فصل 12

19 0 00

التقدم في أساليب النظم الديمقراطية يمكن استخدامه لخدمة صناعة الإجماع بمعني جعل الرأي العام يوافق على أمور لا يرغبها بالأساس عن طريق استخدام وسائل دعائية.

والتر ليبمان- عميد الصحفيين الأمريكيين سابقاً

 

توجهت الي السيارة و الدمية في يدي. ركبت السيارة و توجهت الي مبني شركة الالعاب. صعدت الي مكتب رفاييل في خطوات سريعة، و إن لاحظت أن هناك حركة غير عادية في المبني. الكثير من الأشياء و المعدات تنقل عبر المبني لسبب لا أعلمه. لم أبالي كثيراً و أكملت طريقي الي مكتب رفاييل. قبل الدخول الي مكتبه، على أن أمر على غرفة سكرتيرته. كانت تجلس أمام مكتبها، إلا أني لم أبالي بها و توجهت الي باب مكتب رفاييل. حاولت أن تمنعني من الدخول اليه:

 

-"لا يمكنك الدخول قبل أن .... ".

 

ثم بترت عبارتها. يبدو أن مظهري كان يغني عن أي نقاش بنظرة التصميم و الحزن التي كانت على وجهي. توجهت الي باب مكتبه و فتحته و دخلت المكتب و أغلقت الباب ورائي.

كان رفاييل جالس في كرسي المكتب الوثير وظهره اليّ. كان ينظر عبر زجاج مكتبه، الذي يحتل الجدار المواجه للباب بأكمله. قال دون أن يستدير بكرسيه:

 

-"لماذا تأخرت؟ أنا أنتظرك منذ أن أنهيت مكالمتك معي".

-"كان على أن أنهي بعض الأشياء"

-"هل لي أن أعرف ما هي هذه الأشياء؟"

-"كنت أتناقش قليلاً مع والد سارة، ولكنه لم يحتمل سحر حديثي فسقط ميتاً".

 

استدار بكرسيه بحركة حادة و نظر الي بشيء من الترقب. قلت له في برود:

 

-"ما الذي تريده لكي لا تخوض سارة هذه اللعبة؟"

-"أن تخوض أنت لعبة صغيرة بدلاً منها. قواعد اللعبة هي البساطة ذاتها. كنت قد حدثتك عن أن... ألن تجلس؟ اجلس فإن الحديث سيطول و لن نستطيع الاستمرار فيه و أنت واقف هكذا".

 

جلست على الكرسي المواجه لمكتبه و أكمل هو حديثه بلهجة تقريرية لا انفعال فيها:

 

-"تعرف أني استقيت فكرة ألعاب الواقع من ألعاب الكمبيوتر. في العاب الكمبيوتر، يوجد طراز من الألعاب قائم على ما يسمي ب "موقف رهائن" Hostage Situation أو Die Hard situation. في هذه الألعاب توجد رهينة أو مجموعة من الرهائن. مجموعة من اللاعبين تقوم بدور إرهابيين، و مجموعة أخري تقوم بدور فريق مكافحة الإرهاب. على المجموعة التي تمثل فريق المكافحة تحرير الرهائن قبل وقت محدد، وإلا قام الإرهابيون بقتل الرهائن. أنا أفكر في أن أقوم بمثل هذا السيناريو في ألعاب الواقع. الرهينة ستكون سارة، و أنت ستمثل فرقة مكافحة الإرهاب".

-"أنت مجنون. أنا لن... ".

-"دعني أكمل كلامي. لست في موقف يسمح لك بالمساومة أو الرفض. ستقبل و إلا دخلت سارة اللعبة القادمة. و كما لا يغيب على ذكائك، فإن فرصة فوزها شبه منعدمة".

 

الوغد على حق للأسف. فلنستمع لما يقول.

