بعد أن سجلت الحوار مع رئيس تحرير تلك المجلة بيومين، و بينما كنا أنا و سارة نتناول الغذاء الذي أعدته السيدة أمينة، دق جرس الباب. فتحت الباب لأجد أكرم لدي الباب بصحبة زوجته. أخذتي المفاجأة فوقفت للحظة متردداً ولكنه لم يترك لي وقتاً للتردد، إذ أنه احتضنني بشدة و أخذ يبكي و يقول كلاماً كثيراً تقطعه دموعه مما منعني من أن أفهم منه شيئاً، بينما وقفت زوجته تراقب هذا المشهد و السعادة تعلو وجهها. لم أعتقد أن رئيس التحرير سيقوم بنشر المقال بهذه السرعة. و حتى إن كان نشره، فلن يقرأه أكرم، فهو لا يتابع مثل هذه المجلات.
بعد أن هدأ أكرم قليلاً دخلنا جميعاً و جلسنا في بهو الاستقبال و جاءت سارة لتجلس معنا. في الواقع هي لم تجلس معنا، هي فقط دخلت بهو الاستقبال فتجاهلت أكرم و تجاهلتني و اتجهت بخطوات سريعة الي حنان زوجة أكرم. يبدو أنها نجحت في أن تكتسب الكثير من صداقتها في الزيارة السابقة. لا بأس، أعتقد أن الفتاة تجد فيها شيء من لمسة الأم التي لم تشعر بها يوماً.
قلت لها في شيء من العتاب:
-"ألن تأتي لتسلمي على ضيفنا يا سارة"؟
كانت حنان قد أجلستها على ساقيها مثل المرة السابقة و طوقت خصرها بذراعيها. نظرت سارة الي أكرم ثم هزت رأسها بالنفي. انفجرنا جميعاً في الضحك و قال أكرم:
-"لماذا ذهبتي إذاً لتسلمي على حنان؟ هل هي أفضل مني"؟
هزت سارة رأسها بالإيجاب. ضحكنا مرة أخري و قلت لأكرم:
-"لا تحاول معها يا أكرم، فالأطفال يتميزون بالصراحة. دعك من أنها ذكية و أحسنت الاختبار فلا شيء فيك يمكن أن يثير شغف طفلة في هذا السن – ولا في أي سن إن شئت الصراحة. بالله على ك إن كنت أنت طفلاً و طلبت منك أن تختار بين شخص مثلك و بين حنان، فمن تختار؟"
-"هذا الموقف لن يحدث لأنه لا يوجد من يشبهني. أنا عملة نادرة لا يوجد منها نسختين. لست وحدي، بل كل العباقرة لن تجد لهم شبيهاً. أيمكنك أن تجد شخصاً مثل أينشتين مثلاً؟ بالطبع لا. و كذلك أنا لا يمكنك أن تجد من هو مثلي".
-"أتعلم يا أكرم أن الموقف الذي قلته أنا مستحيل أن يحدث حقاً. ليس للأسباب التي ذكرتها أنت و التي لا تنم عن أنك تتحلي بالتواضع، بل لأنك لم تكن طفلاً في أحد الأيام يا أكرم. يخيل الي أنك ولدت و عمرك عشرون عاماً".
ضحكت حنان و قالت:
-"معك حق في هذه النقطة".
ضحكنا سوياً للحظات ثم بعد قليل من الصمت قلت لأكرم:
-"كيف عرفت بالموضوع يا أكرم؟ أعني أنك لا تتابع مثل هذه المجلات عادة.
-"الخبر ملأ الشوارع ونقلته كل المجلات و الصحف بالأمس. في البداية أنا لم أصدق و ظننت أنها فرقعة صحفية من مجلة بلهاء، ولكني سمعت الحوار بنفسي و لم أصدق إلا حين سمعت صوتك في .... ".
-"أي حوار هذا الذي سمعته؟"
-"الحوار الذي كان بينك و بين رئيس تحرير تلك الصحيفة. هل كان الحوار ملفقاً أم... ".
-"هل قام رئيس التحرير بإذاعة الحوار المسجل بيني و بينه"؟
-"لم يذيعه بل أرفقه بعدد المجلة الذي نشر فيه الحوار. لقد كتب في مقدمة المقال أن أحداً لن يصدق هذه التصريحات لذا أرفق بها التسجيل الصوتي على قرص مدمج. لقد أصدر نسخة خاصة من المجلة، فهذه المجلة شهرية، و ميعاد صدور العدد الجديد بعد أسبوع، إلا أنه أصدر عدداً خاصاً لنشر تصريحاتك".
