيف ينوي أن يصفع فتاة صغيرة بهذه القوة؟ لقد آلمتني عظام يدي كثيراً عندما تلقيت صفعته عليها. إن يده شبيهة بقذيفة المدفع.

نظر الي فاغراً فاه و قد أذهله سرعة رد فعلى. انتبهت الي أن عينيه حمراوان و لديه قدر لا بأس به من بطء الإدراك. لو أضفنا هذا الي مشيته المترنحة لقلت أن هذا الرجل مخمور أو يتعاطى نوع من المخدرات.

 

قلت له في صرامة:

 

-"لا يوجد أي مشاكل يا هذا. فقط وجدت الفتاة تسير في الشارع فقمت بإيصالها الي منزلها".

 

من داخل البيت جاءت زوجته. مثلها مثل زوجها فقيرة قذرة ممزقة الثياب، إلا أن عقلها ليس غائبا مثله. غالباً هي لا تدمن الخمور أو المخدرات مثله، أو على الأقل هي لم تتعاطاها منذ قليل. شاهدت زوجته ما حدث فقالت:

 

-"معذرة يا سيد، فهو لا يعي ما يفعل. لقد أطارت تلك الأقراص اللعينة عقله".

 

ثم التفتت الي زوجها صائحة:

 

-"ألن تتوقف عن تناول هذا (الهباب) يا رجل. يوماً ما ستقتل نفسك أو تورط نفسك في كارثة بسبب هذا (الهباب) الذي تتناوله".

-"صمتاً يا امرأة. هل صار الأمر و النهي في هذا البيت لك"؟

ثم التفت الي سارة و قال لها:

 

-"هيا ادخلي".

 

أكاد أجزم أن هذا الرجل سينهال عليها ضرباً عندما أبتعد. لا يهم السبب، يكفي أن يتعكر مزاجه لأي سبب، عندها سيبحث عن من يضربه، و بالطبع سيجد الفتاة أنسب الناس لهذا. فقط وجودي يمنعه من أن يمارس لذته الآن.

دخلت الفتاة الي البيت بعد أن ألقت على نظرة طويلة و كأنما ترجوني أن أتدخل لأنقذها من دخول البيت. ولكن بأي حجة أستطيع أن أتدخل لأمنع فتاة من الحياة مع أب مثل هذا.

لم أدر كيف وصلت الي سيارتي و لا كيف قدتها الي منزلي. كان عقلي شارداً فيما رأيت اليوم، حتى أني بعد عودتي الي المنزل بما يزيد عن الساعة، تذكرت المصحف و الكتب التي أعطاها لي أكرم. لقد نسيت أن آخذها من درج السيارة. خرجت الي المرآب الملحق بالفيلا و عدت بالمصحف و الكتب.

في المساء صليت صلاة العشاء ثم قرأت بعض القرآن في فراشي. بدأت من بداية المصحف و قرأت ما يقرب من عشر صفحات ثم و ضعت المصحف بجواري على الكومود. أغمضت عيني و شردت في ما رأيته اليوم.

هذه الفتاة احتلت تفكيري، ببراءة الطفولة التي تملؤها. لن تدوم هذه البراءة كثيراً لو استمر نمط الحياة الذي تعيشه، هذا إن استمرت الحياة أصلاً و لم تلق حتفها بسبب ضربة من أبيها الرقيق مرهف الحواس. ما زالت عظام يدي تؤلمني حتى الآن من شدة ضربته.

أشعر برغبة شديدة في أن أري الفتاة مرة أخري. ما زالت أشعر بالقبلة التي وضعتها على وجهي. أشعر بما فيها من سعادة و حب الأطفال البسيط الفطري. لم أشعر من قبل بهذا الشعور و لم أتخيل أن سعادة طفلة صغيرة قد تحدث في نفسي هذا الأثر النفسي الكبير.

أيضا أذكر نظرة عينيها عندما تركتها و كأنما ترجوني أن أنقذها من العودة الي منزلها. ربما كنت أنا أول من يحسن معاملتها منذ ولادتها، لهذا شعرت أني قد أستطيع أن أحميها مما تعانيه. مريع هو الشقاء الذي يرتسم على وجوه الأطفال. هذه فتاة من المفترض أن يكون همها الأول اللعب مع أقرانها و العناية بدميتها و الذهاب الي مدرستها، و لكن الواقع أهم ما يشغلها هو كيف تتقي شر أبيها.

لابد من أن أفعل شيئاً لأنقذ الفتاة مما تعانيه. لا أدري ما الذي يمكن لشخص مثلي أن يفعله في موقف مثل هذا، و لكن لابد من فعل أي شيء، حتى لو كان هذا الشيء اغتيال ابيها على قارعة الطريق. لن يكون في هذا خدمة لسارة فقط، بل سيكون خدمة للبشرية جمعاء أن تفقد هذا الحلوف البري.

و لكني لا أستطيع أن أتحرك الآن لفعل أي شيء، لابد من انتظار الصباح. على أن أنتظر ثمان ساعات كاملة قبل أن أستطيع التحرك لفعل أي شيء.

من الذي قال إن غداً لناظره قريب؟