 

-"كنت أقول إنك ستمثل فريق مكافحة الإرهاب، و سارة ستكون الرهينة. المفاجأة أن الإرهابيين هم مجموعة من أفضل اللاعبين المحترفين الذين لدينا. بالطبع إن نجحوا في قتلك، تموت الفتاة. هذه نقطة مهمة، إن مت ستقتُل سارة أيضاً. دعك من أنه بعد فترة معينة من الوقت سيتوجه الفريق المنافس لك الي سارة و يقتلها، و عندها أيضا ستكون قد خسرت بغض النظر عن موتك أو حياتك. بالطبع إن هزمت، سيكون للفريق مكافأة ضخمة. أما الشخص الذي يقتلك، فإن له مكافأة شخصية – بالإضافة الي مكافأة الفريق التي سيتم توزيعها على الفريق كله- هذه المكافأة هي مبلغ من سبعة أصفار. مكان المعركة سيكون جديداً، سيكون هنا، في مبني الألعاب. لعلك تساءلت عن سبب الفوضى و عمليات النقل التي لابد و أنك رأيتها هنا في المبني. إنها إعداد للمبني لكي تقام فيه هذه المعركة. ستكون سارة رهينة في إحدى غرف هذا المبني، وسيكون على ك البحث عنها. هذه الغرفة ستكون مغلقة و سيتم فتحها بعد نصف ساعة من بدء المعركة، عندها يدخل الفريق المنافس لك الي الغرفة و يقتلوها، و عندها ستكون قد خسرت. سنقوم بإعداد الطابقين العلويين من المبني لعمل قاعتين عملاقتين مثل قاعات السينما في كل طابق منهما، حيث سيحضر مجموعة من المتفرجين – بعد دفع مقابل مادي ضخم طبعا- حيث سيتم بث حي الي داخل هذه القاعات، بالإضافة الي أن المعركة ستبث على الهواء على قناة الألعاب. هذه ستكون أول مرة أقوم بإخراج المعركة على الهواء. أيضاً سنقوم بفتح رهان صغير قيمته مائة جنيه، حيث يراهن المتفرجين على الفائز في هذه المعركة، و بعد نهاية المعركة يكسب المتفرج أو يخسر بناء على اختياره، هل كان سليماً أم لا. و دعني أخبرك أني أظن أن فرصة فوزك ضئيلة للغاية، إذ أن جميع اللاعبين المحترفين سيكونون ضدك و سيستميتون في قتالك من أجل الفوز بالمكافأة. ولكنك ستقبل بالتأكيد. أنت ستضحي بحياتك من أجل فرصة و لو ضئيلة لإنقاذ تلك الفتاة".

-"أأنت واثق الي هذه الدرجة"؟

-"بالطبع، لدرجة أني أمرت قسم الإعلانات بصنع الإعلان عن المعركة القادمة و قد قاموا بصنعه بالفعل و سيبدأ بثه غداً. يمكنك أن تشاهده الآن.

 

قالها و توجه الي أقصي الغرفة حيث توجد مكتبة الصغيرة بها جهاز فيديو و جهاز تليفزيون صغير. قام بوضع أسطوانة في جهاز الفيديو ثم قام بتشغيلها. على شاشة التلفاز ظهر الإعلان. لم يكن مميزاً في شيء عن باقي الإعلانات المعتادة للمعارك، و لكني لاحظت أن الإعلان ذكر أني سأفوز بمبلغ ضخم من المال في حالة فوزي في هذه المعركة. لم يذكر رفاييل هذا في كلامه.

 

بعد أن انتهي الإعلان قلت له:

 

-"أنا أقبل دخول هذه المعركة و لكنك مدين لي بإجابة بعض الأسئلة على الأقل".

 

عاد الي الجلوس في كرسي المكتب و قال:

 

-"سل ما بدا لك".

-"لماذا"؟

 

نظر لي في تساؤل.

 

-"لماذا تفعل كل هذا؟ لديك الكثير من اللاعبين المحترفين سواي فلماذا تفعل كل هذا لأن لاعباً واحداً فقط قرر الاعتزال"؟

 

نظر الي دون أن ينطق لبضع ثوان ثم قال:

 

-"هذا يحتاج الي شرح يطول بعض الشيء".

