فصل 2

20 0 00

إن أردت أن تتخيل المستقبل، فتخيل قدماً في حذاء طويل العنق تسحق وجهاً آدميا.. وإلى الأبد.

جورج أورويل

 

كنا أنا و أكرم طفلين نشئا معا في نفس المنطقة السكنية. بدأت معرفتي به في أول سنوات الدراسة. كانت ظروفنا الاجتماعية و المادية متشابهة. لم نكن من ابناء الأثرياء. هذا بديهي، فهذا الجزء من المدينة لا يسكنه سوي الفقراء. ولكن على الرغم من تواضع مستوانا المادي كان أهلنا حريصين على تعلى منا. كان تعلى ما شكليا بكل تأكيد، فالمدرسين لا يبالون كثيرا بالعلم و التعلم في الجانب المظلم من المدينة. المدرسون أنفسهم أغلبهم بلا ضمير ولا هدف في الحياة، و يؤدون الوظيفة على سبيل الروتين لكي ينالوا القليل من الجنيهات اخر الشهر، و غالبا ما ينفقوا اغلبها على السجائر و ربما المخدرات. أغلبهم لم يكن يعلم شيئا عن المادة التي يدرسها، فلو أنصفوا لوضعوا نصف هؤلاء المدرسين مع الطلبة ليبدأو التعلم من البداية.

التعليم الحقيقي يناله أبناء الأثرياء الذين يتعلمون على أيدي مدرسين محترمين، ليس كهؤلاء الجهلة الذين كانوا لدينا في المدرسة. على الرغم من هذا كنا نتعلم انا و أكرم اعتمادا على الكتب، و كنا متفوقين تفوقا ملحوظا.

 

في النهاية لم نستطع الحصول على التعليم الجامعي. الجامعة مكلفة لا يستطيع سوي الأثرياء دخولها، و بالتأكيد الثراء اخر ما كان يمكن ان نوصف به.

 

عملنا أكرم و أنا كعاملين في واحدة من شركات برمجة الحاسبات العملاقة بمرتب هزيل. في البداية كانت وظيفتنا إجراء عمليات الصيانة الدورية للحاسبات و تنظيفها و إصلاح الأعطال البسيطة- وهو عمل بسيط روتيني يمكن لأي شخص القيام به، فأعطال الحاسبات معظمها بلا علاج سوي استبدال الجزء التالف - إلا أن أكرم كان يستغل وقت الفراغ – فقد كنا نقضي الكثير من الوقت بدون عمل فعلى - في قراءة كتب البرمجيات. شركة بهذا الحجم كان بها مكتبة عملاقة لمن يريد أن يقرأ فيها من المبرمجين العاملين بالشركة، و كان أكرم يقضي الوقت في قراءة هذه الكتب. تدريجيا بدأ يجرب أن يكتب البرامج البسيطة الصغيرة. بالتأكيد لم يكن لديه جهاز كمبيوتر- فالمرتب يكفي بالكاد لإطعامنا- ولكنه كان يستغل أحد الأجهزة المهملة القديمة نسبيا وما أكثرها في شركة مثل هذه.

 

وفي أحد الايام وبينما انا اجلس في الشركة- لا أفعل شيئا ذو قيمة في الواقع- جاءني خبر وفاة أبي. بعد هذا الحدث جاءني خبر وفاة أمي. مات أبي وأمي بعد ان عاشا حياة من الفقر والمهانة والأمل الذي لا ينقطع في ان ابنهما – الذي هو انا- سيكون عظيما في يوم من الأيام، فإذا بي أسلك نفس طريقهما وينتظرني نفس مستقبل المظلم الذي ابتلع الكثيرين من قبلي. لم أزر قبر أبي أو أمي بعد موتهما مطلقا. لا أستطيع ان أزورهما وقد ماتا دون أن أحقق لهما الأمل الذي انتظراه وعاشا حياتهما من أجله.

في هذا الوقت كنت قد سئمت هذه الحياة. الفقر ليس مشكلة. قلة الإمكانيات ليست مشكلة أيضا. المشكلة الحقيقية هي أنه لا يوجد أدني أمل فيما هو أفضل. اليوم مثل الغد والعام القادم مثل العام الحالي. النفق طويل أسير فيه منذ سنوات دون أن أري بادرة ضوء في نهايته. بل والأدهى أني أري من حولي الكثيرين ممن قضوا عمرهم كله سائرين في النفق دون أن يصلوا الي أي نور في نهايته وماتوا وهم في الظلام.

 

في يوم من الأيام رأيت ملصقا في أحد الشوارع يعلن عن المعارك. كان الملصق يمثل رجلا قصير الشعر مفتول العضلات يحمل مدفعاً رشاشاً يتصاعد منه الدخان وتحت الصورة شعار المعارك الشهير " الفائز يأخذ كل شيء".

 

كنت أعلم أن هذا الإعلان والإعلانات المشابهة غرضها الأول هو جذب الفقراء الي المعارك. كان أغلب من يدخلون هذه المعارك من الفقراء. بالتأكيد لن يترك ثري من الأثرياء حياته المرفهة لكي يعرض نفسه للموت في أحد المعارك.