-"ليس لدي أدني فكرة أن كل هذا قد حدث في اليومين الماضيين".
-"هل كنت نائما في الكهف؟ لقد نشر الخبر و أذيع في جميع وسائل الإعلام و لا أحد يصدق ما حدث. ليس فقط لأنك اعتزلت، بل لأن المبرر الذي اعتزلت لأجله لم يكن متوقعاً إطلاقاً".
ثم صمت للحظة ثم قال بصوت مضطرب:
-"لم أصدق أذني حين سمعت هذا الحوار. لقد قمت بشراء تلك المجلة خصيصاً لأسمعه. أنا كنت أتمنى هذه الخطوة منذ زمن ولكن عندما سمعت صوتك و سمعت ما قلته لم أستطع أن.... ".
ثم غلبه الانفعال فلم يكمل عبارته فقلت له:
-"الحمد لله أن وفقني لهذا. ولكنها خطوة تأخرت كثيراً للأسف".
قالت حنان في لهجة متعاطفة:
-"المهم أنك قمت بها. لم أستغرب الأمر حين سمعته، إذ أني كنت أتوقع منك شيئاً مماثلاً بعد ما فعلته مع سارة".
استمرت هذه الزيارة حتى وقت متأخر من الليل، يسودها جو عام من السعادة و المرح. بالإضافة الي فرحتي بما وفقني الله لفعله، كنت أشعر بالسعادة لسبب آخر، هو أن أكرم قد عاد كما كان في الماضي، يمزح و يضحك بدون ذلك التحفظ الذي ساد علاقتنا منذ دخلت عالم العاب الواقع. يبدو لي و كأن مئات السنوات قد مرت منذ آخر مرة رأيت أكرم يمزح أو يضحك في وجودي.
بالإضافة الي مشاعر السعادة التي كانت تغمرني كنت أشعر بالتوتر. تري لماذا لم يتصل رفاييل بي حتى الآن مادام الأمر قد صار معروفاً للجميع؟ كنت أخاف من رد فعل رفاييل لقرار مثل هذا، ولكن الأمر الأكثر إثارة للمخاوف هو أن لا يبدي رد فعل للموضوع. هذا يعني أنه يدبر شيئاً ما. لن يكون رد فعل عادياً بل رد فعل مخطط له و منفذ بعناية. فلنرى ما ستأتي به الأيام.
في نهاية الزيارة و بينما أكرم و حنان يتأهبان للانصراف، سألني أكرم:
-"ما هي خطوتك التالية يا خالد"؟
ضحكت و قلت:
-"هذا هو نفس السؤال الذي القاه على رئيس التحرير. يبدو أن هذا السؤال أهم مما كنت أتصور. ألم تسمع إجابتي عليه؟
-"سمعتها ولكنها بدت لي نوع من الهرب من السؤال بطريقة ناعمة. أعتقد أن لديك خطة ما للمستقبل".
-"لن تصدقني إن قلت لك أنه ليست لدي أي خطط. لقد انشغلت بفكرة أن أعتزل الألعاب. لم يكن قراراً سهلاً على بأي حال من الأحوال، ولكني اتخذته و الحمد لله. على أن أبدأ في التفكير للمستقبل. غالباً ما سأحتاج اليك لتفكر معي في هذه النقطة".
-"لا بأس، ولكن لا داعي لأن تطلب مني أن أفكر معك في الصباح الباكر، مثلما جئت تعرض على فكرة رعايتك لسارة قبل أن أتناول إفطاري.
-"يا لك من فجع. مازلت تشعر بالأسي لأني حرمتك وجبة إفطار منذ شهر تقريباً".
انتهت الزيارة و انصرف أكرم بصحبة زوجته، بعد أن تعهدا لسارة أن يكررا الزيارة قريباً، فقد تمسكت سارة للغاية بحنان زوجة أكرم و رفضت أن تنصرف حنان. لم تبال بأكرم إطلاقاً، كل ما أهمها هو أن تبقي حنان معها. بصعوبة شديدة أقنعناها بأن تترك حنان تذهب الي منزلها بعد أن تعهد أكرم و أقسم بالأيمان المغلظة أنهم سيكررون الزيارة قريباً.