-"أنا لست متعجلاً. يمكنني أن أستمع لك لساعات".

 

أخذ نفساً عميقا كمن يستعد لمعركة ثم أخذ يتكلم دون انقطاع:

 

-"ليست المشكلة في أن لاعباً قد اعتزل. صحيح أنك أكثر اللاعبين تميزاً، و لكن هذه ليست المشكلة الكبري. المشكلة هي السبب الذي من أجله اعتزلت الألعاب. أنت اعتزلت الألعاب لأسباب دينية، و لأن شركة الألعاب شركة تثير أحط الغرائز في البشر و تستغلها الي آخر هذا الكلام.... ".

-"أليس هذا حقاً؟ ثم إن هذا رأيي الشخصي. هل قمت بكل هذا لأن رأيي لا يروق لك".

-"دعني أكمل كلامي للنهاية. بالطبع أنا لست أحمق لكي أثور أو أغضب لأن رأيك لا يروق لي. الموضوع أكبر من هذا. كنت قد حدثتك عن أن النفس البشرية بها تيارات متضادان، أحدهما يرفض العنف و الآخر يتلذذ به. علينا أن نجعل الناس تحب العنف و تنسي كرهها له. يوجد مصطلح إعلامي يسمي (صناعة الإجماع Manufacturing Consent)، أي أننا نريد أن نصنع إجماعاً بين الناس على شيء هم يرفضونه أصلاً. نريدهم أن يجمعوا على أن العنف شيء رائع و مقبول. لكي نصنع هذا الإجماع لابد من إسكات الأصوات التي ترفض العنف. بالتدريج نجعل كل وسائل الإعلام – التي نمولها أو على الأقل نمثل لها عميلاً إعلانياً- تروج للألعاب، نكثر من الدعاية للألعاب، ونتجاهل كل الأصوات أو الآراء التي ترفض الألعاب. تدريجياً، يجد كل من يرفض الألعاب نفسه وحيداً. هو ينظر حوله ولا يري إلا قبولاً للألعاب و ترحيباً بها من المجتمع كله، فيظن أنه الوحيد الذي يرفض الألعاب – على الرغم من أن هناك آخرين مثله تماماً- و تدريجياً إما أن ينخرط في التيار السائد، أو ينطوي و يحتفظ بصوته الرافض للعنف داخل نفسه ولا يصرح به. هذا أسلوب قديم، كثيراً ما أستغل هذا الأسلوب بواسطة الإعلاميين للترويج للبرامج السياسية التي تلقي رفضاً من المجتمع".

 

ثم بدأ صوته يضطرب و يسوده شيء من الانفعال و الغضب:

 

-"على مر سنوات اجتهدت بكل السبل الممكنة كي أصنع هذا الإجماع. بدا لي أني قد نجحت الي أقصي درجة، إذ أنه على مر سنوات، لم يظهر صوت واحد رافض للألعاب. و إذ بي أفاجأ ذات يوم بتصريح لك و تعلن فيه كل ما اجتهدت أنا في إخفاءه على مر السنوات. و ما زاد الطين بلة أن الصوت الذي ظهر معلناً رفضه للألعاب هو صوت أشهر و أنجح اللاعبين. هذا يجعل التأثير مضاعفاً. كل من كان يظن أنه الوحيد الذي يرفض الألعاب أدرك الآن أنه لم يعد وحيداً، و أن هناك شخص آخر يري نفس رأيه، و هذا الآخر هو نجم شركة العاب الواقع، و أشهر اللاعبين. لن يمكنك أن تتخيل كم المقالات التي انهالت في الأسبوع الأخير في الصحف ووسائل الإعلام، و المظاهرات الجماهيرية التي تنادي بوقف الألعاب، بل و تقديمي أنا و وائل الحديدي للمحاكمة. الأمر يشبه انهيار السد الذي كان يمنع الفيضان. أنت دمرت ما اجتهدت أنا في بنائه على مر سنوات".