على الرغم من علمي بهذا إلا أني كنت وصلت الي درجة اليأس من الحياة. إن فزت في المعارك فقد فزت ببعض المال، وإن لم أفز استرحت من هذه الحياة التي بلا أمل.

لم أخبر أكرم بما أنوي. كنت أعلم أنه سيحاول أن يثنيني عن ما سأفعله بأي ثمن، ولم أكن في حالة تسمح لي بالجدال أو المناقشة مع أي إنسان.

 

وصلت بالسيارة الي منزلي. وضعت السيارة في المرآب ثم دلفت الي المنزل. واجهتني الصورة الجدارية العملاقة التي حرصت على أن تكون أول ما يراه من يدخل من باب المنزل. صورة عملاقة تحتل الجدار المواجه للباب، تمثلني و أنا و أنا أرتدي سترة بدون أكمام، وأمسك مسدسا كبيرا و أصوبه الي الكاميرا.

 

دخلت الي المنزل و ألقيت جسدي على الأريكة الوثيرة في الردهة و أغلقت عيني وأكملت تذكر شريط ذكرياتي.

 

توجهت في أحد ايام الشتاء الممطرة الي مبني شركة الألعاب. ذهبت سيرا على الأقدام، ليس لتوفير ثمن المواصلات كما كنت أفعل دوما، فإنني و قد اتخذت قراري هذا أدرك أني إما ميت أو ثري، لا يوجد خيار آخر، ولكني لم أكن أحب أن اري نظرة الناس الي فقري الواضح في ثيابي ومظهري، نظراتهم التي تنحصر في الشفقة أو الاحتقار. في الماضي كنت أستطيع ان أتحملها احيانا، ولكني الان مهلهل نفسيا الي أقصي درجة، و يكفيني أقل ضغط لكي أنهار تماما.

 

سرت على قدمي لمدة ساعة حتى وصلت الي شركة الألعاب. تحتل شركة الألعاب مبني بيضاوي الشكل يتكون من 10 طوابق. المبني مغطي برخام أسود و النوافذ مصنوعة من زجاج عاكس أزرق اللون، مما يعطي المبني شكلا أنيقا مقبضا في الوقت ذاته، و أعلى المبني علامة الشركة التي تمثل مجموعة من الرصاصات ذهبية اللون، متراصة في شكل يمثل رمز اللانهاية المستخدم في الرياضيات (∞). المبني تحيط به ساحات واسعة للسيارات – فيما بعد عرفت أن هناك أيضاً مرآب ضخم من طابقين يقع تحت المبني، و يقع تحته ساحتين للتدريبات، أي أن المبني به أربع طوابق إضافية تحت الأرض- و حدائق معتني بها، و يحيط بكل هذا سور به بوابة ضخمة.

 

كان منظري غريبا و أنا اتوجه الي البوابة العملاقة بملابسي المبتلة من أثر المطر و مظهري العام الذي بدا متناقضا بشدة مع كل مظاهر الفخامة و الأناقة في المكان. توجهت الي مكتب الأمن الصغير بجوار البوابة و قبل أن اتفوه بكلمة قال لي رجل الأمن:

 

-" اللاعبين الجدد يتوجهون الي باب اللاعبين في الناحية الأخرى".

 

قالها في لهجة روتينية و قد تعرف غرضي من مظهري، فلابد أنهم يرون الكثير ممن هم على شاكلتي. حسنا، على إذا ان أدور حول هذا المبني العملاق لكي أستطيع الدخول الي المبني. لا يوجد شيء سهل على من هم مثلي، حتى الانتحار.

 

درت حول المبني في ثلث ساعة و توجهت الي البوابة الخلفية. بجوار البوابة مكتب أمن مشابه للمكتب الموجود لدي البوابة الأخرى. توجهت اليه و قبل أن أتكلم قال لي في هدوء:

 

-"توجه الي الباب المواجه للبوابة مباشرة".

 

يبدو أني سألتحق بهذه المعارك و أموت دون أن يسمح لي أحدهم بأن أتفوه بكلمة. دخلت من البوابة الي الساحة المحيطة بالمبني. أمامي مباشرة كان المبني بمظهره الأنيق – صُنِف هذا المبني كواحد من أجمل عشر مباني في العالم- و في أسفل المبني باب من نفس الزجاج الأزرق العاكس عليه لافتة كتب عليها بحروف سوداء كبيرة " اللاعبين الجدد".

و كأنه ناد رياضي و ليس مكانا يفقد المرء فيه حياته....

ما أن دخلت من الباب حتى شعرت بالجو المكيف- مكيف بالتدفئة في هذا الوقت من العام- و رائحة عطرية تفوح في المكان. يبدو أنه معطر جو من نوع ما. الباب يفتح في ردهة كبيرة مستطيلة. الأرضيات من الرخام الأزرق الذي يتخلله عروق من اللون الأسود. كل شيء هو مزيج من الأسود والأزرق هنا، اللونين المميزين للشركة. حتى اللوحات التي تزين الجدران يسيطر عليها هذين اللونين.