 

نظرت له و لم أرد. حقاً لم أفكر أن الأمر قد يصل الي هذه الدرجة. تذكرت موقفاً لا أنساه أبداً مر بيً في طفولتي حين كنت في المدرسة، إذ جاء أحد الأطفال الينا ليخبرنا أنه وجد قطة تحتضر أمام باب المدرسة. شاهدت في اندهاش كيف اندفع الأطفال ليشاهدوا الأمر في حماس شديد. كنت أظن أن في موقف مثل هذا سيذهبون في حماس لينقذوا تلك القطة أو يساعدوها، و لكن ما أثار رعبي أنهم كانوا ذاهبين لكي يستمتعوا برؤية القطة و هي تحتضر. أحياناً قد يكون الأطفال ساديين الي درجة مرعبة.

تبعتهم في خطوات مترددة و لم أنس المشهد حتى الآن. كانت القطة تنزف من مواضع متعددة في جسدها، يبدو أن سيارة قد داستها أو شيء من هذا القبيل. بالطبع كان المشهد مريعاً – أو على الأقل هكذا بدا لي – و تمنيت أن أفعل شيئاً ما لأنقذها. لا أدري ما الذي كان يمكن لطفل لم يبلغ العاشرة من العمر أن يفعله في مثل هذا الموقف، و لكني لم أفكر في الأمر بمنطقية وقتها، كل ما كان لدي هو بعض المشاعر الثائرة في نفسي.

على الرغم من رغبتي في أن أساعد تلك القطة المحتضرة، إلا أني لم أجرؤ أن أعلن عن رغبتي تلك. كان كل الأطفال من حولي يشاهدون الأمر في سعادة واضحة، و كل منهم يلفت نظر الآخر الي شيء مثير في جسد القطة، مثل كسر في أحد أرجلها أو موضع ينزف في جسدها. بدا لي وقتها أني الوحيد الذي يريد أن يساعد هذه القطة. الآن حين أستعيد هذه الذكري أتفهم ما قاله رفاييل عن صناعة الإجماع. أن تشعر أنك على صواب ولكن لا أحد غيرك يري ما تراه".

 

بعد لحظات من التفكير قلت له:

 

-"و لهذا تنتقم أنت مني بأن تجبرني على الدخول في معركة فرصة فوزي فيها ضئيلة للغاية".

-"ليس انتقاما شخصياً. أنا أقوم بهذا لغرض عملي بحت. يمكنك أن تفكر فيه على أنه محاولة لإصلاح ما قمت أنت بإفساده. أنت ظهرت أمام الناس كبطل، يترك الألعاب و يتخذ اتجاها دينياً، بل و يرعي طفلة صغيرة أيضاً. لابد من أن تنهزم هذه الصورة. لابد من أن يهزم البطل. هذا يقلل كثيراً من بطولته و شعبيته و يساعد على محو صورته من الأذهان. بالطبع هذا لن يصلح ما أفسدته أنت تماماً، ولكنه سيقلل من تأثير ما فعلته أنت".

-"لدي سؤال آخر، أو هي بضعة أسئلة تتعلق بالمعركة القادمة. المشاهدين الذين سيشاهدون بثاً حياً هنا من داخل مبني الألعاب، ما فائدة دفع مبلغ ضخم مادامت المعركة ستبث على الهواء على قناة الألعاب؟ ثم هل تظن أن الناس ستقبل أن يكون محور اللعبة حياة طفلة صغيرة؟ أعني أن هناك حداً للعنف لن يقبل الناس بتجاوزه. و هناك شيئاً آخر، مادامت فرصة فوزي محدودة، فما فائدة الرهان على أني سأهزم أم لا؟ لابد أن المشاهدين جميعا سيراهنون على الاحتمال الأكبر و هو أني سأهزم، و بالتالي يتسبب هذا في خسارة لشركة الألعاب و هو ..... ".