 

الي يسار الباب يوجد مكتب استقبال تجلس عليه فتاة في العشرينيات ترتدي زيا رسميا يحمل شعار الشركة على صدره. توجهت اليها و دون كلمة و في ألية قدمت لي استمارتين. الأولي كانت استمارة بيانات يجب ان املأها. الثانية كانت إقرارا بأني أتحمل مخاطر الاشتراك في الألعاب، و أني أدرك ان هذا قد يسبب لي عاهة أو يتسبب في موتي. وقعت الإقرار قبل أن أملأ استمارة البيانات. كان الإقرار مليئا بالبنود، إلا أني لم أدقق في قراءته، فقد كنت وصلت الي حالة من اللامبالاة قل إن تتواجد، فلو صرخ الناس من حولي أن المبني ينهار لما كلفت نفسي عناء الجري لأخرج منه.

قدمت الفتاة الي بطاقة زرقاء اللون كتب عليها بحروف ذهبية "لاعب جديد"، و تحتها كتب أسمي بخط صغير.

 

-"يمكنك أن تمر علينا يوم السبت القادم في العاشرة صباحا لتقابل المنسق من أجل الاتفاق على التدريبات؟

-"المنسق"؟

-"نعم، منسق المعارك"؟

 

حتى المعارك صار لها منسق. و كأنها حديقة أو مسرح.. .

 

-" و أي تدريبات تقصدين"؟

-"تدريبات الأسلحة. سيقومون بتدريبكم على استخدام الأسلحة فلن تتقاتلوا بأيديكم. هذه ليست مصارعة حرة أو مباراة كاراتيه إن لم تكن قد انتبهت لهذا".

 

عظيم. بالإضافة الي عملها كآلة استقبال، هذه الفتاة ذات الوجه الحجري يمكنها السخرية أيضا. اليوم هو الثلاثاء. مازال امامي بضعة أيام قبل الموعد المنشود.

في يوم السبت توجهت الي الشركة من و انا أحمل البطاقة في جيبي. توجهت الي مكتب الاستقبال. نفس الفتاة تجلس عليه كما كانت يوم الثلاثاء. توجهت اليها و في الية قدمت الي استمارة البيانات والإقرار من جديد. إنها مبرمجة إذاً.

 

قلت لها في شيء من السخرية و انا أخرج لها البطاقة الزرقاء:

 

-"انا هنا من أجل مقابلة منسق المعارك. لقد كنت هنا يوم الثلاثاء الماضي و ملأت هذه الأوراق".

-"الدور الثالث. المصعد في اخر الردهة الي اليسار".

 

قالتها في شيء من الضيق دون أن تنظر في البطاقة و قد أحنقتها لهجة السخرية في صوتي. توجهت الي المصعد في، و قبل أن أضغط زر المصعد دلف اليه شخص متوسط الطول، له شعر قصير و فك مربع. كان زيه بسيط يوحي بأنه من اللاعبين الجدد أيضا. قال في شيء من التردد:

 

-"الدور الثالث".

-"هل أنت لاعب جديد؟".

-"نعم. و أنت أيضا؟"

-"نعم".

ضغطت زر المصعد. صعدنا دون أن نتبادل كلمة إضافية.

 

القاعدة الثانية: لا تصادق أي من اللاعبين، فقد تقابله في معركة ما، فإما أن تقتله أو يقتلك هو، و عندها إما أن تكون قد قتلت صديقا أو قُتلت على يد صديق.

 

في الطابق الثالث خرجت من المصعد و خلفي ذلك اللاعب. استوقفت أحد المارين في الطرقة و سألته عن مكتب منسق المعارك. أخبرني أنه أخر مكتب الي اليسار. سرت و ذلك الاخر يسير خلفي دون أي كلمة و قد شعر بعدم رغبتي في الحديث. وصلت الي المكتب المنشود. باب المكتب عليه لافتة كتب عليها "داني جوليان". اسم به رنين غربي واضح.

فتحت الباب دون أن أطرقه. لا يوجد داعي للذوق والأخلاقيات عندما يقوم المرء بالترتيبات اللازمة لقتله.

الغرفة صغيرة بها مكتب أنيق يجلس خلفه شخص طويل أنيق، زنجي الملامح نظر لنا في هدوء ثم قال في هدوء:

 

-"لاعبان جديدان على ما أظن؟"

 

قالها دون ان يبدو في صوته تذمرا من دخولي مكتبه دون استئذان. نطقه به لكنة أجنبية لا تخطئها الأذن. هذا هو سبب اسمه ذو الرنين الغربي إذاً.

 

-"نعم".

-"مرحبا بكما. أنا داني جوليان. منسق المعارك".

 

مد يده مصافحا في ود واضح، كمن يصافح صديقا عزيزا. في البداية شعرت بالغرابة لكون يده دافئة على الرغم من برودة الجو في هذا الوقت من العام، ثم تذكرت أن المبني مكيف بالتدفئة. من الواضح ان نظام التكييف لديهم ممتاز هاهنا.

-"تفضلا بالجلوس".

 

جلسنا على الكرسيين المقابلين لمكتبه. سألنا في ود و هو يمد يده الي زر على مكتبه- غالبا ليستدعي أحد السعاة:

 

-"ماذا تحبان أن تشربا؟".

 

رد ذلك اللاعب الاخر - فيما بعد علمت أن اسمه على - في صوت خافت:

 

-"انا أفضل... ".

-"لا داعي للمشروبات، فهذا ليس حفل ترفيهي على ما أظن".

 

قلتها في برود و سماجة. تجمدت يده في طريقها الي الزر و نظر لي و قد ذهبت الابتسامة عن وجهه لثانية، ثم ابتسم من جديد دون أن يبدو عليه تأثر من فظاظتي الواضحة - يبدو أن الناس في هذا المكان أكثر لطفا من سنوهوايت أو أن هذا سلوك معتاد لدي الكثيرين من المتقدمين للمعارك- و قال:

 

-"يبدو أنك من النوع العملي يا سيد... ".

-"خالد حسني".

- "و انا علي... (لا أذكر اسمه الثاني للأسف)".

 

قالها الاخر في شيء من اللهفة، كطفل يخبر المدرسة باسمه في أول أيامه في المدرسة. يبدو هشاً تماما و مثير للشفقة.

 

-"تشرفنا. كما أخبرتكم، انا منسق المعارك، و هذا يعني أني مسئول عن كل ما يخص هذه المعارك –معارك المبتدئين فقط، المعارك الأكبر لها منسقين آخرين، و عندها يسمون المنسق مخرج... "

 

و كأنها أفلام خيال علمي و ليست عمليات قتل حقيقية. و بالطبع أنت تأمل في ان تكون مخرجا كبيرا في أحد الأيام. أتمنى لك التوفيق.

 

-".. . في البداية سيكون هناك تدريبات على استخدام الأسلحة و بعدها أشرح لكم طبيعة المعركة القادمة، و التي ستكون الشهر القادم. التدريبات ستكون هنا في ساحة التدريب بالشركة. متي يمكنكم البدء بالتدريبات؟"

 

-"الان".

 

قلتها في اقتضاب و حسم. نظر داني الي على منتظرا رده:

 

-"لا مانع من أن نبدأها الآن إن كان الأستاذ خالد يرغب في هذا".

 

-"حسنا. يمكنكم الآن النزول الي ساحة التدريب أسفل المبني و الإلتقاء بمدربيكم. سأصدر تعليماتي إليهم ببدء تدريبكم".

 

ثم قام واقفا وصافحني قائلا:

 

-"أتمنى لكم التوفيق".

 

تتمني لنا التوفيق في أن نقتُل أم أن نُقتَل؟

 

توجد ساحة التدريب أسفل المبني. في الواقع يوجد طابقين أسفل المبني-بالإضافة الي الطابقين المخصصين كمرآب للسيارات - يضم كل منهما ساحة تدريب. ساحتي التدريب تضم ساحات رماية، ساحات جري و حمام سباحة. الساحات مساحتها عملاقة مثل مساحة المبني.

يوجد ثلاثة مدربين هم من سيتولى تدريبنا على استخدام الأسلحة. في الواقع إن كلمة أسلحة تحمل قدرا من المبالغة، فبالنسبة لمجموعة من المبتدئين مثلنا كان التدريب ينحصر في استخدام المسدسات فقط. غالباً لن تكون تدريبات رماية محترفة، فقط سنتعلم كيفية تأمين المسدس، تغيير خزانة الرصاصات و إطلاق النار. كان العرض الذي سنقوم به هو معركة بين المبتدئين و لم تكن مثل هذه المعارك تحظي بشعبية كبيرة لدي الجمهور، لذا كان الاهتمام بها بسيطا. الاهتمام الأكبر يكون للمعارك التي تضم النجوم فقط..

 

بالإضافة الي تدريبات الأسلحة توجد بعد تدريبات اللياقة البدنية البسيطة و التي تنحصر في الجري. التدريبات مقسمة على خمسة أيام. في هذا اليوم لم يكن هناك سواي انا و علي، و لكن في باقي الأيام جاء آخرون.

في هذا اليوم بدأنا التدريبات بتدريبات الجري و القفز. في نهاية اليوم و بينما نحن نتأهب للانصراف، قال لنا أحد المدربين:

 

-" يمكنكما المجيء هنا في أي يوم لمزاولة التدريبات. البطاقات الزرقاء التي لديكم تسمح لكم بدخول صالة التدريب في أي وقت، و لكن لا تتوقعوا منا أن نشرف على كم في أي تدريبات باستثناء الأيام الخمسة المقررة لتدريب اللاعبين الجدد".

 

في الأيام التالية كنت أذهب الي مقر التدريبات يوميا. في الواقع فإن جميع اللاعبين كانوا يزاولون التدريبات يوميا. لم أكن أكتفي بالتدريب فقط، ولكني أضفت شيئا أخر: المعرفة. كنت واثقا من أن المدربين لم يقدموا لنا كل ما يمكن أي يفيدنا. بالتأكيد هناك أشياء أخفوها أو يجهلوها أو تكاسلوا عن تعلى مها لنا...

 

القاعدة الرابعة: لا تثق بأي شخص له أدني علاقة بألعاب الواقع. حين يشارك المرء في عمل مثل هذا فهو إما غبي أو عديم الضمير أو مزيج من هذا و ذاك.

 

كنت أستغل أحد أجهزة الكمبيوتر المهملة في الشركة لأدخل الي شبكة الإنترنت لأبحث عن معلومات أخري قد تفيدني في ما أنا مقدم عليه، الأمر الذي صار عادة لدي حتى اليوم – في الواقع هي أحد أهم الأمور التي صنعت تألقي في هذا المجال.