-"مهلاً مهلاً. تمهل قليلاً حتى يمكنني الرد على أسئلتك. بالنسبة للمشاهدين الذين سيأتون الي هنا، فهم سيأتون لأنهم سيشعرون أنهم في قلب مكان المعركة. حين يسمعون صوت الرصاصات والصرخات يتردد من الطوابق التي تقع أسفل منهم، فإن هذا يعطيهم شعوراً أكثر بالواقعية. أما بالنسبة لأن تكون حياة طفلة صغيرة هو محور اللعبة، فهذا لا يهمهم. المهم بالنسبة لكل منهم هو أن تخسر أنت أيا ما كان الثمن، حتى لو كان هذا الثمن هو موت أمه ذاتها. بل إن البعض سيتلذذ بموت هذه الفتاة بالذات أكثر من أي شيء آخر".

-"ولماذا يهمهم أن أخسر؟ ولماذا يتلذذون بموت سارة بالذات"؟

-"لأنك أهنتهم. من سيحضرون العرض هنا هم الناس الأشد حماساً للألعاب. حين اعتزلت أنت، كانت الرسالة الصامتة التي وصلت إليهم هي (أنا أفضل منكم يا من تتلذذون بسفك الدماء. أنا اتخذت اتجاها دينياً، و أرعي فتاة صغيرة). هم يعرفون ويشعرون بأن الألعاب شيء غير آدمي أو إنساني – هذا بديهي، لأن الصواب و الخطأ أشياء فطرية الي حد كبير- ولكنهم يتلذذون بالألعاب، و لن يتركوا متعتهم لأن الألعاب شيء غير آدمي. الآن تأتي أنت و تقدم على الخطوة التي لم يستطع أي منهم أن يقوم بها. الآن كل منهم يتمني لك الفشل، و يا حبذا لو كان هذا الفشل مقروناً بموت الفتاة التي حاولت أنت أن تحميها و ترعاها. هذا يمثل بالنسبة لهم نوعاً من العقاب المزدوج لك لأنك حاولت أن ترتقي عليهم. أما بالنسبة للرهان، فإن قيمة الرهان بسيطة. إن فاز كل منهم بالرهان – و هو ما سيحدث غالباً- فسيفوز بمئتي جنيه، و هو مبلغ تافه بالنسبة لثمن التذكرة التي سيدفعها. الغرض من هذا الرهان ليس المكسب المادي. الغرض هو إشعارهم بالانتصار على ك. حين تخسر أنت هذه المعركة – وهذا ما سيحدث لا محالة- فإن كل منهم سيشعر بأنه راهن على فشلك، و قد فشلت بالفعل. أي رهان – مهما كانت قيمته- يثير في النفس الخوف و التوتر و الترقب. عندما تنهزم أنت يزول هذا التوتر و يحل محله شعور بالقوة و الانتصار، و هذا الانتصار سيكون مقرونا بهزيمتك. هذا سيشعرهم أنهم هم الذين فازوا على ك. هذا هام لاستعادة شعبية الألعاب و محو ما قمت أنت بفعله في نفسيتهم.

هناك شيء خارق للطبيعة في هذا الرجل. إنه يتحدث عن التلاعب بحياة البشر و مشاعرهم بموضوعية شديدة و كأنما يتحدث عن دورة حياة دودة البلهارسيا. لو كان هذا فيلماً سينمائياً لقلت إن هذا الرجل هو الشيطان و قد تجسد في صورة إنسان.

 

-"و ماذا عن تلك المكافأة التي يذكرها الإعلان، و التي أنالها إن فزت في المعركة؟ أنا لم أطلب مكافآت و كل ما يهمني هو أن أنقذ سارة، فلماذا تدفع شركة الألعاب شيئاً لا أريده ولم أطلبه؟ لا أظن أنكم على هذه الدرجة من الكرم".

-"ليس كرماً، فقط أحاول أن أقلل من قدرك لدي الناس. ها هو خالد حسني يقوم بمغامرة من أجل المال مرة أخري. هذا يشعر الناس أنك الي حد ما حقير مثلهم، و لست على هذه الدرجة من النبل التي يظنوها".