 

ثالث أيام التدريب كان بداية التدريب على السلاح الذي سنستخدمه في المعركة. في معركة للمبتدئين لن يكون السلاح سوي مسدس بسيط. كان السلاح المستخدم هو مسدس من عيار 9 مم. في اليوم السابق لهذا التدريب كنت قد قرأت كل ما يمكن معرفته عن هذا السلاح من خلال شبكة الإنترنت.

كما توقعت تماما، كان التدريب قاصرا، يتلخص في تأمين المسدس، تغيير خزانة الرصاصات، و كيفية إطلاق النار. هذا التدريب تنقصه نقطتين رئيسيتين: معرفة نقاط القوة والضعف في هذا السلاح، و كيفية إطلاق النار أثناء الحركة. تمرينات الرماية كانت كلها على أهداف ثابتة و أثناء وقوف اللاعبين ثابتين. نحن بصدد دخول معارك قتال، لسنا بصدد دخول أولمبيات الرماية.

كنت أستغل إمكانية استغلال ساحات التدريب لأستكمل ما نقص من التدريبات بنفسي، مستغلا ما تعلمته عن تمرينات الرماية من شبكة الإنترنت. كنت أتدرب على إصابة الأهداف و تغيير خزانة الرصاصات أثناء الحركة.

في أحد المرات سألت أحد المدربين:

 

-"ألا توجد صالات رماية للأهداف المتحركة؟"

 

في البداية اندهش لأني فكرت في هذا. نظر لي طويلا كأنما يقيس مدي معرفتي بالرماية:

 

-"لماذا؟"

ابتسمت بركن فمي و لم أرد. كان سؤالا سخيفا لا إجابة له.

 

-"ليس مسموحا للمبتدئين باستخدامها. ربما عندما ترتفع لمستوي اعلى يمكن أن أدربك على إصابة الأهداف المتحركة".

 

ثم عقب في سماجة:

 

"هذا طبعا إن خرجت حيا من المعركة المقبلة".

-"عندما أدخل صالة رماية الأهداف المتحركة فإني لن أقبل أن تتدرب على يدي، فما بالك بأن تكون مدربي؟ لابد للمرء من مدرب لديه عقل صالح للاستخدام الآدمي إن أردت رأيي".

 

قلتها و أدرت ظهري له دون أن أنتظر رأيه و قد أدركت أنه يكرهني كره الأطفال لطبيب الأسنان، بينما شعرت أنا بشيء من الرضا. هناك أشخاص يشعر المرء بالراحة حين يثير غضبهم، و هذا المدرب كان منهم.

 

في آخر أيام التدريبات و بينما انا أتأهب للانصراف، جاء أحد العاملين بالمبني ليخبرنا أن على اللاعبين الانتظار لأن داني جوليان سيلتقي بهم الآن.

 

بعد خمس دقائق جاء داني جوليان و طلب أن نشكل دائرة حوله حتى يمكننا أن نستمع لما سيقول. فعلنا كما طلب منا و بدأ الكلام. كان يبدو عليه الإرهاق، ربما لأننا في نهاية اليوم، إلا أنه كان متأنقا و كأنما فرغ لتوه من ارتداء ملابسه. كان كلامه تقريريا كمذيعي نشرات الأخبار:

 

-"أهنئكم على إنهاء تدريبات التأهيل لألعاب الواقع. كما تعلمون تقوم الألعاب على فكرة معارك يتم فيها القتال بينكم بأسلحة حقيقية و اخر من يتبقى على قيد الحياة هو الفائز، و هو من يفوز بالجائزة المالية و يتأهل الي مستوي أعلى، و الذي يعني بالطبع معارك أصعب و مقابل مادي أكبر. المعركة القادمة ستكون غدا في ميناء قديم توقف استعماله منذ زمن. بالطبع الميناء سيكون محاطاً بأسوار لمنع أي لاعب من الهرب في أثناء القتال. سيمنح كل منكم مسدسا بالإضافة الي خزانتي رصاصات إضافية. سيتم تثبيت ميكروفونات و كاميرات في ثياب كل منكم. هذا سيمنح المخرج فرصة بث حي للمعركة من خلال ما يراه اي من اللاعبين، هذا بالطبع بالإضافة الي الكاميرات و الميكروفونات المنتشرة في انحاء المكان، و التي تقدم تقريبا تغطية شاملة للمكان. هل لديكم أي أسئلة؟"

 

بالطبع توجد لدي الكثير من الأسئلة لكن لن يقدم لي داني إجابتها. هل سأعيش بعد هذه المخاطرة؟ على الرغم من يأسي التام من الحياة التي لم اري فيها ما يمكن ان يثير أي إغراء في الاستمرار فيها، إلا أني و قد اقترب وقت الجد مازلت أتشبث بالحياة. ربما هو شيء غريزي لا دخل للعقل و المنطق فيه. ربما هو ذلك الأمل الغير مبرر في أن يكون الغد أجمل من اليوم حتى إن كانت كل المؤشرات تشير الي العكس.