-"نعم، إنها تلك السياسة الإعلامية القديمة، سياسة جوبلز وزير الدعاية النازي: اكذب كذبة كبيرة يصدقك الناس بسهولة".

 

ابتسم و قال بلهجة المعلم الذي يحدث تلميذه النجيب:

 

-"كلا، لقد أخطأت هذه المرة. لقد كان جوبلز حماراً كبيراً. من السهل دوماً اكتشاف الكذب حين يكون كذباً خالصاً. مثلاً لقد ظل جوبلز يكذب عن انتصارات الجيش الألماني على الجبهة الروسية على الرغم من الهزائم التي كانت تلاحق الألمان وسط الجليد الروسي، فماذا حدث بعدها؟ ما أن بدأ جوبلز حملة من أجل التبرع للجيش الألماني بالمعاطف، حتى شعر الناس أن هناك شيء ما خطأ، و أن الجيش لا يحرز تلك الانتصارات المزعومة، على الرغم من استمرار الأكاذيب الإعلامية بانتصارات الجيش الألماني. أسلوب جوبلز هذا أثبت فشله أكثر من مرة. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ظهر أسلوب إعلامي جديد في الترويج للأكاذيب، هو مزج الحقائق بالأكاذيب. لو كنا نطبق سياسة جوبلز الإعلامية كما تقول أنت، لقلنا أن خالد حسني سيدخل المعركة من أجل المكافأة المالية فقط دون أن نذكر سارة من الأساس، ولكن الناس لن يصدقوا هذه الكذبة، و سيسهل كشفها. أما أن نقول أن خالد حسني سيدخل المعركة من أجل الفتاة بالإضافة الي المكافأة المالية، فهذا أمر يختلف. الناس تعلم بالفعل أنك ترعي هذه الفتاة. هذا سيجعل موضوع دخول المعركة من أجلها مقبولاً بالنسبة لهم. و مادام الجزء الأول حقيقياً، فالجزء الثاني أيضاً حقيقي، و هو أنك تدخل المعركة من أجل المال أيضاً. حين تمزج الحقائق بالأكاذيب، يغدو من الصعب فصل الحقائق عن الأكاذيب إلا لشخص باحث مدقق، و أغلبية الناس بالطبع ليسوا كذلك".

 

أطرقت و شردت بأفكاري و أخذت أفكر في هذا الكلام.

 

وظيفة الصحف هو الإشارة الي الخبر و ليس تقديمه في صورة كاملة تثير أي رد فعل لدي القارئ.

والتر ليبمان- عميد الصحفيين الأمريكيين سابقاً

 

﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ على كُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾

سورة البقرة. الآيات 40-42

 

هذا الرجل يحاول أن يتفنن في طرق القتل. و كأنما لا يكفيه ان يموت الناس، بل لابد أن يعانوا قبل الموت. على قدر علمي هو أول من يفكر بهذه الطريقة على مر التاريخ... لا ليس أول من يفعل. أذكر أني قرأت أن الإسرائيليين فعلوا هذا حين كانت عصاباتهم تجتاح القري الفلسطينية في أربعينيات القرن العشرين. كانوا يستخدمون السونكي ضد الأهالي العزل لأنه أكثر ترويعاً و تأثيراً في النفس.

 

رفعت عيني اليه و قلت له:

 

-"أنت يهودي، اليس كذلك"؟

 

نظر الي دون أن ينطق و دون أي تعبير من انفعال على وجهه. أكملت أنا كلامي:

 

-"كان يجب على أن أنتبه الي اسمك، إن به رنيناً يهودياً لا تخطئه الأذن. ولكني لم أنتبه الي هذا قبل الآن، قبل حديثك عن تلك السياسة الإعلامية، و التي نسيت أنت – أو تناسيت عمداً- أن تقول إن اليهود هم الذين قاموا بصنعها و نشرها في الإعلام الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال سيطرتهم على معظم وسائل الإعلام من سينما و صحف و محطات إذاعية و دور النشر. في الواقع هو أسلوب تفكير يهودي قديم قدم التاريخ، ذكره القرآن منذ آلاف السنين".