هل ستنجح هذه المخاطرة في تغيير هذا الواقع الذي أعيشه؟ و إذا غيرت الواقع، فهل تتركني كما أنا، خالد حسني الذي أعرفه؟ أم أنها تحولني الي شخص اخر لا أعرفه و لكني أخشاه كما أخشى الموت؟

كلها اسئلة لا و لم و لن يوجد لها إجابة لها لدي داني بالطبع.

 

الأخرون كان لديهم أسئلة لا أتذكر معظمها، إلا أني أتذكر سؤال على الذي سأله في ارتباك و استحياء كعادته:

 

-"هل يسمح لنا بملابس مضادة للرصاصات؟"

 

تبادل الجميع نظرات السخرية و الغمزات، و تصاعدت صوت الضحكات المكتومة لأحدهم إلا أن داني لم يبتسم و لم يسخر. فقط وضع عينيه في عيني على و قال له في هدوء:

 

-"و ما فائدة الألعاب إن كان اللاعبين يرتدون ملابس مضادة للرصاص؟"

-"أنا... لم... ".

-"مستر علي، إن اسم العابنا هو العاب الواقع. هذا يعني أن كل ما يراه المشاهد هو واقع بحت، لا مجال للخدع. إذا ما شاهد المتفرج دماء أحد اللاعبين فهي دماء حقيقية، ليست صبغة حمراء. أذا ما شاهد أحد اللاعبين يموت فهو يموت فعلا و ليس تمثيلا. هذا هو ما يجذب الجمهور لها و يعطيها الشعبية الجماهيرية، و إلا فما الذي يميزها عن أفلام السينما؟

 

نظر له على في ذهول و كأنها المرة الأولي التي ينتبه فيها الي هذه الحقيقة. لم يرد على سؤال داني و لم ينتظر هذا الأخير منه ردا. فقط أدار ظهره لنا متوجها الي الباب و قال و هو يغادر المكان:

 

-"نلتقي هنا في الثامنة صباحا غدا".

 

في اليوم التالي استيقظت في السادسة صباحا. جلست على حافة الفراش و تأملت الغرفة حولي في شيء من الحزن. على الرغم من أن الغرفة بسيطة متواضعة الأثاث تساقط طلاؤها في أكثر من موضع، إلا أني اليوم أشعر بأني أحبها. لم يتغير في الغرفة شيء، ولكن التغيير كان فيّ أنا. كنت أتصور أني قد فقدت الحب تجاه أي شيء و أي شخص، إلا أني و قد أقدمت على مخاطرة قد تفقدني حياتي، و جدت أن الأشياء من حولي قد صارت أحب الي نفسي.

طردت هذه الأفكار من رأسي و بدأت في تغيير ثيابي.

ارتديت ثوبا رياضيا رمادي اللون و حذاء رياضيا من اللون ذاته. لقد كلفني الثوب والحذاء كل ما أملك تقريبا، و لكني كنت قد اخترتهما بعناية لسبب معين. مكان المعركة ميناء قديم، بالتأكيد يحتوي على أكوام من المعادن القديمة الصدئة غالبا بسبب الرطوبة، هذه المعادن تتمثل في حاويات النقل و معدات الشحن و المخازن العملاقة. هذا يعني أن اللون الأسود بدرجاته يسيطر على المكان، دعك من أن السماء مليئة بالغيوم في هذا الوقت من العام. هذا الثوب الرمادي يجعل ملاحظتي من مسافة بعيدة شيئا عسيرا. في البداية فكرت في أن أرتدي ثياب سوداء، إلا أن اللون الأسود عادة ما يكون لامعا و تسهل ملاحظته عن بعد.

 

ذهبت الي مبني شركة الألعاب. في صالة التدريبات وجدت داني، و حوله باقي اللاعبين الخمسة. يبدو أني آخر من وصل. كان اللاعبين ملتفين حول داني و هذا يكمل لهم باقي تعلى ماته التي فاتني بعضها- و لكني لا أظنها مهمة:

-"يمكنكم الان تغيير ثيابكم. سيقدم مساعديّ لكم ملابس و أحذية رياضية، فلن تخوضوا الالعاب بثيابكم هذه. الملابس ذات مقاسات مختلفة، فليختر كل منكم المقاس المناسب له".

 

جاء مساعدوه بالملابس. كانت الملابس ذات لون أحمر زاه، و كذلك كانت الأحذية-لا أعلم من اين يمكن للمرء أن يأتي بحذاء أحمر زاه، ولكن يبدو أن شركة الألعاب لها مصادرها الخاصة. يمكن لشخص مصاب بقصر النظر و الإستجماتزم و العشي الليلي و جميع أنواع ضعف البصر تمييز من يرتدي هذه الثياب من مسافة مائة ميل.

اللون الأحمر هو أقل الألوان تشتتاً مع المسافة، و لهذا تكون الأضواء الخلفية للسيارات حمراء، ليمكن تمييزها من مسافة بعيدة. أكاد أقسم أن هذه الحركة متعمدة. لا أعتقد أن حقيقة بسيطة مثل هذه قد غابت عن داني أو من هم خلفه.

 

نظرت في عيني داني و قلت في لهجة متحدية:

 

-"لن ارتدي هذه الثياب".

-"لماذا يا مستر خالد؟ إن هذه الثياب صنعتها إحدى أكبر شركات الأدوات الرياضية في العالم، و هي خفيفة.... "

-"انا أكثر تعودا على ثيابي التي أرتديها الان".

 

نظر لي و كأنما يستشف ما يدور في عقلي. أكاد أجزم أنه أدرك أني فهمت اللعبة التي يلعبونها. إلا أنه رأي أن لا يستمر في المناقشة لكي لا أكشف الأمر أمام الأخرين:

 

-"كما تحب".

 

قام الآخرون بتغيير ثيابهم، ثم ركبنا إحدى حافلات شركة الألعاب لتقلنا الي الميناء القديم.

عندما وصلنا الي الميناء القديم قام موظفو شركة الالعاب بتثبيت الكاميرات الدقيقة و الميكروفونات في ثيابنا، و أعطوا كل منا مسدسا و أدخلوا كل منا من مدخل يختلف عن الاخرين. هذا يعني ان الموضوع سيشمل بعض البحث ايضا. لتضيق دائرة البحث، اعطي داني أوامره بأن تتم اللعبة في نصف الميناء الشرقي فقط، و أمر بتركيب سور شائك مرتفع يفصل بين نصفي الميناء. مازالت المساحة كبيرة، فنحن نتحدث هنا عن ميناء، لا عن فناء مدرسة. لحسن الحظ أن هذا الميناء لم يكن ميناء رئيسيا، لذا فحجمه صغير نسبيا.

المدخل الذي كان مخصصا لي كان في أقصى شرق الميناء. ما أن دخلت منه حتى أغلقه موظفو الشركة بجنازير و قفل عملاق.

فلتبدأ لعبة الموت.

 

عندما دخلت من البوابة وجدت نفسي بجوار مخزن عملاق من طابقين له سقف عبارة عن بعض الالواح معدنية المثبتة ببعضها. في البداية فكرت في الاختباء في هذا المخزن و استخدام إحدى نوافذ الطابق العلوي لإطلاق النار و اصطياد من يمر بجواره، ولكني تخليت عن الفكرة سريعا، إذ أن هذا المخزن في طرف الميناء و لن يمر أحد بجواره، دعك من أن المخزن مغلق ولا أعرف وسيلة لفتحه.

 

قررت أن أسير على طرف الميناء الشمالي المطل على البحر. هذا يجعل أحدي الجهات- الشمال- آمنة بالنسبة لي، بدلا من السير في منتصف الميناء، بالإضافة الي ان هذا يجعل الشمس في عيني من يحاول إصابتي مما يجعل التصويب على صعبا.

 

بعد خمس دقائق سمعت صوت طلقات رصاص و صرخات. لقد انخفض عدد المنافسين الي أربع.

بعد خمس دقائق أخري من السير لمحت لاعبا يعبر ساحة واسعة على مسافة بعيدة مني- لمحته بفضل الزي الأحمر- و لكنه لم ينتبه إلي. اسرعت بالاختباء خلف كومة من الإطارات كنت أمر بجوارها لكي لا يراني. تأهبت لمباغتته و لكني لمحت من يختبئ على سطح أحدي الحاويات المعدنية العملاقة المستخدمة في نقل البضائع. كانت الحاوية في نفس الساحة الكبيرة، و كان اللاعب المختبئ أعلاها يحكم التصويب لكي يصيب ذلك الذي يعبر الساحة. كان هذا خطأً قاتلا.

لكل سلاح يوجد ما يسمي بمدي الفاعلية الأقصى (Maximum effective range)، و هو أقصي مسافة يمكن منها إصابة هدف في حجم الجسم الادمي باستخدام هذا السلاح إذا كان المستخدم جندي متوسط المستوي، و يعتبر هذا مقياسا لمدي دقة إصابة السلاح و شدة الرصاصات. المسدسات من عيار ال 9 مم – مثل التي معنا- لا يزيد مدي الفاعلية الأقصى لها عن 50 مترا في المعتاد. بالطبع هذه معلومات عرفتها بنفسي و لم يتفضل مدربونا بإخبارنا بها، ربما لأن العاب المبتدئين ليست مهمة أو هو نوع من انعدام الضمير، و الأرجح أنه السبب الأخير.

 

القاعدة الرابعة: لا تثق بأي شخص له أدني علاقة بألعاب الواقع. حين يشارك المرء في عمل مثل هذا فهو إما غبي أو عديم الضمير أو مزيج من هذا و ذاك.

 

 

المشكلة هنا أن المسافة بين اللاعبين كانت لا تقل عن ال 50 مترا. إذا أضفنا لهذا أننا جميعا رماة مبتدئون – أي اننا لا نرقي لمرتبة جندي متوسط المستوي- لوجدت أن احتمالية إصابة اللاعب الذي يعبر الساحة منخفضة جدا. دعك بالطبع من أنه يسير في الساحة، أي انه هدف متحرك و ليس هدف ثابت.

 

راقبت ما يحدث من مكمني، و بالطبع حدث ما توقعته تماما. الرصاصة لم تصب هدفها، كل ما فعلته أنها نبهت الهدف الي ان هناك من يختبئ على الحاوية، و يحاول إصابته. في الواقع كان رد فعله سريع، فأخد يجري سريعا باتجاه الحاوية.