 

ظل رفاييل على صمته ثم قال في النهاية بعد صمت بدا و كأنه سيستمر الي الأبد:

 

-"ربما كان جوبلز أحمقاً كبيراً، و لكن هناك من هو أكثر منه حماقة و غباء، أتدري من هذا"؟

 

ثم قال دون أن ينتظر ردي:

 

-"إنه أنا".

 

قالها بلهجة حادة غاضبة.

 

-" لقد كان جوبلز يخشى الثقافة و الذكاء. كانت له كلمة شهيرة هي "كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي". كل النظم السياسية الديكتاتورية على مر التاريخ كانت

تخشي هذه النقطة و تراقبها في حذر، في حين لم أنتبه اليها أنا. لقد كنت أراقب ثقافتك و ذكاءك و أسلوب تفكيرك المتميز و أنا في غاية السعادة لأن هناك اللاعب الذي يملك القدرات الجسدية بالإضافة الي القدرات العقلية. كان لابد أن أعلم أن هذه الثقافة و هذا التفكير المتميز خطر لابد من إقصاءه. في النهاية ما فعلته أنت هو خطئي انا قبل أن يكون خطأ أي شخص آخر".

 

ثم تنهد و قال:

 

-"عموماً لا فائدة من البكاء على اللبن المسكوب. المعركة القادمة ستكون يوم الإثنين القادم، أي بعد أربعة أيام من الآن. المعركة ستبدأ في تمام الساعة العاشرة صباحاً. سيبدأ العد التنازلي من الساعة العاشرة صباحاً حتى لو تأخرت. يمكنك أن تمر على قسم التدريبات في أي يوم خلال الفترة القادمة لتنتقي الأسلحة التي تروق لك".

 

لم أرد عليه، فقط قمت و توجهت الي الباب منصرفاً. قبل أن أخرج قال رفاييل:

 

-"نسيت أن أخبرك شيئاً".

 

التفت اليه منتظراً ما سيقوله. قال و في عينيه نظرة متشفية:

 

-"الفريق المنافس لك سيقوده أيمن مختار".

 

أيمن مختار هو النجم الثاني لشركة العاب الواقع. قيادة شخص مثله للفريق ستجعل الأمر أكثر صعوبة. الآن سيكون لهذا الفريق المشتت قائد يوجهه، و هو قائد له عقلية لا بأس بها.

 

-"ولماذا تقبل الآن أن يقاتلني أيمن مختار؟ لقد عُرض الأمر على ك كثيراً من قبل و لكنك كنت ترفض بحجة أن موت أي منا يمثل خسارة ضخمة لشركة الألعاب. بالطبع لن يمثل موتي فارقاً لأني اعتزلت الألعاب، ولكن ألا تخشي أن أقتل أيمن في هذه المعركة، و عندها تخسر شركة الألعاب لاعباً متميزاً آخر"؟

-"ألا تفهمني؟ لابد من أن تخسر هذه المعركة مهما كان الثمن ومهما كانت المخاطرة. لو كنت أستطيع أنا أن أقاتلك لاشتركت بنفسي في القتال".

أنت تفعل ما هو أشد من القتال. أنت الذي يخلق الحرب من البداية، ثم يلقي بي و بالآخرين فيها. فليساعدني الله.

 

قلت له و أنا أفتح الباب:

 

-"سيكون على ك تسوية الأمر مع الشرطة لكي يؤجلوا القبض على لأربعة أيام ريثما أخوض هذه المعركة. يمكنك أن تجعل وائل الحديدي يفعل هذا، فله الكثير من المعارف و النفوذ، أو اختر الطريقة التي تناسبك. أنا أعلم أنك قادر على هذا. هذا بالطبع إن كانت الشرطة ستهتم من الأساس بمقتل مدمن من الجانب الشرقي للمدينة.

 

و خرجت من المكتب متوجهاً الي البيت.