اللاعب الذي كان على الحاوية ارتبك حين وجد من يعدو باتجاهه، فأطلق المزيد من الرصاصات و لكن أي منها لم يصب هدفه طبعا. في النهاية فقد أعصابه و قفز من فوق الحاوية. لم تكن القفزة هينة في الواقع، فالحاوية ارتفاعها يقترب من الخمسة أمتار، لذا فقد سقط على الأرض، حاول أن يقوم مسرعا إلا أني كنت أعرف الباقي لذا فبدأت أتحرك من مكاني.

بعد لحظات سمعت صوت رصاصات و صرخات. بالطبع استغل اللاعب الأخر سقوطه و قتله. هذا شيء بديهي مفروغ منه، إلا أني كنت أخطط لأن أباغت القاتل الآن، بعد أن هدأت أعصابه نسبيا و غالبا سيكون قد فقد بعض من حذره.

 

درت حول الساحة فرأيته يقترب من اللاعب القتيل، غالبا ليفحصه. رفعت زر تأمين المسدس و جذبت إبرة الإطلاق. في هذا النوع من المسدسات يجب جذب إبرة الإطلاق قبل إطلاق أول رصاصة. هذا يشكل مع زر التأمين نظام تأمين مزدوج لمنع انطلاق الرصاصة بطريق الخطأ.

اقتربت منه من خلفه و هو يفحص القتيل و لكن يبدو أنه سمع صوت خطواتي و أنا أقترب منه فحاول الاستدارة، إلا أني كنت على مسافة أقل بقليل من الأمتار العشرة منه فجذبت الزناد مرتين.

 

الإنسان يموت بصعوبة، فباستثناء بعد الأماكن القليلة في الجسم، لا يمكنك إصابة إنسان و قتله في لحظة واحدة. حين دار ذلك اللاعب حول نفسه محاولا إصابتي ارتبكت و لم أصوب الرصاصة الي مكان معين في جسده. فقط جذبت الزناد مرتين. أصابته الرصاصات صدره و بطنه، فسقط أرضا.

كانت هذه أول مرة أري فيها شخص مصاب بالرصاصات. سقط أرضا و جراحه تنزف بغزارة و حاول أن يقول شيئا ما. لم أستطع تبين الحروف، فقد كان يتكلم في صعوبة شديدة. في خلال لحظات بدأ جسده يرتجف و بدأت الدموع تسيل من عينيه. لا أدري أهي دموع الألم، أم دموع الحزن على حياته التي يعيش اخر لحظاتها الآن، أم هي دموع الخوف من الموت الذي ينتظره في خلال لحظات.

 

كان مظهره مثيرا للشفقة و الحزن الي درجة رهيبة. في الواقع لم أتصور أني في يوم من الأيام قد أحمل هذا الكم من الشفقة تجاه أي شخص أيا ما كانت الظروف، إلا أن منظره و هو يرتجف و يبكي كان صعبا. لم أتصور أن يمتلك هذا المسدس الصغير تلك المقدرة الرهيبة على إحداث هذا الكم من الأذى.

 

القاعدة الخامسة: لا تطيل النظر الي ضحيتك. العاب الواقع صعبة على النفس فلا تزيدها صعوبة.

 

انتبهت على صوت خطوات قريبة مني، و في لحظة أدركت ما حدث. لقد استغل أحدهم انشغالي في مراقبة ذلك المصاب ليقترب مني و يصيبني. في الواقع هذا هو نفس ما فعلته أنا تقريبا. أثناء تأثري بمراقبة ذلك المصاب، خفضت يدي التي تحمل المسدس و غابت حواسي. لقد ضاعت فرصتي.

 

التفت الي الخلف بهدوء. هذا هو اللاعب الأخير، فلقد مات ثلاثة لاعبين حتى الآن، لم يبقي سواي و هو.

كان هذا الأخير هو علي. نظر لي نظرة متعبة و مسدسه مرفوع في وجهي، و كأنما يستجمع قواه لجذب الزناد، ثم أغلق عينيه و جذب الزناد.

 

بالطبع لم يحدث شيء. لقد نسي أن يجذب إبرة الإطلاق، ربما بسبب ارتباكه الأبدي أو قلة خبرته باستخدام الأسلحة.

 

في هذا النوع من المسدسات يجب جذب إبرة الإطلاق قبل إطلاق أول رصاصة. هذا يشكل مع زر التأمين نظام تأمين مزدوج لمنع انطلاق الرصاصة بطريق الخطأ.

 

فتح على عينيه في رعب و نظر الي المسدس و فطن الي السبب. لم يحاول أن يجذب إبرة الإطلاق، بل ألقي المسدس من يده و غطي وجهه بعينيه. لقد احترقت أعصابه، إذ لم تحتمل كل هذا الضغط الذي ربما لم يتعرض له منذ ولد.

رفعت مسدسي الي رأسه وأطلقت النار. بهذا انا الفائز.

كانت هذه أول و أصعب لعبة لي. و في أعماقي زاد شعور بأن الطريق الجديد الذي اخترته لحياتي ليس أسهل أو أفضل من باقي الطرق كما كنت أتصور، إلا أني في نفس الوقت شعرت أني سأستمر في هذا الطريق.